صفحات سورية

الخروج من المأزق الوطني

 


آرام كربيت

لقد اعطى الشعب السوري مثلا في التحمل والقدرة على الخروج من رماد الاستبداد الذي خيم على البلاد منذ عقود طويلة من الزمن. وها هو ينهض بكل كبرياء للتخلص من أسوأ أنواع الاستبداد الذي ابتلي بها. استبداد عشعش في كل شرايين الدولة ومفاصل الحياة الخاصة والعامة, وقضى على الأخضر واليابس: إفساد كل ما يمكن إفساده حتى تصفر الحياة والماء كشراء الذمم وتخريب النفوس وتدمير قطاعات اجتماعية كاملة لصالح شريحة واحدة متحكمة في السلطة.

سوريا, وطني, تعيش حالة مخاض وولادة في نزوعنا الوطني نحو الحداثة والديمقراطية وتأكيد قيم الحرية والعدالة والجمال والانعتاق من الظلم والقهر. تناضل من أجل أن تكون في موقع أخذ مسؤوليتها السياسية والوطنية. يكافح أبناءها لنيل استقلالها الوطني والسياسي والاجتماعي والدفع نحو بناء الثورة الوطنية الديمقراطية التي عجزت الأنظمة المتعاقبة على بناءها بل عملت جاهدة على إجهاضها ولجم أي تطور سياسي واجتماعي واقتصادي وخاصة بعد مجيء عائلة الاسد البربرية, الرجعية الغارقة في التحجر العقلي والسياسي والانطواء على الذات ونفي الآخرالمختلف وتحطيمه. نظام كابح لحركة الحياة وتفاعل الشعب السوري مع العالم ومع تطوراته السياسية والاقتصادية. نظام متكلس عمل من خلال صيرورته في السلطة على تحطيم دور الدولة كفكراو مرجع جمعي للمجتمع وتقزيمه ليكون على مقاس مجموعة حاكمة محدودة الثقافة والمعرفة, سيئة الأخلاق, ليس لديها القدرة على التفاعل مع عالم ما بعد الحرب الباردة والتطورات الهائلة التي تجري فيه على الصعيد السياسي والاقتصادي. بل ان دور انحطاطها وصل إلى مستوى لم يسبق له مثيل في العالم كله وعبر تاريخ البشرية جمعاء في استخدامها المفرط للقوة ضد معارضيها وابراز دور السلطة كقوة مجردة بديلة عن الدولة الحديثة من حيث فصل السلطات وتوازن القوى في شكل متخلف عبر روابط زبونية وعلاقات سمسرة ومنفعة مع شرائح اجتماعية طفيلية تعتاش على المال العام عبر النهب الواضح في علاقة مركبة مع مرتزقة مفصلة على مقاسها. بل وصل معها الأمر على حصار مدينة كاملة وعزلها عن العالم واغتصابها وارتكاب الفظائع في سكانها ليعودوا إلى حظيرة العبودية والخضوع.

ان ممارسة هذه السلطة العنفية حطمت كل شكل من اشكال تراتبية الصراع لصالح تراتبية واحدة: شركاء النهب والامتيازات والمحسوبية.

ان هذا الصراع الذي يقوده الشارع السوري هو نزوع واضح وعطش عميق في البحث عن الذات الإنسانية في توقها نحو الحرية والديمقراطية. نزوع يأخذ مسارات متعددة اجتماعية وسياسية واقتصادية داخلي وخارجي. لهذا فان ما يشهده بلدانا عميق جداً لانه يحمل في طياته دعوة نحو ديمقراطية سياسية وديمقراطية اجتماعية. انه حراك مختلف وعميق عما سبق لانه لا يأتي كرد فعل عابراو عاطفي مثلما كان سائدا في فترة الخمسينات والستينات وانما نتيجة معرفة لدور الفرد في صنع التاريخ وتأكيد لوجوده الإنساني والاجتماعي القائم على العقد الاجتماعي الواعي والتلاحم بين النسيج السياسي للدولة الوطنية المعاصرة وحق الفرد في الحرية وتقاسم الثروة والحق في المشاركة السياسية. لقد بدأ المواطن السوري خاصة والعربي عامة في فك اغلاله وقيده الذي كبله الاستغلال السياسي والاجتماعي منذ عقود طويلة بتواطئ واضح ما بين الداخل والخارج لكسر إرادته وفرض اجندتهم عليه المتوافقة مع مصالح الاحتكارات الراسمالية العالمية. الصراع سيأخذ مساره ومداه الحقيقي كحتمية تاريخية بين الشعوب ومصالحها واجندتها والانظمة وتحالفاتها. سيفرز كل طرف وسائله وادواته وطرقه وعدة عمله. ستعمل الانظمة وحلفائها الغربيين على إعادة هيكلة انظمتها وترتيبه قبل ان تفلت الامور من يدها ولكن بالوسائل البدائية وستعمل الشعوب ومنها أبناء وطننا على كسراغلاله للوصول إلى حقه في المشاركة السياسية ونيل حقوقه الاجتماعية.

نزوع الشعب السوري ينحو نحو تحولات اجتماعية عميقة يقودها قطاع واسع من المهمشين الريفيين وفقراء المدن وبيوت الصفيح والعاطلين عن العمل ومثقفين متنورين انذروا حياتهم لتأكيد الذات الوطنية والإنسانية لبلدنا.

لقد بدأ الزمن العربي, انتقال الإنسان في بلادنا من الحالة السلبية التي حشر فيها إلى البحث عن وجوده الانساني, الاعتراف به ككائن إنساني له دوره المركزي في القرارات المصيرية التي تتعلق في شؤونه وشؤون وطنه وفي تأكيد استقلال الاوطان السياسي والاقتصادي والاجتماعي. صراع عميق وعظيم وراسخ في بعده العمودي والأفقي لانه عملياً قائم على نهجين مختلفين في ممارساته وأدواته: المنظومة الامنية في شبكة علاقاتها وتحالفاتها المركبة والشديدة التداخل كالزبونية والارتزاقية القائمة على تهميش القوى السياسية ومد استطالاتها في كل مكان لتفكيك العلاقات الاجتماعية المستندة على الشراكة الوطنية وتدمير الدولة كعقد اجتماعي بينها وبين مواطنيها والعودة ببلداننا إلى القرون الوسطى من حيث الخضوع للحاكم كظل الله على الارض وتحويل الناس إلى رعاية واتباع ينفذون بتلقائية ما يراد منهم كشكل من أشكال العبودية المدمرة للمجتمع والحياة وعلاقة خارجية قائمة على عزل المجتمعات العربية عن العصر لتعوم ضمن فضاء اجتماعي مفكك ومنظومة تعمل على العيش في عزلة عن محيطها العالمي

الجيل الجديد المقبل على الحياة في وطني لديه عطش للتفاعل مع العالم المعاصر ويعي مصالحه وحقه الاجتماعي في الحرية والثروة الذي هو شرط أولي لمجتمع ينحو نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية السياسية. تدفعه مسؤوليته الوطنية نحو اقامة دولة مدنية لكل ابناء الوطن الواحد.

اعتقد ان ما يحدث في وطني سوريا والبلدان العربية الأخرى وما سيحدث في المستقبل مختلف عما هو سائدة في اوروبا والولايات المتحدة التي مكنت شعوبها من المشاركة السياسية بشكل منظم ومنضبط وراضخ. شعوب تقبل ما تقدمه لها الدولة من عطاءات مقابل قيود قانونية قاسية تلجم حركتها وحريتها. لكن الحركات الاجتماعية في بلداننا لها بعد اجتماعي حقيقي لا يمكن لجمه بالقوة في عمقه وسياسي في ظاهره سيجد ارتداداته في كل اجزاء العالم من الصين والهند والباكستان او اندونيسيا إلى امريكا اللاتينية, سيدفع القطاعات المهمشة إلى تطوير ادواتها السياسية واساليب نضالها من خلال استخدامها للتكنولوجيا المعاصرة ووضعها في خدمة الصراع ضد قوى السيطرة والهيمنة المحلية والعالمية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى