صفحات سوريةفارس البحرة

الحرية قبالة سؤالها…/ فارس البحرة

 

 

يصر النظام السوري بإعلامه وتصريحات مسؤوليه على اعتبار دعوة السوريين للحرية وإسقاط النظام جزءاً من مؤامرة عالمية لاقت أرضاً خصبة في دوافع محلية طائفية. وما تضمره هنا مقولة الدوافع الطائفية افتراض تطرف إسلامي سنيّ موجه ضد الطائفة العلوية على وجه الخصوص والأقليات بالعموم. حجة النظام غير المعلنة على ذلك هي، في اعتقادي، أن مطلب الحرية من منظاره دخيل على الثقافة السورية غير أًصيل فيها، سيّما أن النظام بذاته بذل ما في وسعه عبر أكثر من خمسة عقود لاجتثات أي ملمح لهذا المطلب من رؤوس السوريين.

لمّا نَدُر أن يولد السوريون في بيئة يجدون فيها أنفسهم مخيّرين في تدينهم أو علاقاتهم العائلية والعشائرية أو حتى اختياراتهم العاطفية وعلاقتهم مع أجسادهم، اعتبر النظام رفض المجتمع السوري للأسد غير مبرر والدعوة للحرية تجلياً لمؤامرة كونية دوافعها المحلية طائفية ضد العلويين.

لم يغير من الأمر انتماء الثورة السورية إلى سياق مفهوم من الثورات التي عمت المنطقة والتي حرّضها فساد الأنظمة واستبدادها، ولا كون النظام السوري في طليعة هذه الأنظمة فساداً واستبداداً. إذ تكفي في عرف النظام «مقاومته للعدو الصهيوني» لجبّ ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

لم ينشأ شخوص النظام الحاليون في بيئة أكثر تحرراً من تلك التي نشأ فيها معظم مجايليهم من السوريين، هذا إن لم تكن القيم التربوية التي نشأ فيها أولاد حافظ الأسد وأمثالهم من وارثي النفوذ عن آبائهم منطقياً الأكثر بعداً من التحرر في سورية بالمطلق!

بمناصبة العداء والملاحقة المنهجية والتنكيل بكل ما يمت للاختيار الحر بصلة سواء لدى الذات أو الآخر، وعبر سلسلة متطاولة من الخضوع العلني والاستزلام والإتيان ببراهين على الولاء التام وانعدام الرأي الشخصي أو الحس النقدي تجاه الهرمية السلطوية، جرت هيكلة نظام الحكم في سورية. هكذا بات يبدو مطلب الحرية نقضاً كاملاً لأسس الوطنية، في نظام بات، بتغييبه الحرية أيضاً، مطابقاً للدولة وأجهزتها المختلفة.

يكافح رأس النظام للمحافظة على الرأس والترؤّس. بينما مرجعية المقاتلين من مواليه التي تدفع بهم إلى خيار الحياة أو الموت فشعور بالتهديد الوجودي بحكم «المؤامرة الكونية» ضد العلويين بالخصوص والأقليات بالعموم، والخوف الكابوسي من أن يستبدل بالاستبداد العلوي، الذي يرونه في النهاية محدوداً كونه استبداد أقلية ضد أكثرية، باستبداد سنّي، يبدو لهم كارثياً، لا سيّما في ضوء تراث أقلوي شفوي ينقل بصدقية يصعب رصدها أخبار اضطهاد تاريخي متكرر.

لم يزد الموقف المعصوب للنظام من الثورة الطرفين إلا تطيفاً وتعسكراً وتباغضاً، ولم يخطئ في ذلك نظام غاية آماله إطالة أمد حكمه. على رغم ادعاءات الإصلاح والديموقراطية والزعم بوجود رغبة شعبية في استمراره وما إلى ذلك من أكاذيب، تكاد رسالة النظام الجوهرية لا تزيد على طرح كتلة السوريين الكبرى بوصفها مطابقة للطائفة السنية، وتقديم هذه «الطائفة» على أنها تنزلق تلقائياً نحو التطرف فالإرهاب ما إن تُرفع عنها إجراءات وقائية من نموذج رمي الأحياء الفقيرة عشوائياً بالبراميل المتفجرة. فملخص رسالة النظام «الأخلاقية» الوحيدة ترسيخ العنصرية العالمية تجاه الإسلام، وتخصيصها بالإسلام السنّي.

لقد فقد النظام إلى حد بعيد قدرته على قيادة مقدرات البلاد والتحكم بالعباد، ما احتفظ به هو موهبة استجرار معارضيه إلى الميادين التي يتقن العراك والفوز فيها. فإذا كان النظام يرعى الطائفية ويرى في نزاعاتها الخلفية الأنسب لبقائه، فليس الأمر كذلك بالنسبة لغالبية السوريين. لن يفوز السوريون في حرب ذات شعارات وأهداف طائفية. فلا يملك سنّة سورية قوام الطائفة ولا عقدها التاريخية ولا ما يسم العلاقة الخاصة لأبنائها بها. يكمن مستقبل السنّة السوريين في التخلي عن سنيتهم الطارئة واستعادتهم لدورهم التاريخي في حمل المشروع الوطني السوري العام. فلن تقوم لكتلة السوريين قائمة بوصفها محايثة للطائفة السنية، وإنما بوصفها الحاضنة البشرية لمجموع مواطنين من طيف واسع وانتماءات فكرية وسياسية مختلفة الألوان. لا حل لمشكلة السوريين في أرض الصراع السنّي – الشيعي، إنما في ما وراء ذلك: أرض العقل والعلم والفكر والثقافة والتعدد والعدل وصيانة الحريات وسيادة القانون، وربما أرض الدين والإيمان أيضاً، لكن ليس على أرض الطوائف وتناحرها.

إذا كان «الحل الأمني» كما يحلو للنظام أن يسمي حربه ضد شعبه هو ما تفتقت عنه عبقريته أمام «الفتنة الطائفية» التي لم يجد غيرها سبباً لدعوى السوريين للحرية، فالأحرى بالسوريين أنفسهم أن يجيبوا عن سؤال الحرية الذي طرح نفسه عليهم في لحظة عبقرية جمعية بالتحرر لا بالتطيّف. أن يسائلوا انتماءاتهم الطائفية والعائلية والسياسية والجسدية والعاطفية أيضاً. أن يكون أساس مواقفهم الاختيار الحر المتفكّر بذاته حقاً وفعلاً. التحرر والحرية حتى قبالة سؤالها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى