صفحات الثقافةعبد الوهاب عزاوي

الحياة بأسنانها اللبنية/ عبد الوهاب العزاوي

 

 

“سأخبر الله بكل شيء”، ظاهرة اجتاحت الـ”فايسبوك” عند السوريين ثم العرب عبر العديد من الصفحات، كتكثيف حادّ للأزمة السورية ولهمجية النظام السوري المشفوعة بإهمال دولي، واستغلال ديني لها، مع خلطها بقصص أخرى وفيديوات عن أطفال ذُبِحوا وقُنِصوا ورُدِموا أحياء، في سياقٍ يسعى إلى تبرير الانتقام أولاً، ثم تعدّت الظاهرة هذه الحدود لتنتشر عالمياً، حتى أن أحد المغنّينRévi Sándor Sunny قدّم أغنية خاصة لها. نُسبت عبارة “سأخبر الله بكل شيء” الآسرة، إلى طفل سوري عمره ثلاث سنوات، في حالة احتضار، ولم يتم التأكد من صدق روايتها. لكن العبارة أمست ظاهرة تتعدى الطفل، لتصير أسطورةً لشعبٍ يُشرّد. ذروةُ التناقض في هذه القصة، ليست في الظلم الذي يطال البراءة، وليست في صمت الناس وعجزهم، وليست في الجريمة “المطلقة”، بل في الذهاب إلى الحدود القصووية في التناقض حيث ينكسر توازن العالم. لا يمكن الطفل قبل موته أن يصدّق أن الله يعلم بما جرى، ولم يتدخل. لا يمكن أن يكون “السميع العليم” عالماً بكل هذا الظلم. الجنة والحوريات وأنهار الخمر والعسل لم تعد تكفي كتعويض. طيور الجنة كذلك. ما سيأتي لم يعد مهماً لأن الطفل- سوريا غارق في القهر. الحياة الآن هي ما يفكر فيه الطفل قبل موته، في ما سيفعله الله لهذه الحياة بعد أن يخبره بما حصل؛ الحياة بأسنانها اللبنية، وجسدها الغض. إذاً، التناقض موجود في نفي صفة من صفات الملكوت واللجوء إليه في آن واحد. اللجوء إلى الأب “الغائب” الذي سيعيد إلى العالم توازنه المريض حالما “يعود”. الطفل- سوريا يبحث عن هدنة مع القهر، هدنة عابرة قبل الموت. لا تهدف هذه المادة إلى نقاش الأفكار الدينية، بل تسعى إلى الانتباه إلى الأسئلة الوجودية التي تصاغ بالدم واللحم في سوريا، لتنتقل من رفاهية التأمل إلى الصادم، والحاد، كالنصل. أسئلة تفرض نفسها، تُطبق على الصدر فجأة، كسقفٍ ينهار، ولا تأتي من مسنٍّ أو روائيٍّ حكيمٍ بالضرورة يختزل تجربة حياةٍ وتقاطعات حيواتٍ واختياراتٍ عدة، بل من طفلٍ بثلاث سنوات على كتفيه، من دون أن يتاح له أن يمتحن الحياة، أو أن يفركها بين أصابعه. أسئلة سيهملها العالم مرةً أخرى، ويتذكرها في المناسبات كرموزٍ للمقارنة والتعاطف العابر.

سيل من الأسئلة الوجودية في بلد يغرق في سيلٍ بصري موجع يفوق الكتابة؛ أسئلة تتجاوز الكاتب والكتابة حيث التجربة أكبر من الكتابة، والشرط الإنساني عبثيّ سوداويٌّ، مستقطبٌ وحادّ، وخاضعٌ لمؤثراتٍ شديدة التطرف، ذاتية وموضوعية، كمنطق القذائف الأعمى. في مثل هذا البلد لا تخسر الأسئلة الأولى كـ”الحرية” ضرورتها أو وفاء بعضنا لها، لكنها تضيع في متاهاتٍ عدة، أو ببساطة تُهمَل، ويتم التنكّر لها أحياناً، وقد تُصادَر باسم الثورة والدين، وللأسف قد يتم القتل باسمها أحياناً أخرى. النظام السوري الدموي والمتوحش خلق وحوشاً أخرى تدور معه في دوامة العنف. سلّم البلد للتطرّف الديني الذي يقدر على الصمود في وجه همجيته. إرهابان يكمّلان الحلقة التي تضيق على عنق البلد ويقويان أحدهما بالآخر. أسئلةٌ عميقة في بلدٍ خسر مرجعياته وإيديولوجياته القديمة التي أثبتت فشلها، ولم يفلح في اكتشاف أخرى جديدة من داخله ولأجله. أسئلةٌ عميقة من دون أجوبة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى