صفحات العالم

الخصوصية السورية في الثورات العربية

 


د. علي حمدان

الخطاب “القومي”،الشعارات “الوطنيةراية “العلمانية”، “الممانعة”، “دعم” المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، “التصدي” لمشاريع الهيمنة الإمبريالية والعدوانية الاسرائيلية في المنطقة…

كلها مكونات “خصوصية” مفترضة للنظام الحاكم في دمشق أُريدَ لها أن تشكل سداً منيعاً أمام عملية التغيير التي تعصف بالعالم العربي. لكن، وبما ان الحياة الفعلية لا تكترث بالايديولوجيا وتلفيقاتها، فقد دقت الثورة أبواب سوريا وطرحت العديد من التحديات الكبيرة، لعل من ابرزها إشكالية التوفيق بين كينونة الإنتفاضة العظيمة كحركة شعبية أصيلة تناضل من اجل الحرية والكرامة بشكل انساني وديمقراطي من جهة، وأساطير النظام عن نفسه، والتي يتبناها العديد من القوى السياسية والمثقفين في داخل وخارج بلاد الشام، من جهة أخرى.

في هذا السياق نلاحظ تباهي الرئيس بشار الأسد، عشية الثورة، في لقاء مع جريدة “وول ستريت جورنال الاميركية (31 – 1 – 2011)” بمناعة نظامه واختلافه جذرياً عن النظامين المصري والتونسي، وذلك بسبب سياساته التقدمية وتقدير الشعب السوري لقيادته. لذا، كان من الطبيعي مع اندلاع الانتفاضة ان يجري التعامل مع المحتجين كأقلية هامشية من المخدوعين الابرياء، يمكن تفهم بعض مطالبهم المشروعة، وزمَر من المتآمرين والمندسين والارهابيين اصحاب الاجندات المشبوهة ضد النظام القومي الوطني، المطلوب التصدي الحازم لهم لوأد عملية التخريب في مهدها.

على المنوال ذاته، ولكن بخصوصية الموقع “التقدمي” و “المقاوم” والمؤيد “المنطقي” للثورات العربية، برزت المواقف والتحليلات والنصائح الإشكالية للعديد من القوى والشخصيات والمثقفين. فانطلاقاً من تبنيها الاساطير الـمُؤسِسَة لايديولوجية النظام السوري، كان من الطبيعي ان يتمحور خطاب هذه الاطراف على ضرورة التوفيق بين الحكم التقدمي العلماني المعادي للسياسات الاميركية والاسرائيلية من جهة، والحركة الشعبية المنادية بالحرية والتغيير من جهة أخرى وذلك من خلال مناشدة القيادة السورية بتغليب الخيار السياسي عبر الانفتاح والمبادرة الى إجراء إصلاحات جذرية ومباشرة تؤسس لتجديد النظام واحتواء الانتفاضة وعزل قوى التآمر والتخريب والارهاب.

طبعاً، وعلى خلاف تمنيات هذا البعض ورغباتهم الذاتية المحلقة في عالم الايديولوجيا والاحلام والانتهازيتين السياسية والاخلاقية، قام ويقوم النظام السوري لسحق الانتفاضة، وبانسجام منطقي مع عقليته وبنيته وتجاربه، بارتكاب مجازر جماعية بحق ابناء شعبه وذلك تحت يافطة الايديولوجية نفسها التي أشرنا اليها آنفاً.

ان هذا الاجرام الرسمي الممنهج بحق الشعب السوري في زمن ثورات الحرية والديمقراطية والكرامة يطرح تساؤلاً كبيراً، انسانياً واخلاقياً وفكرياً وسياسياً، حول موقف العديد من القوى والشخصيات والمثقفين المحسوبين على التيارات القومية واليسارية والليبرالية وصولاً الى الاسلام السياسي تجاه ما يجري، وبالاخص في لبنان حيث الموضوع السوري، بمختلف جوانبه، هو قضية مركزية على الدوام.

في البداية يجب ان نشير الى ان حقيقة النظام السوري وما يمثله، قبل وبعد الانتفاضة، ليست مسألة نظرية معقدة تستدعي الاجتهاد والتأويل والانقسامات الفكرية والسياسية الوطنية والقومية الصادقة فهي واضحة للعيان من المواطن السوري مروراً باللبناني والفلسطيني والعراقي وصولاً الى الموريتاني. فبعد عقود من الحكم نلاحظ ان سوريا تحولت الى دولة سلالية طائفية أمنية إستبدادية، تمارس سلطتها بغطاء كاريكاتوري إسمه “حزب البعث العربي الاشتراكي”، أما القضية الرئيسية الدائمة لنظامها فهي تأمين إعادة إنتاج السيطرة المطلقة على المجتمع وما توفر من المجتمعات المحيطة وفي المقدمة منها دائماً وأبداً لبنان.

في هذا السياق نلاحظ توريث الحكم من الأب الى الابن، وجود دستور ومؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية شكلية وذلك في ظل سلطة فعلية للاجهزة الامنية وقيادات مختارة من الجيش يغلب عليها الطابع الطائفي العلوي، غياب حرية الرأي والإعلام والمشاركة السياسية في أدنى أشكالها وكذلك غياب القانون والحد الادنى من الحقوق الاساسية للانسان في مختلف المجالات. أما على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي فنحن أمام ما يسميه بعض المفكرين بالليبرالية المتوحشة حيث يتزاوج الاستبداد السياسي بالانفتاح الاقتصادي والخصخصة فيسود الفساد الشامل والنهب الرسمي المنظم لموارد الدولة وثروات المجتمع وذلك في ظل غياب للتنمية وتفاقم للبطالة وتردي مستمر في المستوى المعيشي لغالبية أبناء الشعب.

أما على الصعيد الخارجي فكانت سياسات النظام الفعلية، وبعيداً عن الشعارات المعلنة، إنعكاساً أميناً لسلوكياته الداخلية، فجاءت انهزامية وعاجزة في القضايا الوطنية ممثلة بالجولان ولواء الاسكندرون وإجرامية بحق المجتمعات اللبنانية والفلسطينية والعراقية، حيث تعاطى مع هذه الاوطان كأوراق يجب السيطرة عليها في سياق الصراعات الاقليمية من اجل تعزيز دعائم حكمه ونفوذه وذلك بعيداً عن أية اهداف قومية تحررية انسانية حقيقية.

نعم، لقد خاض النظام السوري صراعات مريرة في المنطقة مع الجميع وضد الجميع، اصطدم بالاسرائيليين وتفاهم معهم، واجه الاميركيين وتعاون معهم، قاتل وتحالف وعمل على احتواء اللبناني والفلسطيني والعراقي.

ففي لبنان، على سبيل المثال ولكونه يمثل مكانة مركزية في السياسة الاقليمية لسوريا، ساهم نظام دمشق بشكل رئيسي في توطين ظاهرة المقاومة الفلسطينية المسلحة ومن ثم كان لاعباً رئيسياً في محاولات إضعاف الثورة واحتوائها؛ تدخل عسكرياً لدعم الجبهة اللبنانية وإجهاض المشروع الوطني الديمقراطي ومن ثم انقلب على المارونية السياسية؛ إغتال كمال جنبلاط الرمز الوطني والقومي التقدمي ثم عمل على قتل الرئيس المنتخب إسرائيلياً بشير الجميّل؛ قاتل تشكيلات الاسلام السياسي بشراسة وساهم بحيوية مثيرة للتساؤل في خلق ودعم التنظيمات السلفية والجهادية؛ واجه قوى المقاومة الوطنية والاسلامية ثم تبنى حزب الله وغيرها من المفارقات. والحق يقال ان النظام السوري في ممارساته هذه لم يميز بين اللبنانيين، فالقتل والترويع والاحتواء طال الجميع من اليسار الى اليمين، ومن العلمانيين الى المتدينين، ومن المعتدلين الى المتشددين، ومن الموارنة والدروز، مروراً بالسنة، وصولاً الى الشيعة.

إن هذا السلوك المتناقض بظاهره، والذي كان يمارس تحت يافطة “القومية” و “الممانعة” و “المقاومة” وغيرها من التلفيقات الايديولوجية، كان على عكس ذلك في مضمونه الفعلي، حيث كان هناك منهج واضح ومتماسك لسياسة النظام السوري في لبنان، وهي اضعاف هذا البلد وانهاكه عبر استنزافه المتواصل (هذا الانهاك والاستنزاف شمل ايضاً كل القوى غير اللبنانية على الساحة بدءاً بالفلسطينيين مروراً بالاسرائيليين وصولاً الى الاميركيين) من اجل اخضاعه والتحكم المباشر المطلق باوضاعه وذلك في خدمة المصالح الذاتيه الضيقة والصفقات السياسية المشبوهة للطبقة الحاكمة في دمشق.

وفي سياق هذه السياسة وخدمتها كان هناك خط أحمر صارم يتمثل بمنع بروز أية عناصر قوة جدية في المجتمع اللبناني، بدءاً من الدولة نفسها، مروراً بالاحزاب السياسية والشخصيات العامة وصولاً الى الاعلام والثقافة. من هذا المنطلق يمكن تفسير العديد من الاحداث التي عصفت بالوطن اللبناني في العقود الاخيرة بما في ذلك الحروب المتنقلة والتفجيرات والاغتيالات وتعميق الطائفية، وتجويف الحياة السياسية، وشل الاحزاب وبالاخص تلك التي إنساقت، نتيجة لخلفياتها العقائدية القومية واليسارية، خلف السياسات السورية. هنا لا بد من الاشارة الى ان تجربة حزب الله تمتلك خصوصية استثنائية نشأت في ظل العلاقة الثلاثية بين إيران وسوريا والحزب، الأمر الذي سنتوقف أمامه بالتفصيل في مقال لاحق.

وبالفعل، فقد نجح النظام السوري في مطلع التسعينيات، وبعد صفقات إقليمية ودولية (أساسها المشاركة في الحرب ضد العراق) بتحقيق امنيته الاستراتيجية في تطويع المجتمع اللبناني والسيطرة عليه والتحكم بنظامه السياسي ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفي هذا السياق نشأ ما يسمى بالنظام الامني اللبناني – السوري الذي كانت تديره دمشق عبر ضابط أمن لعب دور المفوض السامي المطلق الصلاحيات حيث كان يَنْهَرْ ويأمر الجميع من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف ومواطن.

وبالرغم من انتفاضة الشعب اللبناني ضد النظام القائم وخروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 على أثر إغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري فان النظام في دمشق، وبحكم عقليته التوسعية الاستئثارية وبنيته الامنية الاستبدادية لم يستطع تجاوز سياسته التقليدية العدوانية تجاه لبنان، بل حاول ويحاول جاهداً تجديد الهيمنة والتحكم وذلك بأشكال وأساليب مختلفة.

ان النظام السوري، ليس في لبنان فقط، إنما في سوريا بالمقام الاول، وبحكم طابعه السلالي الطائفي الامني الاستبدادي، لا يحتمل اصلاحات وتغييرات جدية تقود ولو بشكل متدرج الى دولة مدنية حديثة وبالتالي الى تعاطي نوعي جديد مع الداخل والخارج. فهي، اي هكذا اصلاحات، تعني عملياً نهاية محتومة له، وهذا الامر يعرفه أرباب السلطة، وفي المقدمة منهم الرئيس بشار الاسد، أكثر من اي طرف آخر، صديق او عدو. لذا، أتى خيار إبادة الحركة الشعبية، والذي يسمى تلطيفاً بالخيار الامني، والتلويح بالفتنة الطائفية ووضع الحرب الاهلية على رأس جدول الأعمال، منسجماً تماماً مع قرار الطغمة الحاكمة في الدفاع عن سيطرتها المطلقة على الدولة والمجتمع.

من هنا، فإن التقدم الى الأمام نحو سوريا المستقبل، سوريا الحرية والديمقراطية والكرامة، يعني تغيير هذا النظام وليس مناشدته الديماغوجية لإصلاح نفسه. بالطبع، الجدل الممكن في هذا المجال يكمن فقط في نقاش المحاولات والاجتهادات الممكنة لآليات التغيير وضرورة إبتداع اقصر الطرق واقلها كلفة على الشعب والمجتمع والدولة.

وفي الختام، وانطلاقاً من مجمل المعطيات الواردة آنفاً، وإذا اعتبرنا ان الطائفية والاستبداد والسلوك الاجرامي هي قضايا شائعة في عالم الإنحطاط نرى بأن هناك خصوصية سورية حقيقية في عملية التغيير الجارية تميزها نوعياً عن باقي الثورات العربية يمكن الإشارة إليها بعاملين اساسيين وهما:

1ـ على خلاف الثورتين التونسية والمصرية كحالتين تعنيان بشكل جذري ومباشر المجتمعين التونسي والمصري بينما ابعادهما الخارجية تتمثل اساساً بقوة النموذج وسياسات ما بعد الثورة، فان الثورة السورية لها أبعاد تغييرية جذرية شاملة إنسانية واخلاقية وثقافية وفكرية وسياسية ليس فقط في الواقع السوري وانما ايضاً في الواقع اللبناني كذلك، وبشكل جزئي في الواقعين الفلسطيني والعراقي. من هنا يمكن القول بان الثورة السورية هي فعلياً ثورتين في الوقت نفسه، واحدة مباشرة وتخص الدولة والمجمع والشعب في سوريا، واخرى، غير مباشرة، وتخص الدولة والمجتمع والشعب في لبنان.

2 ـ وجود تمويه ايديولوجي لا يستهان به لسياسات النظام الفعلية، وبالاخص استخدام “تجارته” الرائجة بقضيتي “الممانعة” و “المقاومة”. ويكتسب هذا العامل اهميته من خلال تبني عدد من وسائل الاعلام والقوى السياسية والشخصيات العامة العربية، اللبنانية اساساً، لهذا الموضوع وذلك من خلال المواقف وتغطية الاخبار والتعليقات والتحليلات والمناشدات الديماغوجية. وبهذا تكون هذه الفئات وضعت نفسها وبيئاتها في موقع الشريك المعنوي للنظام السوري في الجريمة البشعة التي يرتكبها بحق أبناء شعبه في حركته الانسانية النبيلة الهادفة لإزالة الطغيان وبناء الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنين والمؤسسات والقانون، وكذلك الامر، فإن هذه الفئات ترتكب ايضاً جريمة اخرى، مباشرة، بحق الشعب اللبناني الذي عانى ويعاني وسيعاني مريراً من هذا النظام في حال قدرته على الاستمرار.

كاتب عربي

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى