محمد تركي الربيعومراجعات كتب

الحي الشعبي وتحولات الهوية القومية: تفكيك شخصية «ابن البلد» في السينما المصرية/ محمد تركي الربيعو

 

 

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أخذت القاهرة تجذب عدداً كبيراً من الباحثين الغربيين، وشرق الأوسطيين ممن يدرسون في جامعات غربية، ويعملون في مجال دراسات الشرق الأوسط، والأنثربولوجيا، وغيرها من التخصصات. هذا التدفق، لم يأت فقط لما تمتعت به مدينة «أم الدنيا» من أهمية تاريخية وثقافية وسياسية؛ إذ ساعدت ظروف القتل والقمع الذي كانت تعيشه بعض المدن العربية في تلك الفترة مثل دمشق والخرطوم وبيروت، أو الإقليمية مثل طهران بعد أحداث الثورة الإسلامية التي عاشتها المدينة في ظل 1979، على أن تتحول المدينة، التي كانت تعيش آنذاك في فترة هدوء نسبي مقارنة بباقي المدن السابقة، مكاناً مناسباً، وبديلاً، لاستكمال دراساتهم. كما أن توفر تمويل لدراساتهم الميدانية، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978 أخذ يعزز من فكرة تحول مدينة القاهرة بشوارعها ومطاعمها وأفلامها، لورشة عمل بحثية، تجمع عدداً كبيراً من الباحثين وبتخصصات متعددة، في دراسة وإعادة النظر بحياة المدينة العربية وشرق الأوسطية خلال المئة سنة الأخيرة.

جل هؤلاء الباحثين، تأثر ببحوث حقبة الاستعمار، وبالأعمال النقدية لحقبة ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، التي تقوم بتحليل السلطة وأشكال خطابها وممارساتها، في المجال العام، والسينما، وتخطيط المدينة وأماكن الترفيه. هذا التأثر والحفر اليومي في حيوات حواريها وأهلها، ساعد من جهة على تأسيس معرفة نقدية، حول عدد من الأساطير التي نسجتها السلطة الاستعمارية/الوطنية حول أهلها، وعشوائياتها، والإسلام اليومي، والفقراء، وأحلام بعض شرائحها العولمية. الأهم من ذلك، أن هذا الجهد عمل على تحقيق تراكم كبير من الأبحاث الميدانية، ورسائل الدكتوراه، عن المدينة، وهو تراكم فريد وغني، إذا ما قورن بالأبحاث التي أنجزت حول مدن عربية أخرى؛ كما أنه تراكم ما يزال يدهشنا إلى يومنا هذا، سواء عبر ما يصدر من كتب حول المدينة، وباقي المدن المصرية باللغة الإنكليزية، أو تلك التي يعكف المركز القومي للترجمة منذ سنوات عديدة على ترجمتها للعربية.

الحارة المصرية

«الحارة في السينما العربية 1939 ـ 2001» لمي التلمساني أستاذة دراسات السينما العربية في جامعة أوتاوا، كندا، هو واحد من الكتب، يمكن القول من خلال مقاربته، والمراجع المعتمدة في متنه، أنه يمثل استكمالاً للجهود السابقة، وإضافة جديدة في حقل الدراسات حول حكاية حياة القاهريين في السينما.

تقوم الفكرة الأساسية لهذا الكتاب، على مدخل مواز للرؤية التي طرحها بندكت اندرسون في كتابه «الجماعات المتخيلة»، التي ترى أن النص المطبوع لعب دوراً كبيراً في خلق هوية متماسكة عند الإنكليز، من خلال ما سماه أندرسون «الشعور بالانتماء للجماعة، رغم الجهل بأفرادها». فالتمثيل الخيالي للجماعة يتشكل في صمت من خلال طقوس متكررة، تتشارك فيها جماعة تجمعها هوية بلا اسم؛ فقراءة الجريدة في الوقت نفسه – هي في نظر الإنكليز إحدى دلائل التلاحم والانتماء. وفي مقابل المطبوع لدى أندرسن، ترى التلمساني، أن السينما المصرية قد أثرت أكثر من المطبوع في تعريف الهوية في مصر فحضور السينما من ناحية هو فعل طقوسي يتم في قاعة مظلمة، وفي صمت، عبر أفراد لا يعرفون بعضهم بالضرورة: أما الفيلم السينمائي هنا، فهو عبارة عن عملية يتم من خلالها استعراض تفتيت شوارع المدينة، والترويج لأفكار وأنماط حول الشخصية المصرية.

رغم ذلك، فإن هذا الترويج وفقاً للتلمساني لم يكن يروم إلى خلق وعي جمعي مصري، شبيه بالجماعة المتخيلة الأوروبية، بل كان الهدف هو توظيف سحر السينما في خدمة برنامج سياسي، تارة يدعو للاشتراكية (جمال عبد الناصر)، وأخرى للفكر الليبرالي (أنور السادات).

يمثل تفكيك التلمساني لشخصية ابن البلد في السينما المصرية خير تعبير عن رؤيتها السابقة؛ فصورة الشاب «الجدع» التي اختارها العديد من السينمائيين لتمثل الهوية القومية ولكي تضفي بعداً اسطورياً على فكرة الجماعة. خرجت للوجود في البداية مع فيلم «العزيمة» (1939)، الذي جاء في لحظة تاريخية حاسمة سعت فيها الحركات القومية والأحزاب السياسية إلى إعادة رسم ملامح الهوية المصرية، لمواجهة الاحتلال الإنكليزي والطبقة الارستقراطية المسيطرة، وهي طبقة نصف إقطاعية نصف صناعية.

الطبقة، الملبس، التعليم، ثلاثة عناصر ستلعب دوراً – وفقاً للتلمساني- في صياغة ملامح ابن البلد، والتغيرات التي طرأت عليها في القرن العشرين. بداية ينتمي ابن البلد إلى فئة مستقلة تلتقي إلى حد ما والبرجوازية الغربية الصغيرة، وتختلف عن طبقة الفلاحين وطبقة البورجوازية من أفنديات المدن بسبب أنواع المهن التي يمارسها ابن البلد. ابناء البلد الأكثر ثراء هم (أصحاب المقاهي والتجار، والجزار، والفاكهاني، والفران)، والأكثر فقراً هم الباعة، والمكوجي، والحرفي، والراوي الشعبي، والحلاق، وصبي الميكانيكي. أما بالنسبة للفتوة الذي يمثل أحد فصائل أولاد البلد، فهو ينتمي أصلاً إلى الطبقة الشعبية الفقيرة، غير أن وضعه المالي يتحسن بمجرد استغلاله لقوته الجسدية في حماية أهل الحارة وممارسة عمل مربح يرتبط عادة بالتجارة.

يعتبر عنصر الملبس من الخصائص المميزة لشخصية ابن البلد، بغض النظر عن المكان أو السياق التاريخي، كارتداء الجلباب والطاقية، والتحدث بالعامية واستخدام الحركات والإيماءات المبالغ فيها للتعبير عن المشاعر باليد والوجه والجسد. ثم ما لبثت أن تحولت هذه السمات بفعل التكرار في السينما التجارية إلى كليشيهات ثابتة لا يحيد عنها المخرجون إلا نادرًا، قبل أن تعاود الانحسار في أعمال خيري بشارة ورضوان الكاشف وعاطف الطيبة، وفي أفلام جيل الثمانينيات بصفة عامة، إذ أصبح ابن البلد يرتدي مثله مثل الأفندي؛ قميصاً وبنطلوناً رغم احتفاظه بطريقة الكلام نفسها وبأسلوب تصرف ابن البلد في أفلام صلاح ابو سيف ونيازي مصطفى القديمة.

اللهجة العامية لابن البلد تتميز بنبرة ومفردات خاصة، كما تكثر فيها الكلمات الجديدة التي تعكس الروح المجددة والجريئة أحياناً للممارسات اللغوية لأبناء البلد، والحديث عادة ما يكون ودياً يراعي قواعد الذوق واللياقة، ويبرز فيها المتحدث غالباً في صورة الشخص الودود الساحر والمستمع في صورة الشخص المتفهم دائماً، أما الكلمات الجارحة التي يتم تبادلها في المشادات، فسرعان ما تحل محلها الأحضان ومظاهر الود والمصالحة، إذ أن أهم قيم الحارة التقليدية في السينما هي قيمة التضامن. أما على مستوى التعليم، فقد يحصل ابن البلد على قدر من التعليم لا يتعدى المرحلة الابتدائية، ولكن إن وصل إلى المرحلة الجامعية، فإن طبقته تعتبره غريباً عنها لأنه هو نفسه يبدأ في التنصل من هويته، ويعتبر لقب ابن البلد إهانة له.

تلاشي صورة ابن البلد

ترى التلمساني، أنه في نهاية السبعينيات وفي الوقت الذي رسخت فيه مصر تبعيتها أو شراكتها وفقاً للأيديولوجية الليبرالية تحت حكم السادات، بدا مفهوم الهوية المنسوج حول قيمة ومكانة ابن البلد – الذي ساد في فترة الحكم المملوكي والحكم الناصري- في التلاشي. لقد أبرز الخطاب الساداتي في السبعينيات ضرورة تصحيح مسار ثورة يوليو/تموز وإرساء قواعد دولة العلم والإيمان، وخلق فئة من رجال الأعمال والمستثمرين الموالين لتحل محل كبار موظفي الدولة في العهد الناصري. وكان لا بد هنا من أن تشهد معايير التقييم والتعريف المحددة للهوية تحولاً مهماً في أعقاب ليبرالية السبعينيات العشوائية، وكان ابن البلد هو أول من تكبد أثر هذا التحول.

يمثل فيلم «انتبهوا أيها السادة» 1980 للمخرج محمد عبد العزيز، الجدال الذي خلقته سياسات السادات، والدعوة التي أطلقها البعض لمواجهة طائفة ابن البلد الجديدة، طبقة الأثرياء الجدد غير المتعلمة. كما في فيلم «انتبهوا أيها السادة» (محمد عبد العزيز 1980).

لاحقاً، أظهر المخرج رضوان الكاشف – أحد أعضاء الجماعات الطلابية الماركسية في السبعينيات- من خلال فيلمه «ليه يا بنفسج» 1992 الانقسام الذي أخذت تعيشه مصر بعد سياسات اللبرلة، عبر شخصية علي ابن الحارة الذي أفسده المال والذي يرمز لمعايير النجاح الجديدة التي طرأت على الحي. يعود علي للحارة ليلقى حتفه بين أصدقائه بطريقة مفجعة في نهاية الفيلم. وتعود حياة الأصدقاء إلى سابق عهدها، بلا أحلام يغذيها طموح النجاح الذي كان يمثله في أعينهم صديقهم علي، فنراهم في آخر مشاهد الفيلم يعودون إلى التلة المهجورة في أطراف الحارة، حيث كانوا يجتمعون للتدريب على أداء أغاني الأفراح، وأحلام الاشتراكية، قبل أن تأتي موجة اللبرلة لتقلب حياتهم وهوياتهم.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى