إياد الجعفريصفحات المستقبل

الخاسر الأكبر في مفاوضات جنيف/ إياد الجعفري

تعرّف الأدبيات المتخصصة بفنون التفاوض، منهج التفاوض بأنه التحرك الحذر من الوضع المفروض إلى الوضع المأمول، للوصول إلى الوضع المقبول.
بمعنى آخر، فإن كل طرف يقبل بمبدأ التفاوض، يعني أنه يئس من الوصول إلى الوضع المأمول بالنسبة له، وهو يسعى للوصول إلى وضعٍ مقبولٍ. لكن الوصول إلى ذلك الوضع يتطلب تحركاً حذراً على أساس الوضع القائم، على أن يضع الطرف المفاوض في قائمة أهدافه، الوصول إلى ما يأمل، كي يحصل على ما يمكن أن يقبل به، ولو على مضض، في نهاية المطاف.
عملية التفاوض، هي إقرار بالعجز عن تحقيق المُراد للأطراف المتفاوضة، لذلك يمكن أن نفهم تعنت بعض الأطراف السورية في الذهاب إلى مفاوضات جنيف، والتلكؤ حيالها. فالمعارضة حينما تذهب إلى جنيف، فهي تقرّ حقيقةً بأنها لن تستطيع إزاحة نظام الأسد وإحلال نظام بديل عنه، يمثلها كُليةً، كما كانت تأمل. كما أن نظام الأسد، حينما يضطر للذهاب إلى جنيف، فهو يقرّ بصورة غير مُعلنة، بأنه عاجز عن إستعادة كامل سوريا، وإحلال سلطته المطلقة عليها، على خلاف ما صرّح به بشار الأسد بخصوص مطامحه، منذ مدة.
وبناء على التعريفات النظرية الشائعة لعملية التفاوض، نفهم لماذا تلكأ نظام الأسد قبل مفاوضات جنيف، ولماذا اضطرت روسيا للضغط عليه، عبر إعلان الانسحاب الجزئي لقواتها من الأراضي السورية. فالوضع المقبول بالنسبة للمعارضة في مفاوضات جنيف، في حدوده الدنيا، لا يمكن أن يكون أقل من تنحي الأسد وخروجه من الحياة السياسية السورية، في نهاية المرحلة الانتقالية، في أسوأ الأحوال. ورغم ذلك، لا تقرّ المعارضة بهذه النقطة، وهي تصرّ على أن يخرج الأسد من الحياة السياسية السورية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية. لكن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، اللتين تبدوان حريصتين على نجاح العملية التفاوضية في جنيف، تقرّان بهذه الحقيقة، نقصد، رحيل بشار في نهاية المرحلة الانتقالية، باعتباره الحد الأدنى المقبول لتحقيق تسوية سياسية. فروسيا رفضت تصريحات مسؤولي نظام الأسد حيال كون “الأسد خط أحمر”، فيما قبلت الولايات المتحدة الأمريكية تأجيل مناقشة مصير الأسد ليكون إحدى قضايا التفاوض، بدلاً من أن يكون أحدى شروط، الأمر الذي يحدد بوضوح أن الطرفين وصلا إلى تسوية غير معلنة، تجعل بشار الأسد، في أسوأ الأحوال، جزءاً من العملية الانتقالية، لكن من الصعب أن يكون جزءاً مما بعدها.
بكل الأحوال، مهما كانت نتائج العملية التفاوضية، إذا أخذنا بالاعتبار الحد الأدنى المقبول، بأسوأ الأحوال، في اعتبارات المعارضة، يبدو أن بشار الأسد سيكون الخاسر الأكبر، ففي نهاية المطاف، على الرجل أن يخسر سلطته، ويبدو أن روسيا غير معنية ببقائه بقدر ما هي معنية ببقاء مؤسسات النظام، الأمنية والعسكرية، بصورة تضمن لها نفوذها، عبر علاقاتها برموز هذه المؤسسات. وتتفق الولايات المتحدة الأمريكية مع الروس في هذا التصور، فهم معنيون ببقاء مؤسسات الجيش والأمن، بصورة تضمن استخدامهما مستقبلاً، للحفاظ على ضمان أمن حدود إسرائيل وفق الترتيبات المعتمدة مع نظام الأسد منذ عقود، إلى جانب الاستفادة من خبرات أجهزة الأمن السورية الضخمة في مكافحة “داعش” وتنظيمات متطرفة أخرى، وفق المنظور الأمريكي – الأوروبي، على الأقل.
في السياق نفسه، تذكر أدبيات التفاوض أن من أبرز خصائص العملية التفاوضية، أنها أداة لفض النزاع، لكن استمرارها مرهون باستمرار المصالح المشتركة بين المتفاوضين، الأمر الذي يعني، عند إسقاط ذلك على الحالة التفاوضية في جنيف، أن التفاوض عملياً يتم بين حلفاء الطرفين، وليس بين الطرفين، إذ، أين مصلحة بشار الأسد في مسار تفاوضي سيؤدي في أحسن الأحوال، بالنسبة له، إلى مغادرته السلطة في نهاية المطاف؟، هنا يتضح أن صاحب المصلحة الرئيس، في مفاوضات جنيف، من الجانب الأول، هو روسيا تحديداً، وربما بنسب أقل، إيران، بحيث يضمن الطرفان لهما نفوذاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في سوريا، عند تشكيل التكتل السياسي الحاكم مستقبلاً، وهو ما ينطبق تماماً على الغرب وحلفاء المعارضة الإقليميين.
بمعنى آخر، يبدو أن المصلحة المشتركة في استمرار العملية التفاوضية، وإنجاحها، هو بين روسيا وإيران من جهة، والغرب وحلفاء المعارضة الإقليميين، (السعودية وقطر وتركيا)، من جهة أخرى. فهذه الأطراف توافقت، كما يبدو، على ضرورة إنهاء النزاع بسوريا.
يبقى أن النقطة الشائكة المتعلقة بمتى سيرحل الأسد؟، قبل البدء بالعملية الانتقالية، أم خلالها، أم في نهايتها؟، هذه هي العقدة الرئيسية، وهي عقدة سيتوقف تحديد كيفية حلها، على مدى قدرات الطرفين التفاوضية،.. وأقصد هنا تحديداً، مفاوضي نظام الأسد، ومفاوضي المعارضة. فقدرة كل طرف منهما على إثبات جديته، وتقديم مقترحات عملية لإنجاح التفاوض، قد تعزز من مدى تقييم الأطراف الدولية والإقليمية له، كلاعب مؤثر ومفيد في الساحة السورية. بكلمات أخرى، من سيسعى لإفشال المسار التفاوضي، سينظر له، حتى حلفاؤه، على أنه عامل سلبي، يجب لجمه، أو في أسوأ الأحوال، تقويمه. وهو ما اتضح جلياً حينما ألح مسؤولو نظام الأسد قبل بدء المفاوضات على عدم مناقشة المرحلة الانتقالية، ومصير الأسد، وما تلا ذلك من خطوة روسية، أخذت منحى تأديبياً لنظام الأسد.
وبناء على ما سبق، في حال أثبت نظام الأسد، عبر قيادته المتمثلة ببشار، أنه عامل تعطيل ومماطلة للتفاوض، فإن ذلك قد يعني تحولاً نوعياً في مواقف اللاعبين الدوليين حياله، وفي مقدمتهم روسيا.
المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى