صفحات مميزةهيفاء بيطار

الحفة الحافية


هيفاء بيطار

لماذا سأكتب عن الحفة؟! سؤال استفزني لأيام وأنا أدرك لا جدوى الكلام. هل ستعيد كلماتي الحياة للمئات الذين ماتوا في الحفة من السوريين مهما كانت طائفتهم ووظيفتهم؟ هل ستعيد كلماتي الدكاكين الرائعة المحترقة في سوق الحفة المركزي والتي كانت تعرض ألذ فاكهة وخضار في العالم… إلى حالها؟!

هل ستعيد كلماتي ترميم البيوت التي دُمرت بالكامل أو تهدمت بعض جدرانها وكـُسرت أبوابها وسُرقت محتوياتها؟! يا لغواية الفعل المبني للمجهول… الذي صار سيد الموقف في سوريا، يا لعبقرية من اخترع الفعل المبني للمجهول الذي يُسمى في سوريا الطرف الثالث… وربما بعد فترة نكتشف أن هناك طرفاً رابعاً أو خامساً، ما أدرانا بما يحدث في الكواليس؟!

استفزني السؤال لماذا سأكتب عن الحفة؟ ولم أجد إلا جواباً وحيداً طالعاً من قلبي، كلمة واحدة فقط مزقت شرنقة اليأس التي تغلف قلبي وهي الحب.

الحب وحده يدفعني للكتابة عن الحفة، المدينة الصغيرة المتواضعة، المشتهرة بخضارها وفاكهتها وعنابها اللذيذ، والتي تقع في منتصف المسافة بين اللاذقية وصلنفة، المصيف الرائع الذي يرتفع عن سطح البحر 1000م، والذي هو متنفس لأهل اللاذقية تحديداً من حر الصيف، وللسوريين والعرب أيضاً…

كنتُ على تواصل مستمر ومباشر مع أهل الحفة طوال أيام الجحيم، البعض كان محاصراً في غرفة – يعتقد أنها آمنة – في بيته، مع الجيران، يسمع صوت الرصاص والانفجارات، ويتحدث عن أسلحة حرارية متطورة، لا تضيع طريقها بل تتبع حرارة الجسم وتصرّ على اختراقه، صار لدينا ثقافة جديدة هي ثقافة السلاح، البعض تمكن من الفرار إلى اللاذقية عبر البساتين تاركاً كل شيء وراءه، والبعض تفرج على الصواريخ تهدم جدران بيته وتقتل بعضاً من أفراد أسرته…

والجميع خنقتهم رائحة الجثث في الطرقات !

كيف يمكن المواطن السوري أن يستمر في الحياة وسط حالة من الرعب تكتسحنا ليل نهار، كيف يمكن للمواطن السوري أن يستمر في الحياة وهو يشعر طوال الوقت أنه في حالة عجز مطلق، وأن ما يحدث صار يفوق حقاً طاقة تحمله…

كيف يمكن السوري أن يستمر في الحياة حين يصير منظر البندقية كمنظر رغيف الخبز… وحين تصير النشرة اليومية للقتلى مثل النشرة الجوية… بعيون جمدها الحزن، وفم مطبق بصمغ الخوف، أعيش في سوريا التي صارت أشبه بورقة نعي كبيرة، لأنه ما عاد من نشاط اجتماعي للناس سوى التعازي، لا شيء على الإطلاق مما يعيشه السوري يشبه الحياة، أي ترف هي السينما أو المسرح، أو أي نشاط ثقافي، في كل بيت شهيد أو قتيل أو معتقل أو مفقود…

أتفرج على النساء الفاحشات في السواد يذهبن لتعزية بعضهن البعض، من تقدم التعازي لأم ثكلى، ترتعد فجأة إذ تشعر أن دورها في تقبل التعازي قريب…

وطن بمساحة ورقة نعوة كبيرة، وطن أشبه بلوحة بازل عملاقة، كل قطعة منها هي وجه شاب قـُتل… موت سهل ومجاني ومترف كما لو أننا نعبر شارعاً، من ضفة الحياة إلى ضفة الموت…

تنحسر الحياة في سوريا وتصيب السوريين بشتى أنواع القهر والعصاب، الناس مهزومون، يخرسهم الحزن أو الخوف أو القلق من القادم الأعظم…

البارحة صرخ بي شاب فقد صوابه حين علم أن أخاه توفي في المعتقل: لسه بيقولوا القادم أعظم ! هذه العبارة تطير صوابي، شوفي أعظم من هيك؟!

ما معنى أن تصير الحياة تعني يومياً كارثة تتجدد وتزداد وحشية، مجزرة تلو مجزرة، وهناك طرف ثالث، هناك الفعل المبني للمجهول الأشبه بحبل ثخين طويل تعلـّق عليه المجازر…

كيف يمكن للمواطن السوري أن يشعر أنه يحيا وقد انتزعت منه كل معاني الحياة، الأمان والاستقرار، والإيمان بالمستقبل، كيف تحوّل حديث شعب عظيم إلى لهاث حول غلاء جرة الغاز التي وصل سعرها إلى 2000 ليرة سورية، حتى إن بعض الناس اعترفوا لي بأنهم صاروا يطبخون على الحطب !

لماذا تـُدمر سوريا بتلك الطريقة الفائقة الوحشية؟

ما سبب هذا الانهيار الأخلاقي المروع في العالم كله؟! لماذا يقف العالم كله يتفرج على نزيف الدم المتواصل والمتزايد في سوريا، ولا يفعلون شيئاً؟

ماذا يفعل هؤلاء الرجال الملمعون، بربطات العنق الفاخرة، والمؤتمرات التي يعقدونها حول سوريا؟ والتوصيات التي يخرجون بها للتقليل من نزيف الدماء؟

أي هراء مقزز وأية مسرحية هزلية ما عاد أحد يصدقها من السوريين؟!

من يشعر بالمرأتين الرائعتين، وهما في خريف عمرهما، اللتين تعيشان في الحفة في بيت صغير وتعتاشان من بيع المؤونة، من دبس رمان إلى تجفيف الفاكهة إلى ما هنالك، بكتا بقهر وهما تعترفان لي بأن المؤونة كلها فسدت لأن انقطاع الكهرباء لأيام عن الحفة قد أفسد المؤونة التي تعتاشان منها…

من يُعوض للمساكين أصحاب الدكاكين المتواضعة في السوق المركزي للحفة، الخسائر الفادحة في البضاعة والدكاكين التي تحولت إلى رماد؟!

من سيعوض للشاب الذي جن وفقد عقله حين وصله خبر حريق مزرعة الدواجن والأبقار التي يملكها والتي هي ارثه الوحيد عن والده…

ترى هل يمكن اعتبار الأبقار والدواجن شهداء؟ أم إن البعض سيصنفهم إرهابيين؟! وربما البعض يعتبرهم طرفاً ثالثاً أيضاً؟

من يبالي بالنظرة الحزينة المنكسرة التي رأيتها في عيني مصور الاخبارية السورية الذي كان يصور في الحفة حين اخترقت جسده رصاصة، ورأيته في غرفة الإسعاف في المشفى الوطني في اللاذقية؟ كانت أمه المتألمة إلى جواره مذهولة مما أصاب ابنها…

لم يعد السوري بقادر على المزيد من الألم لأن الطفح من الألم يتحول إلى ذهول، شعب مذهول من هول العنف الوحشي المخزي اللامنطقي وغير المبرر…

لكن أكثر ما أثر بي، بكاء امرأة تسكن في الحفة في بيت صغير مؤلف من غرفتين لم تبك هدم بيتها، قالت لي: والله لم يهمني البيت لكن لماذا حرقوا أشجار السرو الثلاث الباسقة… أشجار السرو كانت حياتي، شاهدة على طفولتي وشبابي… كانت تبكي وتنسكب دموعها في تجاعيد وجهها الأشبه بلحاء أشجار السرو…

قلتُ لها معزية: أتتألمين لهذه الدرجة على شجرات السرو، والمئات من الشبان قتلوا في الحفة…

نظرت إلي نظرة عتاب، من عينين جفتا من كثرة البكاء وقالت: كانت أشجار السرو صلة بين البشر المعذبين على الأرض وإله السموات، صدقيني الشجر يوصل دعاء المقهورين إلى الله…

آمنت بعبارتها، آمنتُ بها بكل كياني لأن فضاءات القلب أوسع بما لا يقاس من محدودية العقل..

الحفة، أحسها طفلاً صغيراً أو طفلة مشردة هدم بيتها وقتل أهلها، وشهدت مآسي مدينة لعبت في أزقتها وأكلت من ثمارها، وغفت تحت أشجار السرو الرائعة فيها. الحفة طفلة مشردة روعتها رائحة الجثث المتعفنة في الطرقات لناس كانوا جيرانها وأقربائها، فخرجت حافية القدمين، هائمة في شوارع الموت، حيث الرصاص الحي هو الأكثر حياة من حياة السوريين… طفلة تبكي دموعاً حمراء تشبه ثمار العناب في الحفة، ترى هل يجرؤ العناب الذي تشتهر به الحفة على النمو والتباهي بلونه القرمزي وطعمه اللذيذ… هل سيتمكن العناب من التجرؤ على الإثمار وسط مطر الرصاص والدمار… الحفة دُمرت، يحيا الفعل المبني للمجهول…

(كاتبة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى