صفحات مميزةياسين الحاج صالح

الخلافة… الخليفة… و”خلافو”/ ياسين الحاج صالح

 

 

■ جاء أبو بكر البغدادي من خارج دوائر الإسلاميين السياسيين الذين خاضوا صراعا مضطربا مع النظم الحاكمة في العالم العربي طوال عقود. الرجل الغامض الذي لا يعرف له تاريخ يقطف ثمار الضغط المديد الذي تعرضت له مجتمعاتنا المعاصرة بين نظم حكم قاتلة وخاوية من المعنى، وبين مزايدة الإسلاميين على الناس بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وبشعارات مثل «الإسلام هو الحل»، ومفاهيم مثل الحاكمية الإلهية، وبرامج مثل تطبيق شرع الله. الوجه الآخر لهذا التعظيم الذاتي هو التشنيع على العالم المعاصر، وإثارة الغبار حول مبدأ الحرية، والحط من شأن الحقوق التي يتمتع بها الناس في الغرب وغير الغرب. وهو ما شكل ضغطا إضافيا على مجتمعاتنا المبلبلة الأوضاع والمدارك.

وإذ أغلقت أبواب التغيير السياسي والاجتماعي طوال نحو جيلين، بقي مفتوحا فقط باب المبالغة بعظمة المثال الإسلامي ونجوعه الكلي وعدالته الكاملة. وغير الضغط على المجتمع بإسلام يفترض أن الله أغنانا به عن سواه، جرى الضغط على الإسلام ذاته وتسخيره لأغراض الصراع على السلطة، حتى لم يبق له شكل أو صورة محددة. فهو دين ودولة وقانون وشريعة وعلم وأخلاق وهوية وأمة وسياسة وجيش، إن حاكينا صيغا متواترة لدى القرضاوي وحسن البنا. وبمحصلة هذا التلاعب المديد صار الإسلام الذي لم تعد له شخصية محددة مبدأ للمزايدة والإحراج العام. هذا ما يسر الأمر للبغدادي الذي يتفوق على الجميع في المزايدة، ويدفع المضمر في أقوالهم ومشاريعهم إلى الظهور الأقصى: دولة الإسلام الآن، وتنصيب خليفة، من دون انتظار أولئك المتلجلجين الذي قضوا أعمارا وهم يريدون الشيء وعكسه ويقولون الشيء وعكسه.

إعلان أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين ودعوة المسلمين في كل مكان إلى مبايعته حدث تاريخي بالفعل، من حيث أنه أوصل إلى نهايتها المنطقية الدعوة إلى تحكيم الإسلام في السياسة والدولة وحياة السكان. ولعل هذا مصدر ارتباك عموم الإسلاميين حيال داعش قبل إعلان نفسها دولة المسلمين، ارتباك لا يتوقع له إلا أن يزيد بعد أن صار الرجل في موقع من يطالبهم بالبيعة والطاعة: أمير المؤمنين. الإسلاميون محرجون لأنهم هم من فتح باب سياسة الإحراج، وجاء من يدفع الأمر إلى منتهاه ويضعهم هم في الحرج الأقصى. فلا هم يستطيعون رفض خلافته على نحو مقنع من دون مراجعة جذرية لمشروعهم السياسي، وهم إن قاموا بهذ المراجعة مضطرون لقول كلام واضح في شأن الحرية الدينية (بما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد) والمساواة بين السكان (بصرف النظر عن الدين والجنس)، والفصل بين الدين والعنف، وهو ما لا يستقيم على أرضية عقيدة الحاكمية الإلهية، أو دعوى تطبيق الشريعة.

لم تعد كافية أو مقنعة الاعتراضات الكلية التي كانت تسمع على داعش قبل تحولها إلى «دولة الإسلام»، فظاظة الجماعة وخشونتها في التعامل مع السكان الواقعين تحت سلطانها، والتشكك في روابط خفية لهم مع أجهزة إقليمية. فظاظة داعش مميزة فعلا، لكن هل هناك قضية مبدئية تميزهم عن جبهة النصرة أو الجبهة الإسلامية؟ ولا يشغل أحد من المعترضين على روابط داعش المحتملة موقعا استقلاليا حقا يمكنه من نقد متسق لها.

لا تعود خلافة داعش، وقبله ظهورها ذاته، وقبلهما تنظيم القاعدة، لا تعود حصرا إلى تلاعب الإسلاميين المديد بالإسلام وإفقاده شخصية مميزة .لا ريب أن اضطهاد السكان طوال عقود على يد سطات متغولة، لها خلافتها الخاصة التي لا تنضبط بمبدأ أو قانون، ولا تفضل الغول داعش وخلافتها في شيء (باستثناء أنهم منضبطون تماما حيال القوى الدولية النافذة)، وكذلك على يد التحالف الأمريكي الإسرائيلي العدواني، هذان الاضطهادان أورثا مجتمعاتنا استعدادا للبارانويا (مزيج مرضي من الاضطهاد والعظمة والارتياب) هو ما يكمله الإسلاميون حين يجعلون من اضطهادنا برهانا على عظمتنا، ولا يرون العالم المعاصر كله إلا مؤامرة متمادية على الإسلام، ولا يجدون كرامة للمسلمين، أو «عزة الإسلام» حسب تعبيرهم المفضل، بغير فتح البلدان والسيادة على العالم. العزة هي ما ركز عليه إعلان الخلافة على لسان أبو محمد العدناني، الناطق باسم داعش. وهو إذ يظهر ظمأ المسلمين المعاصرين إلى الكرامة، يظهر أيضا التوجيه الامبريالي لهذا التطلب باتجاه العدوان على الغير والاستيلاء على مواردهم والسيطرة على بلدانهم. نتصور أن كرامتنا في السيطرة على الآخرين وإذلالهم وليس في التحكم بأنفسنا، وفي إخضاع العالم وليس في ضبط عوالمنا الداخلية. هذا مفهوم عدواني وغير كريم للكرامة، تواليه داعش، لكنها لم تخترعه. إنه مكنون في تديننا ومخيلتنا التاريخية وتفكيرنا الديني والقومي. وهو ينحدر إلينا من الامبراطورية التي لم تتم مراجعة ميراثها وتصفية الحساب معها في ثقافتنا في أي وقت، لا بل رفعت إلى مصاف التجربة المرجعية التي يسكن القلوب والأذهان بعثها واستعادة السيادة العالمية الضائعة.

تحمل دولة الخلافة بذور فنائها، فهي قوة حقود وعدوانية جوهريا، تكونت بآليات الاستعمار من عدوان على المحكومين واحتقار عنصري لهم واستيلاء على مواردهم، ويحركها تطلع إلى التوسع في الداخل والخارج، التطويع المطلق للواقعين تحت سلطتها، وإخضاع أقاليم أخرى ما استطاعت. يحركها أيضا نازع للمزايدة على الإسلاميين الآخرين، وعلى المسلمين جميعا، يفوق حتى مناخ المزايدة والإحراج الذي مهد لها على يد الإسلاميين الآخرين، ويذكر بالمزايدة البعثية قبل جيلين، وقد قادت خلال زمن قياسي إلى كارثة حزيران/يونيو 1967.

لا يبعد مع ذلك أن يلتــقي ظهور هذا الكيان العدواني مع محصلات إجهاض الثورة السورية والانقسام الواقعي للبلد، ومحصلات تمزق العراق تحت وطأة طائقية نظامه وتبعيته لإيران، وما يحتمل أن يرفدهما من اقتناع قوى إقليمية ودولية بجدوى إفراد السنيين المتشددين بكيان خاص لهم، يروي ظمأ مظلوميتهم، ويبقى ما شاء البقاء (لكن لا يتمدد)، ويضمن الاستقرار العزيز على أقوياء العالم في نطاق حاكميته، وقد لا يتأخر عن تطوير إحساس بالمسؤولية والانضباط أمام الأقوياء والكبار (وإن ثابر على قتل الصغار، من لا يفعل؟)، وإثبات جدواه للمتنفذين في الإقليم والعالم.

أما الإسلاميون السياسيون الذين حقق البغدادي ما مهدوا له وعجزوا عن تحقيقه فسيمضون على الأرجح في الرغبة في الشيء وعكسه. هذا نابع من كيانهم المنفصم، وليس من أفكارهم الحائرة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى