صفحات مميزةمنذر خدام

الخطاب الخامس وربما الأخير للرئيس السوري


منذر خدام

ألقى الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد خطابه الخامس منذ اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظامه، وذلك بمناسبة افتتاح الدور التشريعي الأول لمجلس الشعب الذي تم «انتخابه» مؤخرا كتتويج لحزمة «الإصلاحات» التي أنجزها خلال الخمسة عشر شهرا الماضية. من هذه الزاوية أراد الرئيس السوري أن يبدو خطابه وكأنه خطاب رجل منتصر قد أنجز جميع الإصلاحات المطلوبة، في حين أنه لا يعدو كونه، على الأرجح، خطاب وداع مقدم اجتهد ملقيه أن يبدو هادئا فلم ينجح.

لقد حاول الرئيس في أكثر من موضع في الخطاب أن يوحي لمستمعيه بأنه في كل ما يقوم به منذ بدء الأزمة في سوريا يهدف إلى تحقيق مصلحة المواطن، فالمواطن بالنسبة إليه هو «المنطلق»، وعليه لا بد أن يكون «رأي المواطن هو البوصلة» التي يسترشد بها. وهو أيضا، بحسب ما جاء في الخطاب، يتعلم من الشعب إذا أرد أن يواجه مشكلة معينة، غير أن المواطن الذي يسترشد الرئيس برأيه، والشعب الذي يتعلم منه، قد قالا كلمتهما وهي أنهما يريدان «إسقاط النظام».

لكن بعيدا عن الجوانب الشعبوية في الخطاب، وهي جوانب قصدها الرئيس لذاتها، وبعيدا أيضا عن الدروس التعليمية التي تعود أن يلقيها علينا وعلى غيرنا في جميع خطاباته، فإن أقل ما يمكن أن يوصف به الخطاب هو أنه جاء مخيبا للآمال، وبعيدا جدا عن الواقع، وبالتالي فهو لا يتناسب مع طبيعة الأزمة التي تسبب فيها نظامه الاستبدادي للشعب السوري ولسوريا الكيان السياسي. لقد شكل الخطاب صدمة كبيرة حتى لكثير من مناصري النظام ولأولئك الواقفين على «الحياد» أيضا، والذين بدأوا يتساءلون بأصوات مسموعة عن مخرج للأزمة يأتيهم به الرئيس بإعلان تنحيه وتحمل مسؤولية ما يجري في سوريا، أو في الحد الأدنى يعلن عن اتخاذ إجراءات جريئة وحقيقية لتطبيق خطة كوفي أنان. فبعد كل هذه الدماء التي سالت في سوريا، من غير المنطقي أن يبشرهم رئيسهم بمزيد منها.

وحتى بالنسبة لمعارضي النظام السوري وللعالمين بطبيعته الطغموية المافيوية، فإنهم لم يكونوا يتوقعون هذه المغالاة والمكابرة في تجاهل حقيقة ما وصلت إليه الأوضاع في سوريا. فلا يزال الرئيس السوري بعد سقوط أكثر من عشرين ألف شهيد، ونحو ستين ألف معتقل ومفقود، وأكثر من مليون ونصف مليون من المهجرين، وبعد كل الدمار الذي تسببت فيه آلته العسكرية والأمنية لمختلف مرافق الحياة في سوريا، يصر على أن ما يجري في سوريا ليس أكثر من مؤامرة خارجية وهجوم إرهابي شامل، بهدف إحداث «فتنة» بين السوريين. بل وذهب بعيدا هذه المرة إذ اتهم شعبه بالإرهاب، وأنه صار أداة من أدوات المؤامرة الخارجية على بلاده!! في تعبير واضح عن الإفلاس السياسي.

يقول الرئيس في خطابه «تتصارع في سوريا قوتان؛ الأولى تدفع للوراء بما تحمله من محاولات لإضعاف سوريا وانتهاك سيادتها» بما تقوم به من «قتل وتخريب وجهل وتخلف وارتهان البعض للخارج» في إيحاء مكيف لكنه واضح الدلالة إلى الجماهير المنتفضة، و«القوة الثانية تدفع باتجاه الأمام بما تحمله من تصميم على الإصلاح تجلى بحزمة القوانين والدستور الجديد»، وهو هنا واضح في تعظيم دور نظامه. بل وذهب الرئيس بعيدا في تعاليه على الواقع عندما قال إن ما قام به من إصلاحات صدَّ «جزءا كبيرا من الهجمة» الخارجية الدولية على نظامه. لقد تجاهل الرئيس أن نظام حكمه لسوريا مستمر منذ نحو خمسة عقود، وأنه المسؤول الوحيد عما وصلت إليه الأوضاع فيها من تأزم وتعقيد، فهو المتسبب فيها بداية، وهو الذي عمقها وزادها حدة ثانية، وهو الذي يصر على تجاهل رؤية المخرج الوحيد منها وهو رحيل نظامه كما يطالب الشعب السوري بذلك.

لم ينس الرئيس السوري أن يتحدث عن الحوار مع المعارضة للبحث عن حل سياسي للأزمة، ولذلك خصها بجزء مهم في خطابه. لكن السؤال عن أي معارضة يتحدث الرئيس بعد أن استثنى من الحوار معارضة الخارج بذريعة أنها تدعو للتدخل العسكري الخارجي في سوريا، وبعد أن استثنى المعارضة التي وصفها بأنها تنتظر «توازنات الخارج» أو «تتلقى الأوامر» منه، ويقصد بذلك جميع فصائل المعارضة الداخلية التي رفضت المشاركة في لعبة الانتخابات لمجلسه البرلماني، وبتوصيفه هذا فإنه يتهمها بالعمالة؟! في هذه الحالة لم يبق من يحاوره سوى تلك «المعارضة» المضبوطة التي أغراها ببضعة مقاعد في برلمانه على أمل أن يمنحها بضعة مناصب وزارية في حكومته القادمة. ثم على ماذا سوف ينعقد الحوار، إذا كانت الإصلاحات قد أنجزها نظامه، وكانت «انتخابات» مجلس الشعب تتويجا لها، ولم يبق سوى أن تقبل بها المعارضة والشعب؟! إن من يفكر بهذه الطريقة واضح أنه لا يريد أي حل للأزمة التي تسبب فيها لسوريا، وأنه مصر على الاستمرار في خياره العسكري الأمني حتى تدمير البلد. لقد قلنا أكثر من مرة إن من يرفع شعارات «الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو نحرق البلد» صدقوه، فهو يعني ما يقول، وغير ذلك لا يعدو كونه حشوات إنشائية.

لقد اعترف الرئيس في خطابه على غير عادته بأن سوريا تعيش في أزمة، وهذا تحول ينم عن ضعف، فلم تعد تجديه المكابرة، واعترف أيضا بأن الثورة السورية كانت ثورة شعبية سلمية حتى شهر رمضان من عام 2011، في تكذيب يقارب الفضيحة لما جاء في خطاباته السابقة ولكل آلته الإعلامية. وبالتأكيد سوف تكون لذلك مفاعيله على صعيد جمهور لا يزال مترددا في مواقفه مأخوذا بدرجات مختلفة بإعلام السلطة ودعايته.

إضافة إلى ذلك فقد ترددت كلمة «حوار» كثيرا في خطابه، حتى يكاد يستجديه فلا يجد من يحاوره، في علامة أخرى على الوضع غير المريح الذي أوصل نظامه إليه. وعلى الرغم من أن الرئيس السوري وجه خطابه إلى الداخل كما قال، واجتهد أن يكون هادئا أثناء إلقائه، ومتشددا تجاه خصومه، ومبشرا السوريين بمزيد من الدماء، في مقاربة ذات دلالة لعمل الطبيب الجراح، الذي «لا يكترث للدماء التي تسيل أثناء إجراء العملية»، فإن ما بين كلمات الخطاب المنطوقة رسائل واضحة للخارج وبصورة خاصة للروس حلفاء النظام بأنه باق، ولن تجدي تصريحاتكم الجديدة حول إمكانية مناقشة الخيار اليمني وتطبيقه في سوريا في المؤتمر الدولي القادم الذي تعد له روسيا بموافقة أميركية وأوروبية. لكن أن يريد النظام شيئا ويريد الواقع السوري والعربي والدولي شيئا مختلفا، فالغلبة لخيار هذا الأخير.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى