صفحات سوريةعمر قدور

الحلّ الأمنيّ وإعادة إنتاج الأزمة

 


عمر قدور *

سقطت المراهنة على قمع الانتفاضتين التونسيّة والمصريّة بواسطة الجيش، بعد عجز أجهزة المخابرات عن القيام بدورها، وهذا لا يعني تلقائيّاً فشل أجهزة الأمن في دول أخرى أو دوراً مماثلاً للجيش، لذا يبقى الخيار الأمنيّ للقضاء على الانتفاضات فيها ماثلاً ولا يفتقر إلى فرص النجاح بالمعنى المباشر للكلمة، بخاصّة عندما لا تبلغ الانتفاضة حدّ العصيان الشعبيّ العامّ. وفي الواقع، أدّت الاحتياطات التي اتّخذتها الأنظمة إثر سقوط النظامين التونسيّ والمصريّ إلى زيادة ملحوظة في عدد الضحايا، وأحياناً بما لا يتناسب أبداً مع حجم الاحتجاجات، أي أنّ الأنظمة الأمنيّة الباقية أخذت العبرة وباتت أكثر تصميماً من سابقاتها على سحق الاحتجاجات في المهد.

قد تنجح أنظمة عربيّة في ما فشلت فيه أنظمة أخرى، لكنّ هذا الاحتمال بدوره لا يخلو من المخاطر الحالية أو المستقبليّة، فاعتماد الحلّ الأمنيّ خلّف حتّى الآن عدداً باهظاً من الضحايا، وإذا أجادت الأجهزة الأمنيّة قمع التحركّات الشعبيّة وإخمادها تماماً، فهي لن تقدر على قمع النقمة المتزايدة باستمرار، وقد تعود الاحتجاجات على نحو جذريّ وحاسم يُفقد النظام أيّ فرصة للمساومة، آخذين في الحسبان أنّ الأنظمة التي سقطت أهدرت أيضاً كل فرص التسوية، ولم تلجأ إليها أصلاً إلا بعد فوات الأوان. ومن المستبعد تماماً أن تنجح الأنظمة في سحق الاحتجاجات ميدانيّاً، ثمّ تباشر بإصلاحات حقيقيّة في مجال الحريّات الديموقراطيّة، وإلا لما كانت لجأت إلى الحسم الأمنيّ. أمّا الحديث عن عدم اتّخاذ الأنظمة إجراءات إصلاحيّة تحت الضغط الشعبيّ، وأنّ نظاماً قويّاً هو الأقدر على فرض الإصلاحات، فذلك يدخل في باب المخاتلة السياسيّة المبتذلة ليس إلا.

من جهة الأنظمة العربيّة، كان الحلّ الأمنيّ هو الحلّ الأسهل مقارنة بتجرّع مخاطر التغيير، ونكاد لا نجد سلطة عربيّة لم تختبر هذا الحلّ خلال عقود من وجودها، وكان لنجاعته تجاه التنظيمات المعارضة دور في تكريسه كنهج دائم، لكنّه لم يكن بلا تكلفة عالية على المجتمع والسلطة معاً. فقد اعتُمد الحسم الأمنيّ على نطاق واسع بدءاً من سبعينات القرن الماضي، وحيثما استُخدم هذا الحلّ، فإنّه أدّى إلى تضخّم الأجهزة الأمنيّة، وازدياد تدخّلها في مناحي الحياة كافّة، ونزوعها المطّرد إلى الإمساك بمفاصل السلطة والمشاركة في اقتسام مغانمها. وهكذا لم يتوقّف الحضور الأمنيّ عند الحالات الطارئة التي ألمّت بالنظام، بل تعدّاها إلى خلق حالة طوارئ مستمرّة تعوق العودة إلى حالة ما قبل الأزمة.

إثر كلّ تهديد ألمّ بنظام عربيّ ضعف المستوى السياسيّ في السلطة لحساب المستوى الأمنيّ، وشاعت ظاهرة مراكز القوى الموزعة بين المخابرات والجيش، بحيث صار المستوى السياسيّ أكثر ارتهاناً لـ «ذراعه الضاربة». ومن المنطقيّ ألا يكتفي أمراء الحروب الداخليّة المنتصرون بمكانتهم السابقة وحسب، فنراهم يسعون إلى إضعاف المستوى السياسيّ ما أمكنهم ذلك، وفي كثير من الحالات نجا المستوى السياسيّ للسلطة من خطر المعارضة ليقع تحت التهديد الخفيّ للأجهزة الأمنيّة التي صنعت له النصر، وكأنّ التنازلات التي أبى الحكم تقديمها للمعارضة لا بدّ من «افتدائها» بتنازلات من نوع آخر. ولا تقتصر مطامع الأجهزة على المشاركة في القرار السياسيّ، فمن الملاحظ في هذه الحالات استشراء الفساد العامّ وتعويمه، لأنّه هو الذي يسمح لها بمكافأة نفسها خلافاً لأي قانون.

في وسعنا استحضار المثال السوريّ في ثمانينات القرن الماضي كنموذج لما سبق، فقد تآزرت الأجهزة الأمنيّة والقوّات الخاصّة للجيش في القضاء على حركة الإخوان المسلمين آنذاك، لكنّ هذه المعركة أفرزت شخصيّات أمنيّة وعسكريّة باتت عبئاً على الدولة والحكم بما جسّدته من سطوة فجّة وفساد فاضح. لقد استدعى ذلك من رجل دولة محنّك كالرئيس الراحل حافظ الأسد حوالى عقد من الزمن كي يتخلّص من تلك الشخصيّات بالتدريج، مستفيداً حينها من تنافس الطامعين وعداواتهم البينيّة ومن إرثه الشخصيّ كرئيس قدم من المؤسّسة العسكريّة. ومع أنّ الأمر استتبّ للقرار الرئاسيّ، إلا أنّ آثار الأزمة لم تتلاشَ بالسرعة نفسها، فعانت البلاد من ترهّل الأجهزة الأمنيّة واعتيادها على كونها فوق القانون مع ما يتبع ذلك من إفساد ما لم يفسد بعد. وإذا كانت الأجهزة الأمنيّة وسيلة الحكم للحسم آنذاك، فإنّها تحوّلت إلى مصدر لأزمة مستدامة، وليس من المغالاة القول إنّ جزءاً أساسيّاً من الأزمة الحالية يرجع إلى بقاء النظام الأمنيّ حتّى مع انتفاء الحاجة الواقعيّة اليه.

لا شكّ في أنّ الأزمة الحالية التي تعصف بالأنظمة العربيّة مختلفة عن مواجهاتها السابقة لتنظيمات محدّدة ومحدودة، إذ تنأى الانتفاضة الحاليّة عن المفهوم المتداول للخصومة السياسيّة لتضع الحكم في مواجهة الشعب، وهذا ما دفع بالأنظمة الأمنيّة إلى إطلاق اتّهامات بائسة في خصوص وجود قوى معيّنة وراءها لتتخلّص من القيمة المعنويّة والأخلاقيّة التي يجسّدها الشعب. ربّما ينجح بعض الأنظمة، بالاستخدام المفرط للقوّة، بإعادة الشعب إلى بيت الطاعة موقّتاً، مع أنّ هذا الاحتمال لا تثبته مجريات الأحداث، وإن حدث ذلك تبقى العبرة في ما بعد إعادة الناس إلى بيوتهم، لأنّ النظام الذي سيتجاوز الأزمة سيكون هذه المرّة فاقداً للشرعيّة، لذا سيتضاءل المستوى السياسيّ في الحكم إلى حدّ غير مسبوق، وسيواجه معضلة جوهريّة من حيث أنّه سقط فعلاً على رغم استمراره في السلطة.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى