صفحات الناس

الخروج الفُراتي من معدان/ مصطفى أبو شمس

 

 

 

أصبح الخروج من المكان وقفاً على ما تمتلكه من نقود، وباتت الحياة عالقةً بين المهرب الذي سينقلكَ من المكان، وعنصر تنظيم الدولة الذي ينتظر الفرصة ليقتلك، أو على الأقل ليبقيكَ في المكان، فتشاركه مصيراً لم تختره أنت، وفي غالب الأحيان ينسحب هو في النهاية، لتدفع أنتَ ثمن ما اقترفته يداه.

هو شاطئ الفرات الذي بات الآن جحيماً يأكل أبناءه على ظهور قواربهم، في رحلة الهرب من تنظيم الدولة وطيران التحالف وقذائف وحدات الحماية الكردية، وصعوبة الحياة. الفارق بين الضفتين لا يزيد عن كيلو مترين، وككل الحكايات القديمة، يغدو الوصول إلى شاطئ النجاة أسطورةً من الحياة والموت والخوف والمال وتيارات المياه المتدفقة، ورجالٍ بأيدٍ مفتولة يقودون قاربك إلى ضفة أخرى. حين يغدو الصمت ومحاولة إسكات طفل هي المهمة الأعظم، فالقصاص اليوم قطعُ رأس وصلبٌ على عمود وسط المدينة، مع لافتةٍ على الصدر يٌكَتَب عليها «خائن للدولة الإسلامية» أو «هاربٌ من أراضي الدولة الإسلامية» أو «متعاطف مع القوات الكردية»، ما الفرق؟! «الأموات لا يجيدون القراءة»، هكذا بدأت أم مصطفى قصة خروجها مع عائلتها من معدان التي ما زالت تحت سيطرة تنظيم الدولة في ريف الرقة الشرقي، إلى قريتها في جبل الزاوية، والتي استمرت عشرة أيام، واستهلكت كل ما تملكه العائلة من نقود قاربت 1.5 مليون ليرة (3000 دولار).

تقع معدان في أقصى شرق محافظة الرقة، على الضفة الجنوبية لنهر الفرات، الضفة الشامية، وتبعد عن مدينة دير الزور حوالي 70 كم غرباً، يحدها من الغرب ناحية معدان جديد، ومن الشرق قرية القصبي، ومن الجنوب البادية، ومن الشمال نهر الفرات، ذُكِرَ أن اسمها «أمعدانا» أي المكان الذي «نعدي» أو نعبر منه نحو الجهة الثانية من الفرات، فهل كان من سمّاها بذلك الاسم، يدرك الألم القادم، أم أنها مصادفةٌ ستعطي للمدينة اسماً حقيقياً سيلتصق بها حتى النهاية.معدان

هذه أم مصطفى تروي لنا رحلة خروجها من معدان:

عن الحياة في معدان

على الضفة الأخرى من نهر الفرات، المقابلة لمدينة معدان، كانت قوات سوريا الديموقراطية قد نصبت حواجزها في القرى التي استطاعت السيطرة عليها من تنظيم الدولة، وأدى اقتراب هذه القوات مع ازدياد ضربات طيران التحالف إلى زيادة التشديد من قبل رجال داعش على المدينة. هو الشعور ببداية النهاية، فالخوف الذي سكن في قلوب المنتمين إلى التنظيم بدأ يتحول إلى شعور بالنقمة، ليصبوا غضبهم وخوفهم على أهالي المدينة الصغيرة التي فرغت من معظم سكانها خلال الأشهر الأخيرة. الحياة هناك لا تطاق فكل شيء بات ممنوعاً.

قبل اقتراب المعارك كانت الأشياء أكثر سهولة، وجنود التنظيم أكثر لطفاً رغم تشددهم، والعقوبات أخف وطأة والحياة أكثر بساطة. ثم بدأت الحياة تتنحى عن المدينة، فالتنظيم قطع الإنترنت عن الناس وحصره في مراكز تتبع لرقابته، وكثيراً ما اقتادوا شباناً أو نساءً من مراكز الإنترنت دون تهمة. بعض من خرجوا بعد أن نالوا قصاصهم قالوا بأن التهمة كانت «كتابة كلمات على الفيس بوك» أو «إعجاباً بإحدى الصفحات». معظم رجال التنظيم هم من خارج معدان، ولم ينتمِ له إلا العدد القليل من أبنائها. عمل بعضهم كمخبرين للتنظيم، أما القسم الآخر فقد زجَّ بهم في الصف الأول من المعارك. «قُتِلَ أبناؤنا ونجوا هم»، هكذا كانت الحال دائماً، معظم الأمراء في المدينة من جنسيات أجنبية، وغالبيتهم من تونس والمغرب، بأسماء كأبي الحوراء وأبي الحارث، أما الأمير الفعلي للمدينة فكان أبو محمد الحلبي، من مدينة حلب، بعد أن هرب أبو داوود الجزراوي مع عائلته عند اشتداد القصف إلى مدينة الميادين، أسوة بكثيرٍ من الأمراء والمقاتلين الأجانب.

فُرضَ في عهد أبي محمد الحلبي على جميع الذكور ارتداءُ اللباس الأفغاني وإطلاق اللحى، حتى أن رجال الحسبة قادوا ثلاثة حلاقين في المدينة إلى السجن، وعمدوا إلى صلبهم في الشارع «بتهمة تخفيف لحية أحدهم»، وصار قصاص من يرتدي بنطالاً 75 جلدة، بالإضافة إلى غرامة مالية، فالمال في الآونة الأخيرة صار مُرافقاً لكل قصاص، وانتشرت في المدينة نساء الحسبة للاقتصاص من النساء المخالفات، أحياناً كان رجال الحسبة أنفسهم يقومون بمعاقبة النساء وجلدهن في الشوارع العامة، كما فُرِضَ على الجميع التعامل بالدرهم والدينار، عملة التنظيم التي أصدرها، أما بيع الدخان فعقوبته الصلب لأربعة أيام والسجن لمدة شهرين. جارنا أبو محمد من شارع الرومان في المدينة، أخذه رجال التنظيم بتهمة بيع الدخان، في البداية صلبوه بالقرب من المشفى لأربعة أيام، ثم أُخِذَ إلى السجن، وعندما خرج كانت عظام وجهه قد برزت وامتلأ جسده بندبات سياط الجلادين، فقد كان طعامهم يومياً «نصف رغيف معفن وقليلاً من اللبن الحامض» كما أخبرتني زوجته، وغُرِّمَ عند خروجه بما يقارب 600 دولاراً.

بعد قصف التحالف للجسرين اللذين يصلان معدان بالرقة، جسر معدان وجسر المغلة، صار طريق مدينة الميادين جنوب شرق مدينة دير الزور هو شريان الحياة في المدينة، وفُقِدَت معظم المواد الأساسية للحياة بما فيها الكهرباء والماء، وارتفعت الأسعار بطريقة جنونية وانعدمت فرص العمل، أقفلت معظم المحلات التجارية الكبيرة، فبعض أصحابها استطاع الهرب من معدان، وبعضهم الآخر فضل إغلاق محله على البيع بعملة التنظيم، وخاصة «الصاغة»، خوفاً من فقدان قيمتها، فالجميع يدرك في المدينة أن أيام التنظيم باتت معدودة. ولم يعد هناك أي طبيب أو نقطة طبية أيضاً، فبعد أن قُصفت طائرات التحالف مشفى معدان، غادر كادر المشفى إلى الميادين، أما الأطباء فقد كان مصيرهم مصير أصحاب المحلات، بعضهم نجا بنفسه وآخرون انتقلوا إلى مناطق بعيدة في داخل أراضي التنظيم.

كل طرق التهريب تمرّ من معدان

«القصبي، معدان عتيق، أبو شهري، الجبلي، الزوية، النميصة» كلها قرى تقع على ضفاف الفرات، وتعتبر معدان صلة الوصل بينها وبين باقي المناطق، سواء بالنسبة للقادمين من دير الزور أو الميادين في الشرق، أو من الرقة وغيرها في الغرب، فلا طريق للخروج من مناطق داعش سوى المرور عبر معدان، أو التوجه نحو مناطق سيطرة النظام عبر البادية. معظم الناس كانوا يفضلون المرور عبر قوات سوريا الديموقراطية، ويرفضون التوجه نحو مناطق سيطرة نظام الأسد، ولذلك تحوّلَ معظم أهالي المدينة للعمل كمهربين، فهم أبناء المنطقة ويعرفون كل مداخلها ومخارجها. كانت الطرق تتغير في كل يوم خوفاً من رجال التنظيم، الذين قطعوا رأس ستة مهربين من أهالي المدينة في شهر حزيران الماضي، وكانوا قد قطعوا رأس مهرب من بيت الحسن في معدان شرقي أيضاً في آذار الماضي، ومنذ شهرين اعتقل التنظيم ثلاثة أسر قادمة من دير الزور حاولت الفرار، وأخلى سبيل النساء مقابل مبلغ 100 ألف ليرة (200 دولار) عن كل امرأة، أما الرجال فلم يُعرف مصيرهم بعد. وعلى الرغم من ذلك كان التهريب على قدم وساق، بعضهم كان يقول إن المهربين كانوا على صلة برجال الدولة، وكانوا يتقاسمون معهم النقود، وأنا كنتُ من أولئك المصدقين لهذه النظرية، فلا يمكن أن تتم عمليات التهريب دون الاتفاق مع بعض رجال داعش، ولكن هذا الاتفاق لم يكن يشمل الجميع، وسوء الحظ سيجعلك تقع في يد أولئك الخارجين عن الاتفاق، فيغدو الثمن رأسك.

ازدهرت في معدان نتيجة عمليات التهريب تجارة شراء الأثاث والسيارات، معظم أثاث البيوت بيعَ بأبخس الأثمان، فبيت كامل من كل الأدوات الكهربائية والمفارش والحرامات وأدوات المطبخ بيعَ أمامي بمبلغ 150 دولاراً، أما نحن فقد اضطر زوجي لبيع سيارته، التي اشتراها منذ سنة بمبلغ 2000 دولار، بـ 400 دولاراً بعد أن رجا أحد أصدقائه لشرائها.

الخروج من معدان

في الشهرين الأخيرين، صرنا نصحو كل يوم على نبأ سفر أحد أبناء المنطقة من جيراننا ومعارفنا. لم يعد هناك أحدٌ في المدينة، وبات حسم قرار الخروج أمراً لا بدّ منه. لم نكن من محبي البقاء هناك، لكن الخوف من الرحلة هو ما كان يمنعنا من الخروج. كنا عشرة أشخاص، أنا وزوجي وطفلانا، وأحد معارفنا وزوجته وأربعة أطفال، حاولنا التفكير بكل الطرق الممكنة أو الآمنة للوصول إلى الضفة الأخرى من النهر، سألنا عن أفضل المهربين، عن كلفة الطريق، وعن طرق التهريب وأنواعها. استغرقَ الأمر أياماً لنحسم قرارانا، اتفقنا مع أحد المهربين من معارف زوجي على الخروج ليلة 22 رمضان الماضي من طريق النميصة، كانت الكلفة 200 ألف ليرة (400 دولار) لكل شخص.

ركبنا سيارة المهرب نحو قرية النميصة، وعند وصولنا جاء الدليل خائفاً ليخبر المهرب بأن السفن اليوم محجوزة لرجال التنظيم، لم أفهم الكلام، وظننتُ أن رجال التنظيم يركبون السفن ليصلوا إلى مناطق أخرى تحت سيطرتهم، خاصة أني لا أعرف جغرافيا المكان جيداً، لتكون المفاجأة أن المهرب قال بأن كثيراً من جنود التنظيم يحلقون ذقونهم ويرتدون ثياباً أخرى غير تلك التي اعتدنا رؤيتهم بها، ويهربون عبر النهر. للحظةٍ سرت في جسدي القشعريرة، مجرد فكرة أني سأقابلهم في الطرف المقابل كانت تشعرني بالظلم واللاعدالة، قلت في نفسي لعل المهرب كاذب، ولكني وبعد عودتي إلى معدان بعد الرحلة الأولى الفاشلة، كان كثيرٌ من الناس يتهامسون بهذا الأمر.

في27 رمضان قرر المهرب أن نذهب عبر طريق القصبي، أو «الGصبي» بلهجة أهل المنطقة. المهربون يجيدون الكلام، ويجيدون رسم الأمل جيداً برحلة سلسلة لا متاعب فيها، شعرتُ وهو يتكلم بأن قدمي وطئتا الضفة الأخرى، إذ لا مشاكل في الطريق حسب قوله، وعند الوصول إلى الضفة الأخرى هناك بيت سنجلس فيه حتى الصباح، ثم يأتي رجل من طرفه ليأخذنا بالحلفاوية، وهي شاحنة زراعية تنتشر في الأرياف الشرقية، نحو حاجز الأكراد. بهذه البساطة كان ينطق كلماته، ونحن نسير خلفه.

بدأت رحلتنا في السابعة مساء، كنا عشرة أشخاص والمهرب يقودنا عبر الأراضي الزراعية نحو طريق القصبي، مشينا ما يقارب 20 كيلو متراً. شوك وطين وغبار وعتم وخوف، كان الطريق مليئاً بكل شيء ما عدا الحياة، المهرب كان يهمس لنا في كل دقيقة «ممنوع الكلام أو إشعال أي ضوء أو الصراخ حتى لو امتلأت قدمك بالشوك، أو وقعت نتيجة المشي في الأراضي المفلوحة، أو غصت في طين الأراضي المروية». مشينا لخمس ساعات، تركنا حقيبة واحدة تحتوي على بعض الألبسة ورمينا باقي ثيابنا وأغراضنا في الطريق، فلم يعد باستطاعتنا حملها. قبل أن نصل إلى ضفة الفرات من ناحية القصبي أجلسنا المهرب في أرض من الشوك وكان علينا انتظار السفينة التي ستنقلنا من الشاطئ، مرت ساعتان على مكوثنا في المكان، بدأ التعب ينال منا، خوفنا من دوريات الحسبة كان وحده من يجعل أعيننا مفتوحة، وكان المهرب يؤكد لنا في كل مرة بأن «الشباب يعملون على تأمين الطريق حتى لا نقع في أيدي التنظيم»، فيخف غضبنا عليه، ونشتمه في قلوبنا. كنا قد اتفقنا معه على وضع النقود عند رجل ثالث من أهالي القرية، وفي حال وصلنا إلى الطرف المقابل نرسل له مع «صاحب السفينة» العلامة التي اتفقنا عليها، وكانت عبارة عن زجاجة عطر، تؤكد وصولنا وتجعل المهرب يحصل على نقوده.

في الساعة الثانية وصل قارب صغير إلى ضفة القصبي، نظرت حولي وظننت أن المهرب سيطلب منا الاختباء، خفتُ أن يكون من في القارب صيادون، ويشوا بنا إلى رجال الحسبة. طلبَ منا المهرب أن نتجه نحو القارب فهو سفينتنا التي ستنقلنا، للحظةٍ لم أتمالك نفسي فضحكتُ بصوتٍ عالٍ أزعج الجميع، «تباً للسفن»، لم أتخيل طبعاً للحظةٍ أن تكون السفينة التي ستنقلنا تشبه التايتانيك، ولكني لم أتخيلها قارباً لا يتسع لي وحدي. لم يدم الموقف طويلاً وطلب منا المهرب أن ننقسم إلى مجموعتين، في كل واحدة خمسة أشخاص، صعدنا نحن الخمسة الأوائل مع رجلين يقومان بالتجذيف عبر مسرب من مسارب النهر الثلاث، لا أعرف كيف حُشرنا في هذا المكان الضيق، وكيف استطعنا التنفس، كل ما أعرفه أني نسيت كل آيات القرآن التي كنت قد جهزتها في رأسي لقراءتها كي لا يرانا رجال الحسبة بسيارتهم التي تجوب المنطقة، وكي لا تغرق السفينة، فأنا لا أجيد السباحة، ومعي طفلي أيضاً. كان علينا أيضاً في الطريق أن نصمت، بعض الأدعية ترددت على لساني، الطريق كان ربع ساعة وصلنا بعدها إلى ما يدعى بـ«الحويجة»، وهي جزيرة صغيرة وسط المسرب بعرض نحو 100 متر فيها أشجار سنديان عالية جداً. نزلنا من القارب وانتظرنا هناك ريثما يكتمل عددنا من جديد، بينما عاد القارب إلى الضفة ليجلب باقي الأشخاص. كانت فكرةٌ تلّحُ على رأسي وتكاد تفتته، السوريون والماء، السوريون والتهريب، السوريون والطائرات، السوريون في حياتهم الجديدة التي لم تعد تشبه أي تجارب عاشها غيرنا رغم الحروب التي تعرضوا لها، كان موتهم بطريقة واحدة، وكان موتنا بكل الطرق، ابتكاراتٌ كثيرةٌ وغريبةٌ اخترعناها لنموت، لم يكن أولها البلم ولم يكن آخرها قاربٌ يحمل سبعة أشخاص في العتمة، يمرّ في نهر الفرات تحت عين تنظيم الدولة، ووطأة تدفق النهر وتياراته المتقلبة.

أتينا إلى معدان بعد أن كانت قرى جبل الزاوية منذ سنتين تقصف في كل يوم من قبل طيران الأسد وحلفائه، ضاقت علينا الحياة، لم يعد هناك عمل، هربنا من الموت إلى معدان. رغم كل التضييق، كانت لقمة العيش متوفرة في معدان، قبل أن يقتلوها تحت اسم الدين ويسرقوها تحت بنود كثيرة من الغرامات مروراً بعملة الدرهم والدينار. هذه الحرب اللعينة حولت نصف سكان سوريا إلى مهرّبين، وصارت تجارة الحياة ضروريةً لحياة آخرين، أي معادلةٍ تلك التي تنقلكَ من كرم أهل الرقة إلى بيع ثيابك لتأمين رحلة قارب.

وصل القارب يقلُّ الخمسة الباقين، قاربٌ آخر نقلنا إلى حويجةٍ أخرى، كانت المسافة هذه المرة أكثر من نصف ساعة، وكان التعب قد نال من رجال القارب، وباتت حركتهم أبطأ. الماء كان مكشوفاً والصمت كان «فرض عين» على الجميع، عليك أن تضع يدك على فم طفلك، إن أراد ان يصرخ أو ربما يضحك بطفولة، أو حتى إن أراد أن يمد يده إلى الماء ظناً أنه في البحر. عند الوصول إلى الحويجة الثانية كرر القارب ما فعله بالعودة إلى من تبقى في الحويجة الأولى، وعند وصولهم أكملنا الطريق في المسرب الأخير، المسافة لم تكن أكثر من 1 كم ولكن تيار الماء بدأ بالارتفاع، القارب أوشك على الغرق، لم نستطع مناجاة الله وقتها، فأنت ممنوع من الكلام، بكيتُ وقتها وأنا أعضُّ على شفتي، الألم كان أكبر من أن أحتمله، وخوفي من رجال الحسبة كان أكبر من خوفي من الفرات نفسه، الغرق أقل وطأة من قطع الرأس.

وصلنا الضفة الأخرى من النهر، كان الوقت قد قارب على الرابعة والنصف عندما اكتمل عددنا، أعطينا زجاجة العطر للرجل في القارب، شكرناه، عادَ هو، لنبحث نحن عن البيت المفترض، لكنا لم نجده، لم يكن هناك بيت أصلاً، كان كلاماً، وحين أراد زوجي إطلاق الشتائم قلتُ له: «ألم أخبرك أن الجميع صاروا مهربين، وأتقنوا هذه المهنة».

من الجزرة إلى جبل الزاوية

لم يكن هناك بيتٌ ولا حلفاوية ولا أحدٌ ينتظرنا، قررنا إكمال المشي، مشينا حوالي الساعتين وصلنا إلى بيت متطرف في مزرعة، عرفنا لاحقاً أن المكان يسمى زور الجزرة. طلبنا منهم أن نرتاح قليلاً ولكنهم رفضوا استقبالنا، كُثُرٌ من يمرون من هنا كل يوم، هكذا قلتُ في نفسي لأبرر لأصحاب البيت الذين ربما تعبوا من استقبال الهاربين عبر النهر. مشينا حتى وصلنا مفترق طرق، كانت الساعة قاربت السابعة. وجدنا سيارة طلبنا من سائقها إيصالنا نحو حاجز «الأكراد» في قرية الجزرة. المسافة التي قطعها السائق لم تتجاوز الـ 1 كم، وكان قد طلب منا 5000 ليرة دفعناها سلفاً. حين وصلنا إلى الحاجز رفضوا إدخالنا، كان يوم وقفة العيد، وقالوا إنهم لن يسمحوا بمرور أحد إلى داخل الجزرة حتى ثاني أيام العيد، رجوته، وزوجة صديقي بكت وتوسلت، دعت له. حاولنا بكل الطرق لكنه رفض إدخالنا وطلب منا العودة، وحين سألناه «أين سنعود؟»، أجابنا «من مكان ما أجيتوا» وعندما قلنا إن التنظيم سيقتلنا إن نحن عدنا، أجابَ بأنها مشكلتنا وأن لا علاقة له.

عدنا مع سائق السيارة نفسه وبخمسة آلاف أخرى إلى زور الجزرة، حيث مجموعة من البيوت قبل الحاجز، لا يوجد فيها أي مظهر من مظاهر الحياة تقريباً. كان الجوع والتعب قد أخذ منا كل مأخذ، طلبنا من السائق إيصالنا إلى مكان نرتاح فيه فأخذنا إلى بيت فيه غرفتان مليئتان بالحطب وأكياس من روث الحيوانات، ويتوسط الدار ساحة نمنا جميعاً فيها من التعب، وبعد ساعات قليلة ذهب الرجال للبحث عن بعض الطعام ومأوى لنا. أحد سكان القرية أخذنا إلى بيت امرأة اكتشفنا بعدها أنها تؤجر بيتها للقادمين، مقابل المال، وصلنا إلى بيتها وطلبنا منها الطعام، فاشترت لنا علبة من المرتديلا وبعض الخبز، كل شيء كان عند المرأة بنقود كثيرة. عرضت علينا أن تأتي لنا بمهرب يدخلنا إلى الجزرة فوافقنا، سوريّةٌ أخرى حولتها الحرب إلى مهرّبة، كان علينا أن ندفع 100 ألف (200 دولار) عن كل شخص للمهرب الذي مشى بنا من خلال حاجز آخر عبر أراض زراعية لنصل إلى الجزرة. هناك كان أحد أقارب زوجي يسكن في القرية، فبقينا عنده ريثما يسمح لنا بالمرور من الحواجز بعد انتهاء العيد.

الحقيقة أن الحياة في الجزرة كانت جيدة، ورجال الحواجز داخل القرية كانوا لطفاء، ولم يسيئوا لنا، حتى انهم لم يحققوا معنا، ولم يفتشوا ثيابنا، وكان الناس هناك مرتاحين لفكرة تواجد المقاتلين الأكراد أكثر بكثير من تواجدهم تحت حكم داعش. أمضينا أيام عيد الفطر الثلاثة في قرية الجزرة ثم اتجهنا نحو مدينة منبج، أربع ساعات ونصف الساعة، و62000 ليرة كانت كلفة الطريق نحو منبج، لكنهم رفضوا دخولنا إلى المدينة بلا كفيل. في الكراج خارج المدينة استقلّينا سيارةً أوصلتنا خلال نصف ساعة إلى المعبر الذي يفصل مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية عن مناطق سيطرة الجيش الحر في قرية أم جلود، وكان ذلك مقابل مبلغ 16500 ليرة، لنتجه بعدها نحو مدينة الباب ثم إعزاز بمبلغ 22500 ليرة، وأربع ساعات أخرى.

كان الوقت قد قارب على الرابعة، حاولنا المرور عبر مدينة عفرين، وقطعنا إيصالاً بمبلغ 3000 ليرة، لكنهم رفضوا إدخالنا لأنه كان قد انتهى الوقت المخصص للدخول. للحظةٍ أردتُ البحث عن مهربٍ ككل مرة، تلفتُّ حولي، ثم عدنا أدراجنا لننام في فندق في مدينة إعزاز حتى الصباح. قطعنا إيصالاً جديداً ودفعنا مبلغ الثلاثة آلاف مرة أخرى، ومبلغ 2000 ليرة عن كل شخص للمرور نحو الغزاوية التي تفصل بين عفرين وريف حلب الغربي، رافقتنا سيارات كردية حتى نهاية الطريق. دخلنا كراج الغزاوية، طلبَ منا سائق السيارة 50000 ليرة (100 دولار) لإيصالنا إلى قريتنا في جبل الزاوية في ريف إدلب. وصلنا إلى هناك، ولا زلنا بانتظار مهرّبٍ جديد يُدخلنا إلى الأراضي التركية.

كاتب وباحث من ادلب

موقع الجمهورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى