صفحات سوريةفراس قصاص

الحياة السياسية السورية وتصويب المسارات/ فراس قصاص

 

 

يمكن القول،دون ريب،إن أحد الأسباب التي أودت بثورة السوريين إلى هذه الأوضاع المأساوية،هو عدم قدرة المعارضة السورية على التأثير بالوضع الثوري والتدخل لتصويب مساراته،ومنحه وجهة سياسية اجتماعية تقود إلى تحقيق أهداف الثورة ورهاناتها الأساسية إبان اشتعالها الأول،كما لا يصعب القول،أن لهذه المعارضة حصتها في مسؤولية الدفع بالواقع السوري إلى هذا الدرك الوعر والمرعب ،الذي لا يطاق أو يحتمل على كافة الصعد،فصراعاتها البينية،وانحيازاتها العصبوية،وتقمصها لأخلاقيات النظام،الذي تقول بأنها تقف على النقيض منه وتناهضه، كل ذلك أنتج آثارا كارثية على عملية إدارة ملف الثورة،لجهة إفشالها وتقويض نجاعتها وإفراغ محصلاتها التي كان لها أن تفيد في عملية المضي قدما نحو تحقيق الحرية والكرامة في مستقبل سوري واعد لا استبداد فيه .

وإذا كان الكثير من العارفين بالشأن السوري،يميلون إلى اعتبار الأحزاب المعارضة السورية مجرد ضحية للنظام السوري الذي قمعها ولم يسمح لها طوال عقود حكمه بامتلاك خبرة العمل السياسي،تفيد عديد من المؤشرات أن أزمة المعارضة السورية ، أعمق من ذلك ، وأن هناك عوامل متعددة بما يكفي لاعتبارها تنتمي إلى حيز أوسع،عنوانه،فشل التجربة الحزبية بكليتها في سوريا،وأن المشكلة الجذرية في تلك التجربة تعود إلى أن الحزب الذي عرفته سورية وغالبية الدول العربية ،بوصفه أداة تنظيم وتدخل وفعل في الحقل العام،لم يتبلور كناتج أدواتي وتنظيمي عن التجربة الاجتماعية العربية والسورية ، و إنما انبثق من خبرة المجتمعات الغربية،في سياق عمليات التحديث التي طاولت الاجتماعي السياسي الأوربي ، تلك التي أفرزت الحزب،إما تاليا،أو متزامنا،مع إعادة تشكل للشخص البشري في الغرب،متجاوزا للعصبيات القروسطية والهويات العتيقة، فالأحزاب كانت قد نشأت وتطورت،في سياق طبيعي ومفهوم،عن كتل برلمانية كانت قد تشكلت كحصيلة عن ممارسة انتخابية ديمقراطية.لذلك فالتأطير التنظيمي للأفراد الحاصل في عملية التحزب،كان يتم بشكل يتواءم مع التوازن النسبي الحاصل في تلك المجتمعات،بين الحرية الفردية كقيمة فلسفية و بين ما يتطلبه انتماء الفرد إلى المجتمع من مسؤوليات بينية،هذا التوازن الذي أسس له عقد اجتماعي حدد الأدوار والوظائف والحدود بين الفرد والمجتمع والدولة،بشكل يحقق الإجابة الممكنة على إشكالية الحرية والسلطة.لذلك فمن الطبيعي بمكان والحال هذه،أن تؤول العلاقة بين الفرد والحزب ،وبين المجتمع والحزب في العالم الغربي ، تفاعلية/تمثيلية وصائبة،لتكون منتجات هذه العلاقة في السياسة والمجتمع في العموم ايجابية يمكن تطويرها وتصويبها باضطراد ،أما اجترار البنية الحزبية الغربية وتقمص حالتها في المجتمعات التي لم تطلها تأثيرات الحداثة في البنية المعرفية للأفراد،و لا في وعيها الجماعي،كما هو الحال في سوريا،فلن يقود ذلك كنتيجة، إلا إلى إنتاج أبنية «حزبية» عصرية شكلا، لكن بمكونات تلفيقية، غير منسجمة وهشة،أبنية غير قابلة للحياة والتأثير في المجتمع،ما خلا انضواءها في عصبيات جديدة تعكس جوهر ومضامين التناقضات الكامنة في مجتمعاتها، وبما يجعلها قابلة للمصادرة والتوظيف ،فيما يحول كمحصلة دون قيامها بوظيفتها الحديثة وأدوارها المهمة.ولعل في هذه الخلاصة و ما سبقها أعلاه ،ما يشكل قاعدة لتفسير العديد من المشاهد المرتبطة بالحياة الحزبية في سوريا ، في طرف النظام كما في طرف المعارضة السورية . فالانشقاقات و الاصطفافات، التي لم تعكس في جوهرها انحيازات محمولة على السياسة والمشروع السياسي، وإنما على ما تستبطن من عصبيات طائفية أو مناطقية أو عرقية، كما كان يحصل في معظم الأحزاب التي تقف خارج السلطة،كانت محمولة على ذات المحور المعلل لتحويل حزب النظام إلى واجهة لسلطة قمعية مافيوية والاستيلاء الدائم عليه من قبل أفراد، لا يلبثوا أن يورثوا مواقعهم فيه، إلى عائلاتهم وذويهم وأبنائهم ،و لذلك أيضا، ليس مستغربا البتة رصد تشابه مثير ،في العلاقة الصورية مع القيمة الديمقراطية وسيطرة عقلية الإقصاء والاستحواذ والشللية والتخوين،بين مختلف التيارات الحزبية،رغم تنوع منابتها العقائدية،و أيضا عدم قدرتها على التفاعل الجماعي المنظم المثمر بينها،كل ذلك يشي بأن جل هذه الأحزاب محكومة بذات الوجهة المعرفية المحددة للسياسة لدى كل منها،رغم التناقض الظاهر في الأرضية السياسية والأيديولوجية فيما بينها،ويؤكد أن فشل التجربة الحزبية في سوريا كما في غالبية مجتمعات الشرق الأوسط ،إنما يعود إلى العامل المعرفي الابتسمولوجي المحدد لوجود هذه المجتمعات وموقفها من ذاتها ومن العالم ومن مشكلة المعرفة بما تعنيه من شمولية وعمق فلسفي،وليس إلى عوامل هي في الحقيقة مجرد أعراض تعود للجذر المعرفي ذاته .

وما يمكن التقرير بشأنه خلاصة في موضوع هذه السطور ، أنه حتى يتمكن الحزب من القيام بوظيفة فعالة في أي مجتمع يفتقد التأطير المدني العقلاني لوجوده كمجتمعاتنا،لا بد من تبيئته،حتى يأخذ أدوارا ووظائف،ويتبع وسائل تأثير تنسجم مع بنية هذه المجتمعات وروحها،ليعمل ويتفاعل في اتجاهين،الأول يضمن عدم الانفصال عن الواقع والوعي بمقتضياته واكراهاته،و الثاني يعنى بما تطرحه مقتضيات النهوض بذاك الواقع والسير إلى الأمام والمستقبل حيث آفاق جديدة للتجاوز و التقدم .دون ذلك ستظل البنى الحزبية في هذا البلدان تأكل ذاتها وتنتج أزماتها المتكاثرة،دون نهاية ممكنة وواضحة.

فراس قصاص – ناشط و عضو رابطة الصحافيين السوريين

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى