صفحات مميزةفنّ و أدب و قضيّةياسين السويحة

الحركة الإبداعيّة في الثورة السورية: إعادة الإحياء


ياسين السويحة

بدأ تجفيف روافد الساحة العامّة السوريّة، سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، منذ اللحظات الأولى لاستيلاء البعث على السلطة بعد انقلاب آذار عام 1963، حيث افتُتحت “مملكة الصمت” بمنع المطبوعات من جرائد ومجلات وحصر النشر الصحافي بيد منتجات البروباغندا الرسمية، وخُنق الأدب والفن عن طريق تقنينه في أوعية ضيّقة ومظلمة ﻻ إيديولوجيا لها إلا الولاء. حينها، وبمباركة مختطفي الدولة والمجتمع، أصبح “الإبداع” مرادفاً للمقدرة على الذهاب في تعبيرات التملّق والنفاق إلى مستويات أعلى فأعلى. إلى هذا تحوّلت سوريا البعث، وهذه هي الحالة التي تعمّقت بعد أن أصبحت “سوريا الأسد”.

ككل جوانب الحياة المجتمعيّة، لم تكن الفنون والآداب في سوريا بخير خلال عهد اﻻستبداد، ﻻ على الصعيد الجماعي وﻻ على المستوى الفردي، فمنع أي نشاط جماعي خارج نطاق المرضي عليه أمنياً تَمفصل مع المحاربة الشديدة التي لقيتها حرّية الإبداع على جميع الأصعدة، فقد خُيّر الفنان أو الأديب بين أن يتحوّل إلى منتج تعبيرات وﻻء أو أن يسجن نفسه في برج عاجي بعيد تماماً عن مجتمعه وهمومه، السياسيّة منها بالدرجة الأولى.

إنتاج تعبيرات الولاء هذه سُمّيت فنّاً “وطنياً”، ولعلّ أكثر تجليات هذه الظاهرة وقاحةً كانت أغنية “منحبك” الشهيرة، والتي سُمّي على أساسها مؤيدو النظام السوري بالـ”منحبكجية”، وعلى غرار أعتى أنظمة الاستبداد في العالم تم تحويل مفاهيم كالـ”فن الملتزم” إلى تعابير غاية في اﻻبتذال في سياق التحوّل نحو ضخ بروباغندا اﻻستبداد وتكريس ثقافة اختطافه للقضايا الكبرى، الوطنية منها وما فوق الوطنيّة.

ثم كانت الثورة..

ظهرت “فنون الثورة” البصرية منها والسماعية منذ الأيام الأولى لانطلاق اﻻحتجاجات الشعبية ضد نظام الاستبداد والقمع، وشكّلت، كالثورة نفسها، انقلاباً شاملاً على ما ساد قبلها، أكان بالشكل أو بالمضمون أو بطريقة النشر، فقد حلّت استقلاليّة الأفكار محلّ الخطاب الإيديولوجي المتخشّب، وسادت اللغة الشبابية البعيدة عن التكلّف بدل التفخيم الخطابي المُلازم لبطانة رؤوس اﻻستبداد، والتي وصفها الكواكبي في كتابه “طبائع اﻻستبداد”، وقفزت وسائل النشر والتوزيع الحداثية، مثل الشبكات اﻻجتماعيّة والمدونات، فوق حواجز التضييق والخنق المتراكمة فوق عقود من الصمت المُقاتِل.

كان على الحركة الإبداعية الملتزمة بثورة السوريين ضد الطغيان أن تواجه تحدياتٍ عدّة، أولها إيجاد طريق القطيعة الكاملة مع الديكتاتورية ومناخاتها وزبائنها بكل المعاني، وثانيها طرد هيمنة الاستبداد الرمزية على الجوانب الثقافية والفكرية السائدة في المجال العام المتصحّر خارجها، وثالثها تفكيك كل “القداسات” التي بناها النظام حول نفسه، بالهيمنة الفكرية القسريّة تارةً، وبالخوف والرعب تارةً أخرى، وربما نحتاج لعددٍ من السنوات قبل أن نستطيع أن نلحظ النجاح الساحق الذي تحقق في هذا المجال.

استطاع شطر كبير من الحركة الإبداعية الثورية تطوير أساليب الفن الساخر في مواجهة آليات الطغيان كافة. نكات وقفشات بدأت بلافتة في مظاهرة، مروراً بكاريكاتير، وليس انتهاءً بمسرحيات مُسجّلة. أصبحت السخرية في سوريا ضرباً من ضروب المقاومة، حيث أن مواجهة آلة قتل ودمار تريد للكآبة أن تسود وأن تكون حليفتها يتم بالسخرية منها، باحتلال ساحة الحياة العامة بالبهجة رغم كل الصعوبات، رغم كلّ الآلام.

تتحلل ثقافة الاستبداد بكلّ أركانها بفعل السخرية منها بنفس الطريقة التي يذوب بها الجليد تحت الشمس الساطعة. إنها شمسُ شعبٍ يريد أن يُمسك بزمام أموره، شمسُ شعبٍ “عارف طريقه”.

يُلاحظ أن الحركة الإبداعية الثورة في سوريا هي، بشكل أساسي، تعبير عن جيل جديد عمراً وتجربةً ومذاهب فنّية، وﻻ يعني هذا الكلام إعلاءً فارغاً لقيمة الشباب كعمر على حساب ظلم مراحل عمرية أخرى، بل أنها تجسيد لأن ما كان في عهد الاستبداد، أدباً وفناً وموسيقى، ﻻ يمكن له أن يستمر، حتى لو كان “نقدياً” حسب مقدراته.

زكريا تامر هو “شيخ الشباب”، بالطبع!

ما نشهده اليوم في الساحة الثقافية والفنّية في سوريا هو بمثابة “عودة الروح لما كان في سُباتٍ استبدادي طويل جداً، وهو عبارة عن مرحلة أولى تسير بوتيرة عالية وجميلة للغاية رغم مناخ العنف المنفلت وما يتولّد عنه من مصاعب وعوائق. لن يكون الطريق صاعداً دوماً، وستكون تموجات الميدان الثقافي غالبة على الخطوط المستقيمة أياً كان اتجاهها، والحماس الثوري قد يصبح فتوراً، ثم يعود حماساً، ثم ينام ليستفيق مجدداً بحلّة جديدة، وهكذاً..

الثقافة والفن مدعوان لأن يكونوا تعابيراً، مباشرة أم ﻻ، لحياة اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة بعيدة عن جمود الاستبداد وتخشّب أزمنته. الثقافة والفن في سوريا مدعوان لأن يكونوا فنّاً وثقافة طبيعيان.. ببساطة.

إنها ثورة من أجل ما هو طبيعي!

ﻻ نعرف بعد من سيكتب الرواية الملحميّة للثورة السورية، وﻻ من سيرسم أو يصمم اللوحة الرمزية الأكبر لها، وﻻ من سيغني “أغنية الثورة” الأهم. ربما ليس هؤﻻء مشهورين بعد، وربما ﻻ يتوقعون هم أنفسهم أن يستطيعوا أن يكتبوا أو يرسموا أو يغنوا أشياء عظيمة كهذه، بل ربما لم يولدوا بعد..!

المستقبل بانتظارهم، ونحن كذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى