صفحات العالم

الخلاصيّة و«موضة» نقد المجلس الوطني


سامر فرنجيّة

أصبح من الدارج أخيراً توجيه شتى أنواع النقد إلى المعارضة السورية والمجلس الوطني السوري. بعض ذاك النقد صادر عن حلفاء النظام الضمنيين، وبعضه الآخر عن المتخوفين على الثورة ومجراها.

فلدى بعضهم، المجلس مجرد غطاء لتسلل إسلامي، إن لم يكن قاعدياً، فضلاً عن طائفيته وتشجيعه للعنف. وثمة من يتهمه بالإسرائيلية وبمشاركته في مؤامرة غربية ضد المنطقة. وبين هؤلاء من هو أكثر قومية وعداء للديموقراطية من النظام الحالي، ومن هو منبثق من التربة ذاتها.

في موازاة تلك التهم، يُنتقد المجلس الوطني أيضاً لضعفه وركاكته، وكونه مجرد تجمع لمثقفين ليبراليين وعلمانيين، لا علاقة لهم بالواقع، وأنهم مادة للتضحية بهم عند الحاجة.

لسنا في صدد الدفاع عن المجلس الوطني أو المعارضة السورية. فلبعض هذه الانتقادات أساس، وإن كانت مبالغاً فيها. لكن توجيه النقد والشتائم إلى هذا المجلس لا يُفسّر بأفعاله أو أخطائه فحسب، بل بتحول أعمق طاول تقويمنا للثورات العربية أخيراً.

فبعد فترة التهليل المتضخّم، دخلنا طوراً جديداً في علاقتنا مع هذه الثورات، عنوانه خيبة الأمل، أو «الملل الثوري» كما كتب هاني درويش. وفي هذا المناخ، لم تعد المعارضة السورية دلالة إلى مستقبل أفضل، بل أصبحت مجرد إشارة إلى سلفيي مصر وعنف ليبيا وإسلاميي تونس، وغير ذلك من رموز الإحباطات. بهذا المعنى، تحول المجلس الوطني والمعارضة السورية إلى كبش فداء للخيبة العامة من الثورات العربية.

تدفع الثورة السورية اليوم ثمن تأخرها واستمرارها في زمن «الملل الثوري» هذا. فالثورة التونسية انتهت قبل أن تبدأ، ونظيرتها المصرية لم تدم طويلاً، وأي تشكيك بهما كان لا يلبث أن تجتاحه موجة الدعم العارمة. فالثورتان كانتا من ثورات عصر السرعة، بلغتا الذروة بعد أيام من انطلاقهما، ثم انهار بعض الآمال بصددهما بالسرعة ذاتها، وذلك عندما لحق بهما الواقع.

انطلقــت الثورة السورية في زمن الانهيار هذا، ولم تتح لهــا فرصــــة الاستفادة من فترة السماح التي أعطيت لغـــيرها. فإذا كان سجن وائل غنيم بضعة أيام كفيلاً باجتذاب دعم عالمي، ففي المقابل لم تكف أسابيع القصف والقتل في حمص للتغلب على الحذر الناتج من خيبة أمل بعضهم.

والثورة السورية دفعت ثمن ميزة أخرى لثورات عصر السرعة، هي المراقبة المستمرة لأصغر تطوراتها. فإذا كانت تقنيات الاتصال الحديثة لعبت دوراً اساسياً في انطـــلاق الثورات واستمرارها ونجاحها، فقد كان لها أثر آخــــر في تعمـــيم كل ارتكابات الثوار من جهة وعثرات الثـــــورة من جهة أخرى.

وكما جسَّمت تلك الوسائل البطولات، فإنها ضخّمت أيضاً كل الإخفاقات. فقد ضاقت المسافة بين الحدث وتقويمه والتي سمحت في الماضي بتمجيد الثورات على نحو غير مشروط، ما فرض على داعميها أن يهضموا، من دون أي مسافة زمنية أو مكانية، الحقيقة المرّة التي وصفها ماجد كيالي: «لا يمكن انتظار ثورة نموذجية، نظيفة وكاملة ومستقيمة وشاملة، ومن سينتظر ثورة كهذه، تأتيه من رحم الواقع القائم، فلن يجدها». فإذا ما حالت الثورتان الأوليان دون امتحان هذه الحقيقة، فهذه الأخيرة لا تكفي لحجب الدعم عن الثورة السورية.

تفاقمت علاقة الثورات بالسرعة والأخلاق مع فشل نظرية الديموقراطية كبديل تلقائي للقمع، وهي نظرية لعبت دور البلسم النفسي لداعمي الثورات. فالثورات أظهرت أن ثنائية القمع والديموقراطية غير كافية بحد ذاتها، والأهم أنها غير مضمونة. وتبين أن تفكيك النظام القمعي لا ينتج تلقائياً نظاماً ديموقراطياً، وأن عدداً من الممارسات التي كنا نضعها في خانة الاستبداد استمرت بعد اختفاء المستبد. تكفي التفاتة سريعة إلى صور تعذيب الأفارقة في ليبيا أو أحداث العنف في مصر، أو أخبار القتل الطائفي في سورية لتأكيد مقولة تفيد بوجود حلقة ما بين القمع والديموقراطية لا يمكن تجاهلها باسم الشعب.

لكن من الخطأ استنتـــاج أن الديموقراطية مستحيلة لأنها غيــــر تلقائية. فهذا الاستنتاج الذي توصل إليه كثيرون وإن ضمنياً، نابع من فكر خلاصي يعتبر أن فعلاً واحداً قـــادر على حل مشاكل المجتمعات بأجمعها. ومع انتهاء صلاحية نظرية الديموقراطية التلقائية، سقط آخر معاقل الفكر الخلاصي، محرراً السياسة من الحتمية وفارضاً عليها مسائل الخيار والأخلاق والحدود. فالخيبة اليوم ليست مجرد إحباط من الثورات، إحباطٍ لا يبرره سياسياً ما يحصل في مجتمعات ما بعد الثورة، بل هي خيبة الفكر الخلاصي الذي اكتشف أن السياسة بدأت في ١١ شباط (فبراير)، إلاّ أنّها لم تنته وتبتّ كلّ المشاكل، كما اعتقد.

وبالعودــة إلى المعارضة السورية ومجلسها الوطني، قد تكمن مشكلة كثيرين معهما في أنهما تعبير عن هذه الأزمة المزدوجة، أزمة الدعم في زمن الحقائق المرّة وأزمة السياسة خارج الخلاصية المطمئنة. فمثلاً، نريده مجلساً ديموقراطياً ومدنياً وعلمانياً وسلمياً، أي نريده أن يطمئننا إلى أن موقفنا مصيب أخلاقياً. بيد أننا نريده أيضاً قوياً وواقعياً وقادراً على الدفاع عن المتظاهرين وجلب الدعم الخارجي للثورة، أي نريده أن يقود الثورة بطريقة فعالة. وفي هذا المعنى، يبدو إخفاق المجلس، إن كان هناك إخفاق، إشارة إلى أزمة أعمق هي أزمة إعادة اختراع السياسة في عصرنا. فموقفنا من المجلس هو الموقف من السياسة ما بعد الثورات، ونقدنا لفشله المفترض ليس إلاّ عترافاً بفشلنا في ابتكار تلك السياسة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى