صفحات الثقافةعلا شيب الدين

الحرب والأنوثة/ علا شيب الدين

“بتمنّى يكون عندي سيارة خاصة إنتقل فيها مع جوزي (زوجي) لجبهات القتال، من شان ما إضطر كل مرّة، إنْحَشَر بسيارة واحدة مع الرجال”. “كتير عليّي هالشّي؟”. بالاستفسار النزِق هذا، أنهت سيدة تقاتل في صفوف الثائرين بحلب، حديثاً مع مراسل إحدى الفضائيات، ذات لقاء، في الشهر الأخير من السنة الفائتة. بدت السيدة كأنها تبذل جهداً في شأن تعريف الآخرين بكونها محافِظة وملتزمة. بدت أيضاً مستاءة من وجودها بين الرجال، إلا أنها في الوقت نفسه، فخورة بقدرتها على القيام بما يقومون به. لطالما أفصحت بتباهٍ، عن تشكيلها كتيبة نسائية مقاتلة. ثمّ، كمَن يعرف هشاشة العنصر الأنثوي في القتال، والأصل الذكوري للحرب، راحت تتكلم عن وجودها بين المقاتلين الرجال، كامرأة يقتصر دورها على “رفع المعنويات القتالية لديهم”.

بينما كنتُ أصغي إلى الكلام الممزوج بالنزق والقلق، المتذبذب بين الاعتزاز بممارسة دورٍ موقوف على الرجل، وعدم التصالح مع هذا الدور، عبر التنبّه إلى الوجود الأنثوي الحميم غير المرغوب في التخلّي عنه لصالح الذكورة المحضة؛ خامرَني شعور غامض، ربما يخامر الكثيرات، بأن ثمة جرحاً في عمق الأنوثة، يحصل عندما تجد المرأة نفسها في غير أجوائها، وبأن الوجود الإنساني بكليته يختلّ، عندما يُعبَث بالأنوثة، ما دامت هذه في حقيقتها، تعاوناً، إنصاتاً، حدساً، بصيرة، ترابطية…؛ غالباً ما لا يروق للمرأة، من حيث هي ظاهرة جمالية، سمعية، الاستماع إلى ضجيج يكلّمها كـ”أختٍ للرجال”: حاربي، صارعي، قاتلي. حتى لو ظهرتِ بمظهر المحارِبة “الراغبة” في القتال.

كان تجنيد نساء وفتيات كرديات، قد أثار في وقت مضى، جدلاً إعلامياً بين مؤيد له ومعارض، من سوريين كرد، قدّم كل طرف آنذاك، حججاً يسند إليها موقفه. بشكل عام، ينطلق الموقف المعارض لعسكرة المرأة، ربما من رغبة عميقة في دوام حضورها، كحضور إنساني، رقيق، لطيف. مشهد نساء مواليات للأسد، على سبيل المثال، أُطلِق عليهن “لبوات الدفاع الوطني”، ظهرن في فيديو وهنّ يقدّمن عرضاً عسكرياً، حاملاتٍ علم سوريا تتوسطه صورة الأسد، يثير اشمئزازاً ونفوراً، من حيث هو اقتياد صريح من جهة النساء، إلى عالم التوحش، وتبديد لمفاهيم من مثل الوطن، البيت، المسكن والسكينة، التي طالما ارتبطت ارتباطاً حميماً بالمرأة وبالخصائص الأنثوية الإنسانية، عبر تحوّل مفهوم المرأة الإنسانة، لبوةً شرسة إلى جانب أسد متوحش، وهنا تكمن المفارقة. إذ تاريخياً وأسطورياً وملحمياً ومفهومياً، ارتبطت المرأة بالحضارة لا التوحش، بالزرع لا القلع، بالوصل لا الفصل. قد يبدو هذا الطراز من النساء “متواضعاً” أمام نساء حربيات شرسات أشدّ خطورة، يقاتلن قتالاً غير مباشر من خلف الكواليس، وكم هي كثيرة الروايات التي ما انفكت تتناهى إلى الأسماع، تتحدث عن دور ما، لنساء من السلطة الأسدية نفسها أو مقرَّبات منها، في صنع قرارات ومواقف تتصل بما يجري في البلاد. من شأن مشهدٍ آخر، كذاك الذي تظهر فيه مدرِّسة تحوّلت قنّاصة في “الجيش الحر”، وهي تسير إلى جانب طلابها المراهقين، ممتشقةً بندقية القنص، أن يثير في النفس حزناً وألماً، وفي العقل تساؤلات حارقة عن مصير كل شيء.

أكتب الكلام الأخير، وأرسم في الآن عينه، صورة في ذهني لشخص غاضب، يطالب بالكفّ عن هذا الترف الفكري، والتفكير في أن النساء في المناطق السورية الثائرة، يُغتصَبن، يُعتقَلن، يُقتَل أبناؤهن، تتحطم أسرهنّ، وتُدمَّر بيوتهنّ، فكيف لا يحقّ لهنّ الدفاع عن أنفسهن إذا ما أتيح ذلك؟! ثم أتخيّلني أقول لـ”شخصي” المفترَض، إن الانتقاص من حق الإنسان رجلاً أكان أم امرأة، في الدفاع عن نفسه، إنْ هو سوى ضرب من لؤمٍ، أزعم عدم الانتماء إليه. لكن، لمّا كانت الثورة في سوريا، اندلعت سلمية وظلّت كذلك، شهوراً طويلة في مواجهة أنواع البطش كافة، ما أجبرها على الولوج في طور العسكرة دفاعاً عن النفس في البداية، قبل أن تغدو لاحقاً في طورٍ آخر، تخوض فيه حرب تحرير حقيقية؛ فإن الجانب السلمي الأصيل فيها، ظلّ مع ذلك، موجوداً بمعنى ما في الأطوار كلها. إلى الجانب المدني السلمي الأصيل هذا، “يجب” أن تبقى المرأة منتمية. لا يعني ذلك، سلبها حقها في الدفاع عن نفسها، إنما المقصود ألا تستحيل كينونة المرأة، كينونة حربية قتالية، من خلال الانخراط الممنهج في ميادين القتال، وتشكيل كتائب نسائية مقاتلة، وامتداد العسكرة النسائية واتساعها، بحيث يمسي المجتمع برمّته، حربياً. حينذاك، لا يعود حضور المرأة، هو نفسه الحضور الذي من شأنه خلق حياة، وإضفاء معنى على واقع يبدو فجّاً خالياً من المعنى، جافّاً، خشناً وقاسياً. في ظروف الحرب يحتاج الناس إلى عقل أنثوي “يحتال” على الواقع. فعندما يُعتقد مثلاً، أن العالم انتهى بسبب الدماء والأشلاء والمجازر والخراب والدمار، والحياة استحالت محض موت، يأتي العقل الأنثوي ليبدِّد قتامة المشهد، ويمنح الحياة معنى جديداً، كونه يجيد الإفلات، في كثير من الأحيان، من سيطرة الخطاب الحربي، وهيمنة خطاب الموت. العقل الأنثوي موجود لدى الرجل أيضاً، غير أنه أكثر وضوحاً لدى المرأة.

2

في وسط حرب ضروس، كالحرب الدائرة في سوريا منذ أعوام، تغدو المحافظة على سلمية المرأة ضرورة، وضماناً من شأنه ربما منع الانهيار الكامل لكل شيء، وحماية أشياء قد تكون صغيرة وهامشية، لكن لها مفعول معقول ومهم. إذ هناك وظائف تضطلع بها المرأة لا يستطيعها الرجل. فليُترك القتال للرجل إذاً، خصوصاً أنه أدقّ من المرأة في التجارب المركَّبة الموجَّهة نحو هدف ما، كتوجيه قذيفة، أو اعتراضها. فالعلاقة بين المرأة والعسكرة هي من الضعف بحيث يصير القتال، حِملاً تنوء به. لذا، في إمكان المرأة أن تبقى ثائرة من أجل الحرية، من خلالها هي، بما ينسجم مع روحها ووعيها بذاتها ككائن حر، من دون ارتداء أقنعة قد تسقط في كل لحظة.

عندما يُراد إهانة الرجل وإذلاله وإحراجه، غالباً ما يُصار إلى نعته بالضعف الأنثوي نفسه الذي تؤطَّر به المرأة دوماً، وتُختزَل فيه. لكن ما يبدو غير معروف هنا، أن القوة المبهمة، الغامضة، التي يتمتع بها النوع الأنثوي، قد لا تكون الفحولة الهادرة، قياساً إليها، سوى مزاح. في ظروف القمع والاضطهاد السائدة في مختلف المدن والبلدات السورية الثائرة المنكوبة، ويوميات القهر الملازم للفقر والمرض والجوع، ربما تكون المرأة بطبعها الأنثوي، أجدر وأقدر من الرجل، على التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، الدقيقة، والمعقدة، كونها أصلاً تجيد التعاطي بحيوية ومرونة، مع كل ما هو عملاني، مشخَّص، وطبيعي. تعلو المرأة، في معظم الأحيان، على المدخلات الممزوجة بالأسى، الآتية من طريق الحواس، من خلال “الحدس” باعتباره وعياً كلياً، فيمكّنها ذلك من الفهم المتعاطف، أحياناً، وإمعان النظر في الوقائع المرعبة، ثم تجاوزها بالفعل، مستبصرةً احتمالات المستقبل، أحياناً أخرى.

المقاربة الأنثوية للواقع هنا، من شأنها ربما حلّ بعض المشكلات اليومية التي قد تبدو أحياناً مستعصية، أو إعادة طرح حلول أو فروض لها، ووهْب أفكار جديدة آسرة متفلتة من التكرار كسِمة ذكورية. يُربَط أي عمل مهما بدا غير ذي أهمية، بالحياة والمتعة والجمال. كأن تغنّي امرأة، بالتزامن مع جمعها أعواد الحطب، برفقة أطفال قد يكونون أبناءها أو أحفادها أو أبناء جيرانها، في ظروف كظروف الحصار (مثلاً)، تكاد تنعدم فيها سبل المعيشة كافة. تضع إبريق شاي (مثلاً)، على الموقد، ثم تضفي على ذلك الفعل بعضاً من روحها المؤنثة، تقصّ على المتحلّقين حول الموقد قصصاً ممتعة، ينسى من خلالها الأطفال والكبار وربما أقاربها من الثوار المقاتلين أيضاً، واقعاً مأسوياً، وإن يكن للحظات. بيد أن هذه اللحظات، على رغم بساطتها، قد تحفر حفراً عميقاً في الذاكرة كخزّان، قد يخرج كل ما فيه لاحقاً، ويُستثمر في كل شيء. جمع الحطب لصنع الشاي هنا، المطروح كمثال بسيط ليس إلا، لا يظلّ عملاً شاقاً، آلياً فحسب، بل يصير فعل خلق، بعدما أُسبغت عليه الحياة. في أوقات الأزمات والمحن، نادراً ما يُلتفت إلى المستوى العاطفي والروحي هذا، عندما يتم التعاطي مع كل شيء وفق المستوى الفيزيقي، الحسّي، السطحيّ، والمرئي فقط.

3

لا يختلف تجنيد المرأة، في معنى ما، عن تجنيد الأطفال. فلما كان هذا الأخير، يمثّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل، فإن تجنيد المرأة يمثّل انتهاكاً للأنوثة وقيمها ومحدداتها، بعيداً من التصور السطحي للأنوثة (جميلة الشكل، مثيرة، ليّنة…).

بثّ ناشطون إعلاميون، في يوم 19 من الشهر الجاري، فيديواً يُظهر جثة لامرأة بزيّ عسكري، تلبس حزاماً ناسفاً، قال الثوار إنها تنتمي إلى تنظيم “داعش”، كانت تريد تفجير نفسها عند معبر “باب السلامة” شمال مدينة حلب، قبل أن يتم إحباط هذه العملية الانتحارية. أمام واقعة كهذه، وغيرها مما يشبهها، قد يجد المرء نفسه، مذهولاً، متسائلاً: لمّا كانت المرأة “خالقة حياة”، كيف تهب نفسها للموت، قاصدة إماتة غيرها معها بهذه الطريقة المرعبة؟! وما الذي يدفعها لكي تكون “صانعة موت” إلى هذا الحد؟! ترى هل كانت هذه المرأة تعاني نقصاً عاطفياً مثلاً، وتشعر أنها غير محبوبة وغير جديرة بالحياة تالياً؟

قد لا نجانب الصواب إن قلنا إن ثمة ذهنية ذكورية، حربية، متسلطة، وقاهرة، تقبع غالباً، خلف عملية تجنيد المرأة. تبدو هذه الذهنية كأنها تسعى إلى نقل المرأة، من شاهد على الجريمة إلى شريك فيها. بذلك، يكون قد تم انتهاج أفضل السبل للتخلص من هذا الكائن الأنثوي المسالم، الرافض للجريمة في أصله وتكوينه. فبعد أن تصبح المرأة شريكاً في الجريمة، لن تجرؤ على الاعتراض على العنف، والاستبداد والظلم، ولن تجرؤ أيضاً على المطالبة بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والحرية والعدالة، خصوصاً أن رأفة المرأة وعاطفتها وحنوّها باتت موضع تحقير. وحدهم الخائفون من المرأة أو من “القوة” الأنثوية، يلجأون إلى هذا الشكل من التآمر والتسلّط على حضورها. إذ الحاجة إلى التسلط وقف على الخائفين.

عندما كنّا تلميذات مراهقات في “سجن عسكري” مُسمّى مدرسة، كانت دروس “التربية العسكرية” (الفتوّة)، خصوصاً دروس الرمي، التي يُجرَّب فيها السلاح “الروسي” فعلياً – السلاح الذي ما كان ليخطر على بالنا، أننا سنكبر يوماً ونراه موجّهاً إلى صدور أبناء بلدنا!- عبر إطلاق الرصاص على “دريئة”، تطبيقاً للدروس النظرية، كانت تشكّل بالنسبة إلى غالبيتنا، همّاً حقيقياً، وكنا نُسِرّ لبعضنا بخجلنا ونفورنا من تهشيم الأنوثة الماثل في قسر الجسد الأنثوي على اتخاذ وضعيات عسكرية تهرق جماله وتريقه. كان ممنوعاً وقتذاك، أي إشارة إلى الأنوثة، مهما كانت هامشية. دبّوس ملوّن يزيَّن به الشعر مثلاً، كان يستدعي صفعة على الخدّ، تتطاير على إثرها عشرات النجوم الحمراء والصفراء أمام العينين المغمضتين، كأن الهندام العسكري الموحَّد بين جميع الطلبة، الإناث والذكور، وإيعازات الـ”استرحْ. استعدْ. ترادَفْ. أسبِلْ”، ومعسكرات “الإنتاج” و”الصاعقة”، لم يكن كافياً لعسكرة العقل والروح والقلب، وكل شيء! الأنوثة المهشّمة في المدرسة، هي نفسها، على كل حال، التي طالما هشَّمتها من قبلُ، تقاليد اجتماعية “تجلّ” المرأة الأم – وفق المفهوم السلطويّ للأمومة- وتخشى المرأة الأنثى، كأن الأنوثة عبء ثقيل ينبغي التخلص منه!

كل أنظمة الاستبداد، السياسية، الدينية، الاجتماعية، كلها… كلها تسعى إلى قهر الأنوثة. نظام هذا العالم البشع، حتماً ليس في منأى من ذلك.

*كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى