صفحات العالم

الحريري يتذكّر حماه: تصفية حساب متأخّرة


لم يحمل الموقف الأخير للرئيس سعد الحريري من سوريا وقع الصدمة. بين الرجلين تصفية حساب متأخرة. أخرجه الرئيس بشّار الأسد من رئاسة الحكومة، فتذكّر الحريري حماه. ضرب الأسد زعيم السنّة وأقصاه من السلطة، فانضم الحريري إلى نكء جروح سنّة حماه

نقولا ناصيف

لأول مرة، اتخذ الرئيس سعد الحريري موقفاً من الأحداث المتدهورة في سوريا، في الشهر الخامس على اندلاعها. في مقابلته التلفزيونية الأخيرة في 12 تموز، أرسل إشارة صريحة إلى طيّ صفحة مصالحته مع الرئيس السوري بشّار الأسد عندما اتهمه والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بإسقاط حكومته وإطاحته من رئاسة الحكومة. أرسل في المقابلة نفسها إشارة أولى خجولة إلى أحداث سوريا بتأكيد تعاطفه مع التحرّك الشعبي هناك، وقال إن ما يلحق بالشعب السوري ظلم، ولا يمكن اتهامه بالتخريب، واصفاً ما يحدث بجريمة.

على مرّ الأشهر المنصرمة، حاذر الحريري ما أقدم عليه حلفاؤه في تيّار المستقبل، كما في قوى 14 آذار، وتجنّب التعليق على أحداث سوريا واتخاذ موقف من الأسد والطريقة التي يقارب بها ما يحدث في بلاده. وعندما اتهمت دمشق تيّاره بالتدخّل في شؤونها وزعزعة الاستقرار، وإمداد المعارضين السوريين بالسلاح والمسلحين، اكتفى بالصمت، بينما نفى التيّار وكذلك الحلفاء الاتهامات. وحينما انفجر النزاع المسلح على مقربة من الحدود اللبنانية ـــــ السورية شمالاً في تلكلخ، أنكر التيّار أي دور له فيها، من غير أن يخفي تعاطفه مع معارضي النظام، وطلبه إلى السلطات اللبنانية حماية اللاجئين ومنع تسليمهم لبلادهم، على نحو تسليم ثلاثة جنود سوريين لسلطاتها. نأى الحريري بنفسه عن كل هذه التطورات منذ غادر لبنان في إجازة طويلة في منتصف نيسان الماضي.

بيد أن ما أصدره الأحد بلسان مكتبه الإعلامي، أخرج إلى العلن المواجهة مع نظام الأسد. في موقفه هذا، أطلق الحريري عبارات لم يحبّذها بعض المحيطين به وتمنّوا التخلي عنها، وتركزت على وصفه النزاع الدموي بالمذبحة، وعلى التذكير بحماه وما شهدته عام 1982 على يد الجيش السوري. وكان الرجلان الأكثر التصاقاً بتلك الأحداث ـــــ إلى الرئيس حافظ الأسد ـــــ الأكثر وفاءً للنظام آنذاك، ومثّلا التغطية العسكرية والمذهبية لتلك الأحداث، وأمسيا اليوم أعتى المعارضين للأسد الابن، وهما الوزير عبد الحليم خدّام وقائد سرايا الدفاع شقيق الرئيس رفعت الأسد. كلاهما صار يدعو إلى إسقاط نظام الأسد.

لكن النبرة العالية التي طبعت التصريح الأخير للحريري، أبرزت ملاحظات منها:

1 ـــــ عودته بالعلاقة مع سوريا إلى النقطة الصفر على نحو ما كانت عليه، وخصوصاً بين عامي 2005 و2008. ورغم قصر موقفه على شأن سوري محض هو الاضطرابات الجارية هناك، من غير أن يلامس أمراً يتصل بعلاقات البلدين أو بالموقف من المحكمة الدولية، تجاوز الحريري، بتركيزه على أحداث حماه، القطيعة مع الأسد إلى التعامل مع نظامه على أنه انتهى أو يكاد.

يلتقي على هذا الموقف أكثر من فريق من المحيطين بالرئيس السابق للحكومة الذين يعتقدون أن النظام السوري، على الصورة التي ورثها الرئيس الابن عن الرئيس الأب كقبضة أمنية ـــــ إعلامية يتحكم بها حزب واحد، سقط إلى غير رجعة. ومهما يكن مستقبل الوضع في سوريا، مع الأسد أو من دونه، لن يعود النظام نفسه الذي خلفه الأسد الأب لابنه بعد التحركات الشعبية الأخيرة، ولن يكون في وسع الرئيس السوري الاستمرار طويلاً في نظام يوشك أن يفقد كل العناصر التي تبرّر وجوده على رأسه.

لم يعنِ تعلّق الحريري بذكرى حماه وتركيزه عليها، إلا التخلي عن الصورة التي كان قد استخلصها من علاقته بالأسد الابن، وأوحى بها إلى بعض معاونيه بعد عودته من إحدى زياراته لدمشق، وهي أنه يعتقد أن الرئيس السوري بعيد عن قتل والده الرئيس رفيق الحريري. فإذا به يشبّه حماه اليوم بحماه الأمس، والابن بأبيه. كان قد تجاهل، في الأشهر الماضية حتى الأسابيع الأخيرة، الحملات العسكرية القاسية التي تعرّضت لها درعا وإدلب وحمص واللاذقية وتلكلخ وأرياف هذه المحافظات، وكلها ذات غالبية سنية، فلم يتخذ منها أي موقف. إلا أنه أجملها في التصريح الأخير الذي صوّب، بتمييز واضح لم يخلُ من دلالة مذهبية، على حماه تحديداً التي رأى أنها تعرّضت لأبشع المجازر.

2 ـــــ لم تفلح علاقة كان قد نسجها الحريري مع الأسد بين 19 كانون الأول 2009 و30 آب 2010، على امتداد أربعة اجتماعات طويلة، في تحقيق مصالحة حقيقية بينهما. تصَالحَ الحريري مع الأسد ـــــ أو هكذا بدا ـــــ ولم يتصالح مع النظام، واقتصرت علاقته على الرئيس السوري ما خلا اجتماعاً عقده مع نظيره السابق محمد ناجي العطري. في الاجتماعات الأربعة حرص الأسد والحريري على تحميل علاقتهما بعداً شخصياً خاصاً وحاراً لم يشفع بكل الخلافات بينهما، السابقة لتلك المصالحة. وبحسب الذين اطلعوا عن قرب على استنتاجات الحريري من تلك المصالحة، أنه اقترب من الاقتناع بشخصية الأسد. وجد أنه يلتقي وإياه على رؤية مشتركة لعلاقات البلدين والانفتاح والتعاون والتطور، وتبادلهما طموحات متشابهة، قبل أن يكتشف الحريري في وقت لاحق، وخصوصاً بعد أول أزمة بينهما إثر إصدار سوريا استنابات قضائية في حق شخصيات لبنانية في 4 تشرين الأول 2010، أن الرئيس السوري يريد استيعابه لإدخاله في الفلك السوري، على صورة علاقة الأسد الأب بالحريري الأب بين عامي 1992 و2000.

حينذاك، رضي الحريري الأب بالدور الذي رسمته له دمشق كي يستمر على رأس الحكومة اللبنانية، وحدّدت له نطاق تحرّكه والملفات التي يديرها، إلى أن بدأ يتململ من واقعه هذا عام 2000، ثم انفجرت أزمة الثقة مع الرئيس السوري بعد التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004. وعلى غرار استيعابها الحريري الأب في فلكها، لاحظ الحريري الابن أنه يُدعى إلى مهمة مماثلة عبّرت عنها أيضاً بضعة لقاءات كان الحريري قد عقدها مع الأمين العام لحزب الله، وتوخت اقتياده إلى الاستيعاب نفسه.

وهكذا لم تعش طويلاً المصالحة الشخصية، وأخفقت المصالحة السياسية. بذلك، عادت علاقة الرجلين إلى ما كانت عليه حتى عشية الانتخابات النيابية عام 2009. كان الحريري قد قدّم جائزة ثمينة لسوريا في 6 أيلول 2010 يوم برأها من اغتيال والده، ترجمة لذلك الاقتناع بالرئيس السوري، واعترف بشهود الزور فقاد حكومته إلى الانهيار.

3 ـــــ يقلل المحيطون بالحريري فاعلية تصريحه الأخير وتأثيره، سواء داخل سوريا أو على توازن القوى الحالي في لبنان، أو على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. في بعض اجتماعات تيّار المستقبل وكتلته النيابية، طُرح أكثر من مرة سؤال عن عدم اتخاذ موقف متصلّب من أحداث سوريا. قال البعض إن الحريري معني بها، وهو الذي يمثل مزيجاً مبرّراً كي يجبه هذا الحدث العربي، شأن سواه من الانتفاضات العربية الأخيرة: سعودي الجنسية، أمه عراقية، وزوجته سورية.

ليس عقائدياً أو عروبياً على صورة الرئيس فؤاد السنيورة الأكثر تماساً مع هذا النبض، وكذلك مع عدد وافر من معاونيه. إلا أنه لا أحد يسعه تفسير عدم إبدائه رأياً في أحداث سوريا إذا كان له فعلاً رأي فيها. وهو بذلك لبث على طرف نقيض من بعض زملائه في التيّار، أو في حلقة مستشاريه ذوي الآراء المتشدّدة حيال سوريا ونظامها.

يربط أصحاب هذا الرأي توقيت تصريح الحريري بالتطورات الدموية المتلاحقة في الدراما السورية، أكثر منها سعيه إلى التلاعب بالنظام السوري أو الدخول طرفاً في المواجهة، أو التحريض على تقويضه. وشأن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، أملى تسارع الأحداث عليه اتخاذ موقف متصلّب هو انعكاس لطبيعة الصراع الدامي بين النظام ومعارضيه.

الاخبار

… ويدير المعركة ضد سوريا

نادر فوز

بعد ساعات أو أيام، يعود الرئيس السابق للحكومة، سعد الحريري، إلى بيروت. لم يشأ زعيم «المستقبل» أن تكون عودته باهتة في الشكل والمضمون والسياسة، فأصدر بياناً يقول فيه: «إننا في لبنان لا يمكن، تحت أي ظرف من الظروف، أن نبقى صامتين إزاء الأحداث الدموية التي تجري في سوريا». موعد هبوط طائرة الحريري في لبنان لم يحدّد بعد، والشخصيات المطّلعة على أجواء الطائرة الخاصة لقائد تيار المستقبل تؤكد أنّ العودة لم تُحسم بعد، وأنّ الحريري لا يزال يناقش المعنيين في هذا الأمر، بمن فيهم سفراء غربيون نقلوا إليه قبل أشهر تحذيرات أمنية.

في محطته الأخيرة، المملكة العربية السعودية، سيطرق الرئيس السابق الكثير من الأبواب، سائلاً: «ما العمل؟». وقبل وصوله إلى الرياض، ناقش الحريري عدداً من المسؤولين والمستشارين السعوديين، «وعبّر لهم عن شعوره الطبيعي بالإحراج من جمهوره؛ لكونه لم يتحرّك لنصرة أهل درعا وحماه وسائر المدن السورية التي يتعرّض أهلها للقتل والاعتقال». وفي هذا الإطار يشير مقرّبون من الحريري إلى وجود «تغيّر ما في السعودية»، مشددين على أنه في الوقت الراهن «ليس من قرار سعودي واضح، والارتباك مستمرّ بشأن الموقف مما يجري في سوريا». يضيف المقرّبون: «موقف الرئيس الحريري بعد أحداث حماه لم يأت من عبث»، ليؤكدوا وجود «تغيّر استراتيجي ستتوضّح معالمه قريباً». لكن موقف الحريري أثار تساؤلات لدى كثيرين من حلفائه، باعتبار أنّه «لا ينبع من مؤشرات عربية ولا طمأنات غربية». أضف إلى ذلك أنه خرق الاتفاق الذي توصّل إليه مع حلفائه، والذي ينصّ على إبقاء النقاش مفتوحاً بشأن الوضع في سوريا والموقف منها. وما يسري على الحلفاء، يسري على أقرب المقربين أيضاً. فنواب كتلة المستقبل الذين سيجتمعون اليوم برئاسة فؤاد السنيورة، أعدّ كل منهم مداخلته في الشأن السوري، رغم أن رئاسة الكتلة سبق أن طلبت منهم حصر النقاش بالوضع اللبناني الداخلي. ومن المنتظر أن يدخل الرئيس فؤاد السنيورة إلى الاجتماع اليوم وبيده مسودة تتضمّن الآتي: الجلسة التشريعية يوم غد، النفط البحري، حادثة الرويس وأسلوب تعامل حزب الله مع القوى الأمنية، الحوار الوطني، وغيرها من الملفات. وسيتواجه السنيورة مجدداً مع نواب المستقبل الذين سيحاولون إقناعه مرة أخرى بضرورة مناقشة الأحداث في سوريا والوقوف وراء الرئيس الحريري في التعبير عن دعم الشعب السوري ورفض الممارسات التي يتعرّض لها.

ماذا يقصد الحريري حين يقول: «لن نصمت حيال ما يجري في سوريا»؟ وهل يعني هذا القول أنّ المعارضة في لبنان ستدعم الانتفاضة السورية؟ مسؤولو الصف الثاني في المستقبل مربكون إزاء التعامل مع الملف السوري. لكنهم ينفون وجود أي قرار أو حتى «تفكير» في التيار يدعو إلى التحرك لشجب أفعال النظام السوري. حتى إنّ أحد القياديين المستقبليين ينفي أي نيّة لدى التيار للدخول في هذه المعركة، فيما يؤكد نائب بيروتي أنّ «المسألة بحاجة إلى نقاش جدي»، وهو نقاش ينوي النواب فتحه عند عودة الرئيس الحريري إلى بيروت، باعتبار أنّ التواصل عن بعد لا يأتي بنتيجة.

ماذا عن الحلفاء؟ حافظوا جميعهم على الصمت، تاركين رئيس تيار المستقبل يخوض المعركة وحيداً. النائب أنطوان زهرا يرفض الحديث عن هذا الملف، أما زميله في كتلة القوات فريد حبيب، فيرى في كلام الحريري «صرخة ألم على ما يشاهده الرئيس والجميع على شاشات التلفزيون». يؤكد حبيب وغيره من نواب كتلة القوات اللبنانية أنّ معراب لن تضع أي موقف بخصوص ما يجري في سوريا. أما حزب الكتائب، فأعلن أمس أنّ «الأمور بدأت تأخذ منحىً مأسوياً. وإذا كان الحزب قد آل على نفسه التزام عدم التدخل في شؤون الغير، فذلك لا يعني أنه يجوز السكوت عن كل ما يجري في سوريا من قبل الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان وعن العنف غير المبرر بحق المواطنين العزل». هذا الموقف لم يضف شيئاً إلى كلام الحريري، وخصوصاً أنّ الشق السوري من الموقف الكتائبي أتى في فقرة ذيّلَت البيان الصادر عن المكتب السياسي للحزب.

رغم هذا الصمت، فإنّ الرئيس الحريري «ينطق باسم كل 14 آذار» كما يقول نواب وشخصيات هذا الفريق. لكن ماذا عن الموقف الأخلاقي والإنساني من الانتفاضة السورية؟ ليس من موقف في هذا الاتجاه، حتى إنّ منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار، فارس سعيد، يضع هذا الجانب على الرفّ ويصرّ على عدم التدخّل في الشؤون السورية والاكتفاء بالتعبير عن رفض تعريض أمن الشعب السوري وسلامته للخطر.

في الخلاصة، يفضّل فريق المعارضة المحافظة على الطابع الطائفي في مقاربة القضايا، فيمتنع القسم المسيحي في 14 آذار عن مهاجمة النظام في سوريا (وذلك لاعتبارات عدة منها «الخوف» على المسيحيين فيها)، ويكون لتيار المستقبل بصبغته المذهبية حق التعبير ورفض أداء النظام تجاه المواطنين السوريين: سعد الحريري وحده يدير المعركة مع سوريا.

الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى