صفحات سورية

الحزب الشيوعي اللبناني يسكت دهراً وينطق ستالينية


محمد الحاج صالح

لا يسع المرء وهو يقرأ البيان الصادر عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني والمؤرخ 10/8/2011 إلا أن ينقهر ويأسف.

بدءاً نعتقد أن السوريين المُنخرطين في نشاطات الانتفاضة ومؤيديها لا يرغبون في نقد الآخرين الآن، لأسباب معروفة منها الحكمة. لكن عندما يدوس المرءُ على بطنكَ، لا بد لك أنْ تَرْمَع وأن تشدّ عضلات بطنكَ كي تتجنب أذىً أكبر.

ويمكن لنا جميعاً أن نصمت على “تجرؤ” المكتب السياسي للحزب على تعاطف مع الانتفاضة الشعبية، يشبه حنان القطة المنحرفة على صغارها. المُشكلُ أن بيان الحزب لا يدوس على بطوننا فقط، وإنما يمعن رمزياً في الوقوف على بطوننا وعلى رؤوسنا في صورة تماثل ما حصل في “البيضا”.

يجترح الحزبُ ما يراه “تأييداً” للانتفاضة، بينما هو يتبنى رواية النظام تمامأً إلا من “تجاسره” المحسوب على وضع النظام والانتفاضة في سلّة واحدة: “يعبر المكتب السياسي للحزب الشيوعي عن استنكاره للمنحى الأمني الدموي الذي اتخذته الاحداث في سوريا، في الأسبوع المنصرم، حيث تصاعدت دورة العنف والعنف المضاد في العديد من المناطق السورية ضد الحركة الشعبية المطالبة بالاصلاح الديمقراطي، وازداد عدد الشهداء نتيجة عمليات القتل من قبل القوى الأمنية، من جهة، والعصابات المسلحة، من جهة ثانية”. هو هنا يستنكر “المنحى الدموي الذي اتخذته الأحداثُ”، أي أنه لا يستنكر قمع النظام ولا قصف الدبابات للمدن بدلاً من توجهها للجولان، ولا يستنكر حملة الاعتقالات الواسعة ولا التعذيب الوحشي، ولا السلوك الهمجي لأجهزة النظام وأتباعه. الحزب يستنكر “المنحى” المنحى فقط! والأدهى أنه يصدّق رواية النظام في جوهرها؛ بالضبط العصابات المسلحة. واللافت للنظر أيضاً أن الحزب ومكتبه السياسي لم يستخدموا الفعل “يدين” وإنما الفعل “يستنكر” استهانةً وتخفيفاً وتلطيفاً من الـ 2700 شهيد و25000 معتقل و 3000 مفقود. ربما كانت الأرقام لا تستاهل في نظر المكتب السياسي، وهو ينتظر أرقاماً مُضاعفة، كي يُصعّدُ موقفه ويرتقى بقاموسِه من الاستنكار إلى الإدانة.

لا نريد أن نقنع الحزب بروايتنا عن ما يسمّيه الحزب بـ “الأحداث!” ونسميه نحن بالانتفاضة والثورة. فخبرةُ السوريين واسعةٌ فيما يتعلق بأحزاب ومنظمات الفوات والخدمات الأمنية المُتبادلة، وخدمات السياسات الإقليمة والدولية. للحزب مُطلق الحرية في أن يرى هلاوس عن عصابات مسلّحة، ولنا مطلق الحرية في أن نطبّق خبرتنا عليه. ولعل الحزب أيضاً تدرّج مثله مثل النظام في الهلاوس من البندرية ونائب المستقبل، إلى الإخوان، إلى السلفية، ثم أخيراً إلى عصابات مسلحة لا تُعرف قَرْعَةُ أبوها.

نهمس في أذن الحزب الذي كان حصيفاً ذات يوم: كيف لكم أن تصدقوا نظاماً كذب لأكثر من أربعين عاما. نظام يكذب حتى في النوم. نظام اغتال وقتل وعذب لبنانيين وفلسطينيين يعرفهم الحزب بالإسم ويعرف عائلاتهم. ولا يصدق شعباً مورست عليه كل أنواع التنكيل وهدر الكرامة والإهانات والتفقير؟

الحزب نفسه وفي بيانه يشير إلى أن سياسات النظام أفقرت السوريين ويذكر رقماً لم يجرؤ أحد منّا أن يذكره، 80% تحت خط الفقر. ومع ذلك لا يستأهل النظام أكثر من أن نساويه بالمدنيين العزل الذي ثاروا لكرامتهم أخيراً.

ثم… لمَ لا؟ والمكتبُ مكتبٌ لحزب شيوعي أن يساوي بين رامي مخلوف ذي المليارات، وبين سلفي بلحية لا يجد قوت يومه التجأ للدين كملاذ من العذاب. بل ونجزم من خلال روح بيان الحزب من أنه يفضل رامي مخلوف على ذاك السلفي الجائع. سلفي يا للهول وإنْ كان جائعاً!

“يرى المكتب السياسي للحزب ان استمرار هذا المنحى الأمني القمعي ، في ظل التباطؤ غير المبرر من قبل النظام في تنفيذ الاصلاحات السياسية والاقتصاديةـ الاجتماعية التي اقر بمشروعيتها، فضلاً عن ان الحل الامني المعتمد لن يجدي نفعاً، فهو يساهم في استغلال الحركة الشعبية، ويقوي الحركات المرتبطة بالأمبريالية والصهيونية وكل المتربصين بسوريا، والذين يريدون النيل منها ومن امنها واستقرارها. كما ويعرض سوريا الى مزيد من الانكشاف امام التدخل الخارجي بقيادة الولايات المتحدة وحلفها الاطلسي”. مرة أخرى الحقّ على “المنحى”. يا للمنحى! كثيرٌ من البعثيين والموالين للنظام السوريين يقولون كلاماً كهذا، لأن ” قلوبهم” على النظام وعلى مصيره، ولا قلوبَ لهم عندما يتصل الأمر بالناس الفقراء المذلين المهانين الـ (80%). وعلى ما يبدو أنّ قلب المكتب السياسي هنا هو أيضا على النظام وعلى مصير النظام، وإلا كيف تسنى له أن يُحاكي لغة “جيش الشعب” عن المؤامرة والتربّص والاصلاحات.

أمام زخم الانتفاضة السورية ووعيها الراقي، لا يجد الحزب الشيوعي اللبناني أو غيره من مفوّتي الوعي إلا تكنيك “ضربة على الحافر وضربة على المسمار” فالهوى غلاب. ينشئ بيانُ الحزب ويقول: “يجدد المكتب السياسي تاييده ودعمه الكاملين للمعارضة الوطنية الديمقراطية في سوريا التي رفعت شعار قيام دولة مدنية ديمقراطية، كونه يرى أنها وحدها الكفيلة بتأمين وحدة وطنية حقيقية مستندة الى التفاف شعبي حولها، وبابعاد شبح الفتنة الداخلية، التي بدأت تطل برأسها”. من جهة يؤيّد االمعارضةَ الوطنية الديمقراطة، ومن جهة يتهم الانتفاضة بالتسبّب بشبح الفتنة الداخلية. وللذين يجيدون لغة الحفيف والصريف الخشبية نقول إن تأييد المكتب ينصرف فقط إلى قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية، أي أنه سيؤيد فقط قوى تشابه الحزب الشيوعي اللبناني وتشابه شقيْ الحزب الشيوعي السوري المزمنين في التسبيح للنظام والمُتجرّئيْن بفاصل لايزيد عن العشر سنوات وبطريقة مُشابه لانتقاد بيان المكتب السياسي؛ لبعض سلوك رجال الحكم.

ولأن المكتب السياسي شعر أن الضربة على الحافر كانت قوية هذه المرّة وأصابه الندم وربما الرعب، أراد أن يعوّض بفقرة مختارة من قاموس النظام السوري. هذه الفقرة لا يزيدُ عمرُها عن أيام فقط في الاعلام السوري، ومع ذلك تلقّفها رفاقُنا في الحزب الشيوعي اللبناني وعززوا بها بيانهم: “يدين المكتب السياسي للحزب الهجمة المنظمة والمشبوهة من قبل بعض الانظمة العربية المرتبطة بالادارة الاميركية، خصوصاً في ما تدعيه من غيرة على الشعب السوري، وعلى حقوقه وديمقراطيته…”

وفي الحقيقة أن الدول العربية تأخرت كثيراً في قول شيء؛ أي شيء، فكيف بهجمة! كان السوريين وظلوا يحرّضون الجميعَ على رفع الغطاء عن النظام، وفقط. لا نريد سوى رفع الغطاء عن النظام. أي قول الحقيقة عنه وفضح ما يخفيه وعدم التعاون معه. ولا شيء آخر. للحزب نقول أن الجميع مازالوا يراعون النظام، ويمنحونه الوقت والقروض واللغة اللطيفة المخففة. وننبّهه إلى أننا كنا نرى أن في الشرق الأوسط مدلّلان. إسرائيل ككيان ودولة. والنظام السوري كنظام لأنه يقوم بوظائف مدرسية ومدروسة لمن يساعده على الاحتفاظ بالحكم. الآن انتهى تدليل النظام لأنه سلك وتصرف برعونة ووحشية وولْدنة لا يحتملها المُدَلِّلون.

لايغير الزمانُ من لغة الحزب، فالدهر والأفلاك أثبت صحة سياسة الحزب، ولذلك لا حظَّ لإعادة النظر في اللغة المستخدمة، تأملوا جيّداً هذه المقتطف وعودوا إلى بيانات سابقة ممتدة على ما يقارب قرناً، تجدون الكلماتِ الرسخاتِ ذاتها: ” يدين المكتب السياسي للحزب الهجمة المنظمة والمشبوهة من قبل بعض الانظمة العربية المرتبطة بالادارة الاميركية” . ولاحظوا أن كلمة “هجمة” في اللغة هي اسم مرّة. يا لهذه الهجمة التي لا تكل ولا تفتر والتي تعاكس منطق اللغة فتصبح كما لوأنها حرب بسوس تدوم وتدوم وتتجرد من اسم المرّة إلى اسم “الكثرة!”.

هذه المرة استخدم البيان كلمة يُدين، هللويا! والإدانة كما هو معروف ترتبط باقتراف جرم، وفق المعنى الحقوقي. يريد بيان الحزب أن يرى في تحرك الدول العربية أي دول الخليج ومصر والأردن المتواضع جريمةً تستحق الإدانة. بينما استشهاد 2700 مواطن وأشكال التعذيب المريع والمعتقلات والمفقودين، فلا تستحق سوى استنكاراً أي أن سفك دم السوريين وسلبهم كرامتهم وحريتهم ليس جريمة.

في المقطع ما قبل الأخير من البيان يتجاهل الحزب بضِعَةٍ أن بيانه صدر بخصوص توضيح موقفه من الانتفاضة السورية، أي أنه أراد رفع بعض الحرج فإذا به يعميها بدل أن يكحلها، وإذا به يتغافل عن دم الشعب السوري المراق ومحاولات الضغط على النظام في المؤسسات الدولية، ليشيد بالموقف الذيلي لمندوب لبنان في الامتناع عن تأييد إعلان، مجرد إعلان، يدين سفك دماء الشعب السوري.

لا بدّ من خاتمة من مسك. وهل من مسكٍ أزكى رائحةً من الستالينة. تأمّلوا المقطع الأخير:

“اخيراً يجدد المكتب السياسي تأكيده ان مواقف الحزب وخياراته السياسية تحددها وتفسرها هيئاته القيادية، لذا يدعو الشيوعيين الى الالتزام بها، وعدم القيام باي نشاط او سلوك خارج هذه المواقف، او خارج ما تدعو اليه قيادة الحزب”.

محزن ما آلت إليه أوضاع هذا الحزب الذي كان، كان رائداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى