صفحات العالم

الحرب الكونية ضد الإرهاب أعلى مراحل الاستعمار/ فواز طرابلسي

 

 

تكثر التقديرات والتحليلات بصدد قرار التدخل العسكري الروسي في سورية. ما لم يقل عنه بما فيه الكفاية انه يتم على ارض مرسومة سلفاً من الولايات المتحدة الأمريكية هي حربها الكونية على الإرهاب وقد باتت اولوية الاوليات في قسم من العالم ومفروضة على الاقسام الاخرى.

تنضم روسية هنا إلى المنافسة لاثبات قدرتها على ان تحقق ـ في سورية وإن امكن في العراق ـ ما عجزت عنه سائر المحاولات، اي لتعوّض عن فشل الغارات الجوية الأمريكية وعن فشل الحرب البرية الإيرانية المباشرة او بواسطة الميليشيات واللبنانية والعرقية والافغانية والباكستانية.

في خضم هذه المنافسة، تم انتقال روسيا المفاجيء من معارضة للحل العسكري الأمريكي ومن داعية التسوية السياسية للازمة السورية، إلى طرف يجاهر بتصميمه على الحسم في حل حربي دموي. ولكن، من خرّب على روسيا حلولها السياسية ـ على افتراض انها حلول – غير بشار الاسد ذاته، وهو الذي لم يترك قائداً لـ»المعارضة الداخلية» السورية التي ترعاها موسكو إلا خطفه او اعتقله او أبعده من سورية، ولو كان نائبا لرئيس الوزراء السوري، الذي هو مرشح روسيا الاول لرئاسة الحكومة الانتقالية. فها هو فلاديمير بوتين يكافيء الاسد على تخريب كل جهوده الدبلوماسية السياسية التفاوضية، بأن يعلن الحرب إلى جانبه، ضد كل معارضيه، على اعتبارهم إرهابيين.

ومن غرائب هذا التدخل ان موسكو عمّدت الجيش السوري عنصرا اساسيا في «الحل» في الوقت الذي تتدخل فيه بقدرات عسكرية صادمة ومستعجلة بغرض معلن هو منع سقوط دمشق التي لم يستطع هذا «العنصر الاساسي» في منع سقوطها على ما يبدو.

ليس يسمح ما رشح من موقف أمريكي تجاه هذا التدخل ان نقول عنه انه لا يزال تقريبا يكتفي بالقول إن الولايات المتحدة لن تعرقله، وسوف تنسق معه عسكريا. لكن الجديد ان رقصة تقريب وجهات النظر من موضوع مستقبل الاسد تشي بأن الطرفين، الأمريكي والروسي، ومعهما جوقة القوى الغربية، تتقارب في تصوّر لحل قائم على نظام رئاسي يقوده حاكم فرد يكاد ان يحتكر السلطة التنفيذية على حساب تهميش الحكومات المسماة ائتلافية. اي انهم في صدد تحويل اسباب الازمة إلى حل، بمعزل عن ان ما موضوع البحث هو كامل النظام السوري بآلياته ومؤسساته العسكرية والامنية والسياسية. كل هذا في الوقت الذي يصوّت فيه نصف الشعب السوري، بالأرجل والغرق في البحر والذل على الحدود، ضد هذا الحاكم وضد نظامه في اوسع عملية تهجير شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. حتى لا نتحدث عن الباقين والعاجزين عن المغادرة.

على صعيد آخر، يلفت سعي بوتين الحثيث للتنسيق مع اسرائيل بشأن مهماته العسكرية السورية. لعل موسكو اعترفت بحق الطيران الاسرائيلي في التدخل في الاجواء السورية على السورية – الاسرائيلية خلال زيارة نتنياهو لموسكو. لكن الراجح انها اجلّت ما يتعلّق بالتصدي الاسرائيلي لنقل حزب الله لـ»الاسلحة الكاسرة للتوازن» عبر الحدود، لما يتفق عليه خلال التنسيق العسكري بين الطرفين؟ ومع انه يصعب التكهّن إلى ماذا توصل الطرفان في صدد ما اثاره نتنياهو، ومرافقوه العسكريون، عن صواريخ حزب الله بعيدة المدى، إلا انه يمكن الاكتفاء بالتوقف عندما ما قاله تنياهو لبوتين من ان «لا مشكلة لنا مع الاسد» وقد اطلع رئيس وزراء اسرائيل ولا شك على ما كرره بشار الاسد مؤخرا ان «المعركة الآن هي مع الإرهاب وليست مع اسرائيل».

كل هذا في وقت تدور فيه مواجهات عنيفة في الاراضي الفلسطينية ضد عنف القوات الاسرائيلية والمستوطنين، وتعدياتها، إذ يكثر الحديث عن إمكان تحول الهبّة الشعبية الفلسطينية إلى انتفاضة جديدة. ولما كان الحديث هو عن الإرهاب، يثور سؤال ساذج متكرر: المستوطنون الاسرائيليون، المنظمون في ميليشيات مدججة بالسلاح، إلا تنطيق عليهم كل المواصفات الدولية ـ بما فيها الأمريكية والروسية والاوروبية ـ للإرهاب؟ إذا كان الامر كذلك، فلماذا لا يرتفع صوت اممي او دولي اقليمي او عربي، للمطالبة بحلّ هذه الميليشيات اليهودية الاصولية العنصرية التكفيرية ونزع سلاحها؟

مضى على اعلان الحرب الكونية ضد الإرهاب دزينة من السنوات. لم يكتف قادتها الأمريكيون وحلفاؤهم بمن فيهم العرب، بتبشيرنا بأنها حرب بلا نهاية، بل نجحوا في تدمير ثلاث بلدان تحت احجار رحى هذه الحرب، فيما قوى الإرهاب تتسع رقعتها وتنتقل من العمليات الإرهابية المعزولة لتتحول إلى جيوش وادارات ومافيات تسيطر على اجزاء كاملة من بلادنا. فما الذي يسمح لأي ذي رجاحة عقل أن يقتنع بأن طائرات الموت الروسية المنضمة إلى طائرات الموت الأمريكية، في سماء سورية والعراق، وما يقابلها من جيوش مفككة وميليشيات على الارض، سوف تنجح في ان تحسم مصير الحرب في غضون اشهر بوتين الاربعة؟

باسم هذه الحرب الكونية ضد الإرهاب اندلعت حروب اهلية وانتهكت سيادة بلدان؛ وتعسكرت المنطقة فوق ما هي معسكرة؛ ومعها تعسكرت الحلول وانتهت السياسة. وهذا ما لدينا: حروب مستدامة، بدلا من تنمية مستدامة؛ وثراء فاحش مع تنامي الفقر؛ وإحسان يلغي الحقوق بدلا من عدالة اجتماعية تعالج الفوارق الاجتماعية والمناطقية الفاغرة؛ وسرقة مستقبل المنطقة واهلها من خلال نهب مواردها والثروات لتمويل حروب لا يربح منها إلا تجار الاسلحة وصانعوها في الدول الغربية؛ وبحجة هذه الحرب ذاتها، يجري تجديد لأنظمة استبدادية ثارت عليها شعوبها، بواسطة تصفية دماء شعوبها وتدمير بلادها، وتهجير سكانها، والحجة هي اغرب الحجج: هذه الانظمة قوية عسكرياً وامنيآً. وفوق ذلك كله تجري افناء جيل، وربما اكثر، من الشباب، إذ يجري معس اماله وتطلعاته وحقه في العلم والعمل والحياة الحرّة الكريمة.

لقد نمت الحركات الجهادية في الشقوق التي خلّفتها علميات التحديث النابذ والفاشل، على امتداد ربع القرن الاخير، وتغذّت من تهميش الاطراف والارياف والبوادي وتغليب المدينة عليها جميعاً؛ وعاشت، ولا تزال، على يأس الشباب المحروم والعاطل عن العمل والمعدوم الافق وعلى مظلوميات الجماعات. وبدلا من «تجفيف منابع الإرهاب» وعزل الجهاديين والإرهابيين عن «بيئاتهم الحاضنة»، وهي تكتيكات معروفة في الحروب الاستعمارية ضد حركات التحرر، يجري تدمير تلك البيئات وتهجير سكانها.

هذه هي مقوّمات نمط من الاستعمار متعدد الرؤوس يطبق علينا بوجهه الابشع: الطائرة الحربية والسلاح الصاروخي والمدفعي والميليشيات المذهبية من كل الانواع.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى