رشا عمرانصفحات سورية

الخراب بوصفه أول العلاج/ رشا عمران

 

لم يتح، ولا مرة واحدة في نحو خمسة قرون، منذ بداية الاحتلال العثماني لمنطقة الهلال الخصيب، للفئات المكونة لهذه المجتمعات، أن تعيش انتماءاتها الماقبل وطنية بعلنية ووضوح، وتحت لافتة المواطنة والدولة التي تمنح لمواطنيها حقوقهم كافة، وحريتهم في التعبير والرأي والعبادة والاقتناع، لم يتح لهذه المكونات اكتشاف صواب انتماءات كهذه، ومعرفة إيجابياتها وسلبياتها، ما يسمح لها باختيار الشكل الاجتماعي والسياسي المناسب لحياتها، تبعاً لرفضها هذه الانتماءات، أو لتعلقها بها، قناعةً وإيماناً، لا اضطراراً بسبب الخوف وانعدام الشعور بالأمان الوطني، إذ فرض الاحتلال العثماني، طول أربعة قرون، عباءة الإسلام العثماني وفتاويه على سكان هذه المنطقة، بكل تنوعاتهم واختلافاتهم المذهبية والطائفية، فغابت تحت تلك العباءة كل التفاصيل التي يمكنها أن تُحدث تمايزاً محفزاً للتنافس والتطور والارتقاء بالمجتمع، تلك التفاصيل التي تتشكل منها الأوطان الحديثة، الخوف من قبضة السلطنة العثمانية ورهبتها لم يترك في نفوس سكان هذه المجتعات سوى الشعور بالدونية التي تدفع نحو مزيد من التقوقع والاحتماء المرضي بالانتماءات الصغيرة الضيقة، أو التملق لسلطة السلطنة، دينياً وسياسياً، للقبض على الإحساس بالأمان الذي يحلو له التسرب والرحيل في المجتعات غير المتحققة، مثل مجتمعات هذه المنطقة.

وبعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الامبراطورية المريضة العجوز (العثمانية) على يد دول الحلفاء الأوروبية الشابة وقتها، تم نزع غطاء الإسلام العثماني العابر للحدود السياسية والجغرافية عن منطقة الهلال الخصيب، ليجد سكانها أنفسهم، فجأة، مقسمين وموزعين ضمن حدود سياسية وجغرافية، لم يستشرهم أحد قبل تكريسها، واعتبارها أمراً واقعاً، تتوج بخلق الكيان الإسرائيلي في قلب المنطقة ذات التنوع المذهبي والإثتي المذهل، وجود دولة محتلة كدولة إسرائيل حيّد، إلى حد كبير، من الاهتمام الشعبي بالتفاصيل الاجتماعية الصغيرة والكبيرة التي تتشكل منها الأوطان، لصالح قضية واحدة مركزية، استطاعت أن توجِد سمات عامة ظاهرية، تتصف بها مجتمعات هذه المنطقة. القضية نفسها مكّنت حزب البعث ذا الاتجاه الشوفيني القومي من استلام السلطة المطلقة، مدعماً بالقوة العسكرية في العراق وسورية، الدولتين الأكبر مساحة وعدد سكان من باقي دول إقليم الهلال المقسم، حزب البعث القومي العربي اتخذ صبغة العلمانية كإحدى صفاته، لكن العلمانية هذه لم تكن أكثر من صفة اسمية، فالدستور المصاغ في البلدين مستمد في غالبيته من الشريعة الإسلامية، ولا سيما في القضايا الكبرى، كدين الدولة والمجتمع، وفي القضايا الاجتماعية التفصيلية، كقانون الأحوال الشخصية. أوجد هذا التناقض ما يمكن اعتباره تقية وطنية لدى سكان هاتين الدولتين، تقية سرعان ما أصبحت سياقاً عادياً وطبيعياً، بعد تمكين نظام البعث، برموزه العسكرية، سلطته الاستبدادية القمعية الأمنية على سورية والعراق، واستمرت مع الاستبداد الجديد سردية الخوف والتقوقع، أو التملق للسلطة، درءاً لغضب المستبد. كان هذا سياقاً طبيعياً ومفهوماً مع ما أظهره نظاما “البعث” في الدولتين، من إجرام بحق المعترضين والمعارضين، مثلما كان طبيعياً أن تزداد في الخفاء حالة التعلق المرضي والعصابي بالهويات الضيقة ما قبل الوطنية، بينما الهوية الوطنية تصبح مجرد شعار سياسي أجوف، لا قيمة له مع انعدام وجود أي ملمح للمواطنة الكفيلة بإنتاج مجتمعات معافاة وصحية وتفتح لأبنائها آفاقا للمستقبل.

وفي حين كان النظام الاستبدادي في البلدين يشتغل على تشكيل جماعات ترتبط به، سياسياً واقتصادياً، ويحولها إلى نخبة انتهازية، تربط بين الوطن ومصالحها، كان المجتمع العميق يزداد انقساماً، ومثل النخبة أصبحت الطائفة، أو العشيرة، أو العائلة، هي الوطن. وأصبح التعلق والدفاع عن الطائفة والعشيرة والعائلة، باللاوعي الفردي والجمعي، تعلقاً بالوطن ودفاعاً عنه. هكذا صار الوطن أسماء متعددة لمكان واحد، وصار المواطنون مجموعات بشرية متعايشة في المكان الواحد بقوة الأمن والاستبداد، بينما التنوع الاثني والمذهبي والطائفي والثقافي، بتفاصيله اليومية الصغيرة والكبيرة، التي تنتج التمايز وتصبح تقطة القوة اللازمة لانفتاح أي مجتمع نحو الحداثة والتطور، تحول إلى فيروسات تعيش في الظل وتطور الخراب يوماً بعد يوم. الاستبداد السياسي الديني خلال قرون الاحتلال العثماني، وجود إسرائيل في قلب المنطقة، ثم الاستبداد السياسي العسكري الأمني، في أثناء عقود البعث منع مواطني الهلال الخصيب من التمتع بحرية انتماءاتهم في أوطانهم، الخوف منعهم من نقاشها واكتشاف حقائقها، الخوف حولها إلى أساطير، لكنها أساطير مقدسة، لا أساطير ثقافية، أساطير مثبطة للعقل لا محفزة له.

الخوف، أيضاً، منع معتنقيها ومعارضيها من رؤيتها طقساً اجتماعياً، في سياق الطقوس الاجتماعية المتعددة، تحولت إلى طقوس سرية، سيحاسب أصحابها لو أعلنوها، مثلما يحاسبون لو تكنوا بها علناً، مع انطلاق الثورات، ومع التكسير الذي تم للخوف الاجتماعي والسياسي، ومع إزالة الغطاء الأمني عن المجتمعات، وانكشاف ظلالها العاتمة لضوء الشمس قليلاً، تمزق شعار الوطن، وتفككت سردية التعايش تحت سقف الوطن، وظهرت هذه الانتماءات علنية، وبكل فجاجتها وفجورها لأول مرة منذ قرون، ظهرت، بأمراضها وفيروسات خرابها، لم يعد ثمة خوف.

إذن، ليعلن الجميع انتماءاتهم الحقيقية المتنافرة والمتصارعة والصالحة للاستثمار سياسياً في مزادات لاعبي السياسة ومصالح الدول الكبيرة، كل العصبيات والانحيازات الإثنية والمذهبية والطائفية، الظاهرة بقوة الآن، وكل العنف المرعب المرافق لظهورها ليس سوى استعادة حرية البحث عن الهوية، بعد قرون من فرضها بفعل الاستبداد والخوف الناتج عنه، الاستبداد الذي أنتج دولاً فاشلةً، وأنتج معها مجتمعات فاشلة، وأفراداً فاشلين، وبالتالي ثورات وانتفاضات فاشلة، وسيلزم وقت طويل جداً، قبل أن تستعيد هذه المجموعات عافيتها، هل يعني هذا شتم الثورات والنكوص إلى الأنظمة نفسها، باعتبار أن البديل عنها هو هذا الخراب الحاصل الآن؟ يقيناً، هذا ما اشتغل عليه الاستبداد، بكل أنواعه وتحالفاته، وهذا ما أراده، ويقيناً، أيضاً، أن الدول الفاشلة لا يمكنها أن تستمر طويلاً، وأن المجتمعات المريضة إما ستموت تماماً، بفعل المرض أو أنها ستبدأ برحلة علاجها، هذه الثورات أو الانتفاضات، أو مهما أطلق عليها من الاسماء ليست سوى المرحلة الأولى من بدء العلاج.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى