صفحات الناس

“الحكومة.. فيري غوود”/ سلام الكواكبي

 

 

تناقل السوريون، كما بعض المهتمين بقضيتهم من غير السوريين، وهم في تناقص مذهل، شريطاً قصيراً يُظهر فيه التلعثم، بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، الذي خرج من أشداق مذيعين شابين “مسكينين” في محطة سورية خاصة تبث من دمشق. فقد وقع المحاوران في “شر أعمالهما”، وبان بجلاء غباءهما الشخصي، أو الموجّه ممن يُشرف عليهما، حينما “استنطقا” بالعربية المتصنّعة، وبالإنكليزية المشوّهة، وبخفّة الاعلام السوري الراسخة والمستوحاة من البرنامج المؤسس “غداً نلتقي”، صحفية بريطانية محترفة اسمها إيزبيل أونغ، كانت قد صورت في سورية في نهاية سنة 2016 فيلماً وثائقياً عما جرى عشية معركة حلب النهائية، وكان قد جرى بثّه من دون أن ينتبه إليه أغلب المتربصين.

يوضح المقطع المتداول من المقابلة/ الفضيحة أن هذه الشابة البريطانية من أصول صينية تعمّدت إحراج محاوريها لاكتشافها المبكر دورهما الببغائي، ولضعف حيلتهما المهنية، كما الإنسانية.

في بدايته، سألها المذيع، بإنكليزيته العرجاء، عن “أهداف زيارتها الأساسية”، فأجابته بهدوء أسطوري، تغلي من تحته البراكين، بأنها أرادت البحث، بعيداً عن وجهة نظر الحكومة، في ما يجري في البلاد، كما أنها سعت إلى معرفة طبيعة حياة السوريين. كما أنها أشارت إلى صدمتها بالعدد الهائل من الملصقات التي تفترض ولاءً موجّهاً لنظام  سياسي، لتنهي إجابتها بسؤال السائلين عن رأيهما في الموضوع.

صفعةٌ لم تكن لا على البال، ولا على الخاطر، أودت المحاورين إلى قعر بئر الصمت، ما دفع المذيعة الثانية إلى سؤالها، بثقل دم أسطوري، إن كانت قد وجدت صعوبة خلال تنقلها في

“يكفي أن يكون المحاور على ثقافة سياسية جيدة ليُحرج من يقعون بغبائهم في فخه المهني”

المدن السورية، أو خلال زيارة مناطق محددة. وقد أودت محاولة الإنقاذ من الإحراج الكبير هذه بالمقابلة إلى حيث لم يتوقع أحد، من معدّيها ومن مقدّميها، لأن الصحفية أونغ أوضحت، صراحةً، أنها عانت من متابعة عناصر حكومية عملها في كل تفاصيله، كما أنها ذكرت أن كل تحركاتها الإعلامية في سورية كانت بحاجة لموافقات متعدّدة، منوهة إلى أن هذا التعامل جعل من حديثها مع الناس يجري بصعوبة. وقامت، في المقابل، بتحويل السؤال إلى محاوريها، سعياً إلى تحفيز الإنسان فيهما، بعيداً عن الغباء المنهجي، والخوف البنيوي، وطلبت إيضاحاً عن سبب هذه التصرفات الحكومية مع الإعلام الأجنبي، معتبرة أن الإعلام عموماً يتعرّض لضغوطٍ عدة في سورية. وعاد المحاوران إلى أسفل بئر الصمت، لتُنهي أونغ الحديث بسؤال تأسيسي عن الإمكانية في المطلق لأي منهما بالإجابة، ولو على سؤال مما طرحته. وقد أُنهيت المقابلة التي كانت تُبثّ على الهواء مباشرةً عند هذا الحد، بأمر سلطاني حتماً.

ليس ما ورد على لسان الصحفية الشابة جديدا على من عمل في الحقل الإعلامي السوري، ولمن خَبِرَ خصوصاً كيفية التعاطي مع الإعلام الأجنبي المشكوك فيه دائماً حتى يثبت العكس. في المقابل، دفعتني هذه المقابلة إلى البحث في عمل الصحفية الشابة، والتعرّف أكثر على تحقيقها حول سورية، لأجد عملاً مهنياً عالي المستوى، على الرغم من خضوع تنفيذه لمحظورات. وبالتالي، لم تعد الحجج التي يحتمي وراءها بعض الصحفيين بخصوص القيود المفروضة عليهم كافيةً لتبرير ميل تحقيقاتهم إلى تجميل صورة السلطة، أو ترويج خطابها. وكما وضح من مقابلتها القصيرة، أو من خلال الأسئلة التي طرحتها على محاوريها من المقرّبين من السلطة، فهي لم تكتف بأجوبتهم المبتورة، أو بإيحاءاتهم البعيدة عن المنطق التاريخي، أو السياسي، لتُعيد السؤال المحرج بصيغة مختلفة، ساعية إلى الحصول على جواب معقول وأقرب إلى التصديق، وبما أن هذا مستحيل لمن يشغلون مواقع انتفاعية، أو لمن هم يخشون عواقب نظرات المرافق الأمني التهديدية، فقد بانت رسالة العمل لمن يتابعه بحذق، على الرغم من ظن بعضهم بأنها تعرض وجهة نظر السلطة وحدها.

هذا الأسلوب الذي يعتمد على مبدأ “من فمك أدينك”، والذي أبدع في استخدامه الراحل المبدع

“الإعلام الأجنبي مشكوك فيه حتى يثبت العكس”

عمر أميرالاي في فيلم “الحياة اليومية لقرية سورية”، خصوصاً في مشهد مدير المدرسة، هو مدرسة في علم التقصي والتحقيق. فليس ضرورياً أن يسعى عمل ما للحصول على آراء معاكسة لما يورده متشدقو السلطة، بل يكفي أن يكون المحاور على دراية وثقافة سياسية جيدة، لكي يُحرج من يقعون بغبائهم في فخه المهني. كما يحتاج هذا الى إرادة مهنية، تستند إلى مبادئ إنسانية، بعيداً عن التحزّب أو المناصرة الغوغائية التي تضرّ قضيتها.

في بدايات الألفية، أدرت حواراً حول صورة سورية في الإعلام الفرنسي، وسألت المذيعة الرسمية من التلفزيون السوري ضيوفي قبلها عن رأيهم بهذه الصورة، فأتتها أجوبةٌ عموميةٌ بعيداً عن السياسة، للإشارة إلى الحضارة والآثار والتقاليد الثرية. فانتقلت إلى سؤالها الثاني المُعدّ مسبقاً قائلة: وما هي أفضل طريقة لتغيير هذه الصورة؟”. غباءٌ مؤطّر له تقاليد وعراقة من الصعب التخلص منهما.

في نهاية تحقيق إيزابيل أونغ، يُجيب مواطن سوري من حمص المدمرة جراء القصف الجوي إن كان للحكومة أية مسؤولية فيما حصل، فيجيب، وخوف العالم يقطر دمعاً في عينيه “الحكومة؟ نو نو.. الحكومة إيز فيري غوود”. هذا يكفي، وشكرا للمهنية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى