صفحات العالم

الخطاب الرئاسي وتصريحات العبث الدامي

 


بشير هلال

تتعذر قراءة التصريحات «المُدوّية» للوزير وليد المُعلِّم بمعزل عن خطاب الرئيس السوري قبله بيومين. إذ بدَت كما لو أنه أنيطت بها استكماله وإعادة تصويبه حيثما فشل وتضخيم وعوده وتهديداته حيث كان خفيضاً ومُلتبساً. وأتت مقدمة المؤتمر الصحافي للوزير دالة على ذلك بردِّه على الدول والقوى التي اعتبرت أن الخطاب جاء متأخراً أو أنه غير كافٍ أو غير جدي. وكأنما ارتسمت لتصريحاته هذه مهماتٍ أربع:

– استثمار تظاهرات التأييد المُنظمَّة للرئيس «تحيةً» لخطابه الثالث منذ بدء الاحتجاجات، بما تضمنه من تفصيل وعود «إصلاحية» مُرجأة ومتجدِّدَة. إذ افتُرِض في حشدها شرائح مؤيدين متناقصة (مُقارنة بتلك «المليونية» المُستعْرَضَة قبل خطابه الأول) وكثرة من المتظاهرين المُلزَمين، تظهير قدرٍ من التأييد له لشرعنة خياره الأمني الدموي وإكماله بسياسة «شارع ضد شارع» في وقت واحد. وإن كان الإيحاء مُضَلِلاً حيث أن شارع السلطة يتمتع برُشاها وبحمايتها واحتفاليتها فلا تمس به «عصابات المُندسِّين والإرهابيين»، فيما الثاني يُقمَع ويُدَمَّى دونما تقتير. وفي ذلك تلويحٌ بأن المُمكِن ليس التغيير بل حربٌ أهلية يُفتَرَض باستحضار أشباحها لعب دور الكابح للحراك الشعبي.

– ضخ الثقة في متانة النظام بين مؤيديه، وإيقاف تآكلها لدى الشرائح التجارية والمهن الحرة – بخاصةٍ في دمشق وحلب – المتعاطفة نسبياً معه لانتفاعها من مجريات «الإنفتاح « و «الاستقرار»، وإقناعها بأنه مُقبلٌ على تنفيذ إصلاحات بمقادير غير جذرية تتيح استمراره وتجاوز أزمته واستئناف النمو وحماية مصالحها في آنٍ واحد. وفي ذلك محاولة لرتق ما تركه خطاب الرئيس من انطباعات بأن الأزمة مستمرة وأن الوهن بدأ يصيب الاقتصاد وأداءه.

– تسفيه الموقف التركي بذاته وكنقطة تقاطع وتفعيل للمواقف والتحركات الأوروبية والأميركية و «الأممية» من الخيار الأمني، باعتباره موقفاً جاداً في مطالبته بإصلاح يستجيب للحراك الشعبي ويتيح اتقاء أخطار الفظائع والقمع على وحدة سورية وانعكاساتها الاقليمية. ولذا جهدت تصريحات الوزير المُعلِّم لتقديمه كتدخل سافر وأستذة لا محل لها في شأن داخلي بحت، بعد حملة إعلامية تصاعدية استهدفته تارةً كداعمٍ لحركة الإخوان المسلمين وطوراً كانعكاسٍ لـ «عثمانية جديدة» ودائماً كجزء من «المؤامرة الخارجية»، في حين كانت القوى العسكرية للنظام تزداد اقتراباً من الحدود التركية في استدراجٍ ساخن لإغلاق ملف مخيمات اللاجئين السوريين إليها، وتحطيم الآمال بدورٍ تركي إيجابي ودعم معنويات مؤيدي النظام وربما إذا طالت التوترات البدء باستذكار واستعادة «العدو المثالي» التاريخي المُخيف للقوميين وللأقليات. الأمر الذي دفع وزيرة الخارجية الأميركية إلى التحذير من أنه «ما لم تضع القوات السورية فوراً حداً لهجماتها واستفزازاتها التي لم تعد الآن تؤثر على مواطنيها وحدهم بل تهدد باحتمال حصول اشتباكات حدودية، فسنشهد تصعيداً للصراع في المنطقة». ولا يُخفِّف من احتقان المشهد لعب دور الضحية المُمانِعة في «علاقة حبٍ من طرفٍ واحد» كما قال الوزير بما يشبه تبريراً يقدمه للتجار والأهالي – وبعضهم ما زال متعاطفاً مع النظام – الذين تربطهم بتركيا مصالح وعلاقات عوَّلوا على توثيقها إبَّان اعتبار العلاقة استراتيجية.

– مواجهة الموقف الأوروبي الضاج بإدانة القمع وبالعقوبات التي قد تتخذ أشكالاً أقسى باحتمال امتدادها اللاحق إلى مجمل التعاملات المالية والمصرفية وإلى المشتقات النفطية، بتسخيف قوته عبر صيغة «سننسى أن أوروبا على الخريطة» رغم الوزن المهم للتعاملات مع الإتحاد في الميزان التجاري السوري، ورغم تقدير الخبراء بأن الاقتصاد قد يكون عقب أخيل النظام. ويُكمِل الوزير «نسيان أوروبا» بالتلويح بقوة «الجبهة» الرافضة إدانة النظام في مجلس الأمن رغم عدم ثباتها واحتمال مساومة بعضها على مغادرة موقف الرفض مقابل فوائد تُجنى في ملفات أخرى فضلاً عن اضطرارها في الوقت نفسه إلى مطالبته بالإصلاح لتغطية موقفها. ويختم برسالة الى الولايات المتحدة وإسرائيل أن بإمكان النظام تعميق استناده الى إيران و «حزب الله» اللذين حرص على إبراز دعمهما «السياسي». وهو استنادٌ يمكن في حالة قصوى أن يتخذ أشكالاً عسكرية. وكل هذا التحليل المُتَقصِّد التفاؤل يتضمَّن رسالة تيئيسية إلى الحركة الاحتجاجية من الإيجابيات الممكنة لزيادة الضغط الدولي في وقف عنف السلطة، وأخرى تشجيعية لأنصارها المترددين.

– تقسيم المعارضة التاريخية وعزل الشبابية – الشعبية بتقديم تأويل تضخيمي لوعود الخطاب الأخير للرئيس. فوفق الوزير المُعلِّم فإن «الحوار الوطني» سينعقد وأن «كل السوريين مدعوون إلى المشاركة ليختاروا من يشارك وهناك لجنة تحضيرية لهذا الحوار الوطني ستضع الأسس التامة لهذا الحوار بمشاركة حوالى 100 عضو»، وأن «هذا المؤتمر التحضيري هو الذي سيقرر الآليات والمشاركين وكل شيء»، وأن الرئيس طرح «التوجه نحو مناقشة مشاريع القوانين كافة التي وضعها في طريق تحقيق الإصلاحات وهي قانون الأحزاب وقانون الانتخابات والإدارة المحلية وبعدها قانون الإعلام»، وأن «الدستور تعديلاً أو إعادة كتابة سيكون أيضاً موضع بحث»… لينتهي بالتساؤل: «كيف يكون – الخطاب – غير كاف وقد نص على تعديل الدستور بما في ذلك المادة 8 أو تغييره». وفي هذا إيحاء مزدوج الخطأ ومقصود: الرئيس قدَّم تنازلات كبيرة ولذا فهو لن يُقدِّم المزيد، وعلى المعارضين الاختيار على مسؤوليتهم. في حين لم يتأمن بعد الشرط الأولي البديهي لأي حوار وهو إيقاف عنف السلطة واستعراضات قوتها المنتجة لمزيد من القتل والدمار.

تشبه تصريحات الوزير سجالات وذرائع ماري في مسرحية يونيسكو «الملك يموت». فهو يُزيِّن للنظام رفض نهايته ويُرسِّخه في اعتقاده اللامعقول: «أنه يتصوَّر نفسه كل شيء. وأن كينونته هي كل الكائن»، كما تقول مارغريت زوجة الملك الأولى ورمز المحاكمة العقلية الباردة والتي تنصحه لتقبُّل الانتقال بالقول: «حبة الملح التي تذوب في الماء لا تختفي لأنها تجعل الماء مالحاً». إنه عبث البعث الدامي.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى