صفحات الرأي

الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين: المصطلح والتعاقب والطبيعة/ طارق زيادة

 

 

يبدو من الضرورة في مكان، وحديث ما يسمى دولة الخلافة يحظى حالياً باهتمام العالم بأسره، إيلاء الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين عناية موضوعية في ضوء معطيات التاريخ العربي والإسلامي، في وقت تختلط فيه المفاهيم. لا بد من تحديد المصطلحات منهجياً والنظر في تعاقب الخلافة تاريخياً، على الأقل في القرن الهجري الأول، ثم التعمق في طبيعة الخلافة.

توفي الرسول العربي في الثامن من حزيران من العام 632 للميلاد، ولا يبدو أنه قرر ما ينبغي اتخاذه من ترتيبات لما بعد وفاته، ولربما ترك الأمر الى التقليد العربي الذي يتضمن اجتماع القبيلة بعد وفاة الشيخ أو الرئيس من دون محاولة حصر حق الخيار. ذلك ان الإسلام لم يأتِ بنظرية محددة للدولة ولم يضع إطاراً لها ولم يفصل بشكل عقائدي في شأنها، واكتفى النص القرآني بذكر الأمر: “وأمرهم شورى بينهم”، حتى ان الآيات التي وردت في شأن الشورى لا تتعدى أصابع اليد الواحدة دون أي تفصيل. اما تعبير الحكم في النص القرآني فمنصرف، بمفهوم معظم الفقهاء، والمفسرين، الى فصل النزاعات بين الأفراد أي القضاء.

حصلت وفاة النبي وكأن الموت جاء مفاجئاً، وأخفي الأمر حتى صار استدعاء الصحابي أبي بكر، الذي كان بعيدا خارج المدينة. وتنادت جماعة الأنصار الى اجتماع لتقترح تسمية زعيمها سعد بن عبادة قائداً للدولة، إلا أن أبا بكر وعمراً دخلا على الأنصار ملحّين على الوحدة، وجلين من تصدعها في حال تسمية رجل من المدينة، معتبرين ان الغالبية لا تقبل بقائد من خارج قريش. تجاه هذا الموقف، انقسم أهل المدينة ذاتهم، وفي نهاية الأمر أجمع الرأي على القبول بأبي بكر خليفة، وهو صاحب رسول الله ومستشاره الرئيسي والأكثر خبرة وتجربة ودراية بالقبائل العربية وأنسابها، وكان الرسول تزوج ابنته عائشة وعيّنه لإمامة الصلاة في المسلمين لما أقعده المرض. وأشار سيرتوماس ارنولد في كتابه “الخلافة” إلى ما يأتي: “لوحظ في انتخاب أبي بكر ما يلاحظ في انتخاب رئيس القبيلة العربية لأنه انتخاب يتفق مع الروح العربية”.

عرف أبو بكر بأنه “خليفة رسول الله”، ووردت صفة “خلافة” مرتين في القرآن الكريم، كما وردت سبع مرات بصيغة الجمع. أما صيغة خلافة المفردة فقد وردت في الآيتين القرآنيتين: “إني جاعل في الأرض خليفة” و”يا داوود إنا جعلناك خليفة”.

اختلف المفسرون في معنى كلمة خليفة، مما يحمل على أن هذا اللقب استمد من الاستعمال الدنيوي، إذ يتضمن المعنى الأساسي “الخلف”، أي “من يحل محل غيره في مسألة ما”، أو بمعنى آخر من يمارس السلطة، وربما بشكل ثانوي كالوصي أو الوكيل أو النائب. هكذا فإن كلمة “خليفة” التي أطلقت على أبي بكر كانت مبهمة، إلا أنه ابهام وغموض مفيدان، من شأنهما جعل المصطلح قابلاً للتطور مع نمو أهمية المنصب وتغيّر طابعه الوظيفي ومع المستجدات من ظروف ووقائع.

أما الأمويون والعباسيون فقد استعملوا تعبير “خليفة الله”، في حين أن خصوم الأمويين تداولوا رواية تفيد أن أبا بكر رفض بتواضع لقب “خليفة الله” ورضي بلقب “خليفة رسول الله”، ومما يذكر غالباً أن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب استخدم لقب “خليفة خليفة رسول الله”، وبوصول الخليفة الثالث عثمان بن عفان بات هذا الاستخدام شاقاً عدا عن أنه استعمال ركيك لغوياً، فبقيت الصيغة “خليفة رسول الله” أو الخليفة بشكل مجرد.

أدخل ابن الخطاب لقب “أمير المؤمنين”، مما أسبغ على مهمة الخلافة الخطيرة حرمة قدسية في ضوء الآية القرآنية: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم”.

أما لفظ الإمام فهو لغة يفيد: كل من ائتم به قوم مستقيمون أو ضالون وهو من “أمّه” إذا قصده، وقد ورد في القرآن مفرداً ومجموعاً: “إني جاعلك للناس إماماً”، و”نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”. وهو جاء اسم جنس يفيد الجمع على إفراده في الآية: “واجعلنا للمتقين إماما”.

وورد في الحديث الشريف: “الإمام راع ومسؤول عن رعيته”. ولعل في معنى الإقتداء يكمن أقرب مفهوم لروح الإسلام إذ وردت الآية: “وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا”.

قال ابن حزم: “إن لفظ الإمام إذا أطلق فإنه لا ينصرف إلا الى صاحب الإمامة الكبرى أو العامة. أما إذا اريدت الإشارة الى أي معنى من المعاني الخاصة فلا بد من إضافة اللفظ إلى ما يدل على ذلك، وأيضاً إذا أطلق لفظ الإمامة فإنه لا يفهم منه إلا المعنى الشامل”. وعرّف التفتازاني الإمامة بأنها “موضوع لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”.

أما شروط الخلافة فهي باختصار: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء. ووقع الإختلاف في قرشية النسب، ويرى المسلمون الشيعة أن الإمامة في علي بن أبي طالب وأولاده من بعده. أما الخوارج فلا يشترطون النسب في الخلافة والإمامة ويرونها لكل مسلم.

عمد الخليفة الراشدي الأول، وهو على فراش الموت، الى تسمية عمر بن الخطاب خليفة له بوثيقة مكتوبة بعدما استشار بعض الصحابة، وأعقب ذلك البيعة. حدث هذا الأمر في حياة أبي بكر، ولم يشمل انتقال الخلافة الى عمر بن الخطاب أي مشكلة إذ كان اكتسب خبرة ونفوذاً. وكان الخليفة الراشدي الثاني يدرك الصعوبات التي كانت تتعرض لها الدولة الوليدة، لكنه لم يكن في واقع الأمور أكثر من ناصح أو مستشار.

اغتيل عمر وكان عيّن هيئة شورى لتقرير اختيار الخلف من ستة رجال يتعين انتقاء أحدهم للخلافة: توجد روايات متباينة حول اجتماع هذه الهيئة، ويبدو أن علياً رفض قبول الخلافة على شرط متابعة وتقليد الشيخين أبي بكر وعمر، إذ كان يميل الى التغيير، ورضي عثمان بن عفان بالشرط المذكور.

وكان يمكن أن يكون الخليفة الراشدي الثالث واحداً من أفضل رجالات الدولة، إذ أن الفرع الذي ينتمي اليه – وهو قبيلة أُمية- لم يكن يخلو من رجال بارزين، وكان من المحتمل أن يرث عثمان موهبة تلك الأسرة، وعلى هذا أُعلن قرار الهيئة في المسجد وأُقرّ الولاء لعثمان. إلا أنه اندلعت خلال حكم عثمان بن عفان (644-656 ميلادية) إمارات التوتر الذي كان جامداً أو مجمداً في غمرة الفتوحات التي حصلت خلال عهد عمر، وكان تعاظم التوتر راجعاً الى الوضع العام وليس فقط الى ضعف عثمان الذي لم تتوافر له قوة للدفاع عن نفسه، على رغم أنه الخليفة، مما يدل على ضيق صلاحياته في دولة مركزية تميل فيها القبائل في البلاد المفتوحة الى الاستقلالية ما وسعها ذلك. وكان الدعم الضعيف الذي ساند الخليفة غير كافٍ للحيلولة بينه وبين الثوار الذين شقّوا طريقهم الى داره وقتلوه. وكان علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وصهره، الأكثر احتراماً وتبجيلاً في المدينة، فنادى به عندها كثير من المسلمين خليفة، وبالفعل كان أفضل شخصيات المسلمين إلى درجة لم تستدع الاستشارات وخصوصاً ان الخليفة الراشدي الثالث لم يكن قد سمّى أحداً لخلافته.

تعتبر حقبة الخلفاء الراشدين في نظر المسلمين- السنّة على الأقل مقياساً نموذجياً لارتقاء منصب الخلافة، إذ تعتبر فترتهم تقليدياً العصر الذهبي أو المثالي للخلافة، لذا تتسم في الذاكرة التاريخية للمسلمين بطابع معياري حاولت كل العصور من بعد ذلك بصعوبة فائقة اقتفاء أثره وإعادة كتابة تاريخه. إذ إن المسلمين كما لاحظ مونتغمري وات يعبّرون عن النظرية السياسية في شكل تاريخ، ولعل مرد ذلك الى الاعتقاد العربي الضارب جذوره بعيداً في الزمن الى ان الأمان يكمن في اتباع نهج السلف وهذا ما يراه السلفيون المعاصرون في تبرير منهجهم، غير آبهين لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.

تحولت الخلافة مع بني أمية الى ملك عضوض بعدما رفض معاوية إثر مقتل عثمان بن عفان الإعتراف بعلي خليفةً، جاعلاً من المسألة “قميص عثمان”، مما قاد في النتيجة الى المواجهة العسكرية المباشرة بينه وبين الخليفة الراشدي الرابع. ولما أحيل النزاع على التحكيم لبتّ مسألة الخلافة، وعند نقطة ما، وبنتيجة ما قيل عن تسليم علي بعرض الخلاف على لجنة تحكيم، كان الوضع حُسم عملياً لصالح معاوية إذ اتخذ الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري قراراً شبه مؤكد لم يناسب علياً الذي رفض قبوله مما زاد في حدة المواجهة ووقوع المزيد من القتال حتى اغتيل الخليفة الراشدي الرابع في الأول من كانون الثاني سنة 661 بعدما كان الحلف الواسع الذي تألف قبلاً حوله قد انفضّ، وكانت بذور الاتجاه الشيعي ظهرت مستندةً الى ما يحيط بالإمام علي من تقوى وهالة دينية عزّزها ميله الى إحاطة الخلافة بميسمين، ديني ودنيوي واضحين. مع قبول علي بالتحكيم ظهرت نزعة الخوارج وكانوا رفضوا القبول بالتحكيم متذرعين بأن الحق كان بجانبه.

علّل بنو أمية خلافة معاوية بأنها نتيجة “عادلة” للتحكيم، وقد يكون من الأسباب التي حملت الحكمين على الميل الى معاوية، خبرته الطويلة في ولاية سوريا. غير أن الادعاء الأموي الأساسي كان يمكن في أن معاوية تصرف من موقع الوارث المطالب بالثأر لإبن قبيلته عثمان بن عفان، ومما قوّى هذا الادعاء أن بعض المسؤولين عن مصرع عثمان كانوا من أنصار علي الذي رفض محاسبتهم على فعلتهم.

إن التفسيرات العلمية الموضوعية الحديثة لمأزق الخلافة الراشدية الذي انتهى بمقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، تذهب الى القول بأن الحكم المركزي للمدينة لم يكن له وجود فعال مما جعل أمير المؤمنين مجرد مستشار ناصح. وكان ابن الخطاب عند اغتياله المفاجئ يعي جيداً مشكلات المجتمع، كما رفض علي بن أبي طالب القبول بالخلافة على شرط متابعة سياسة الخليفتين الأولين لأنه كان يعتقد جازماً بضرورة التغيير وإسدال هالة دينية ودنيوية على الخلافة مما جعله رمزاَ للمعارضة في الإسلام ومستند الفرق المقاومة للأمر الواقع في ما بعد وربما حتى الأزمات الأخيرة. ورضي ابن عفان بالخلافة على شرط متابعة النهج وهو الرجل المحافظ والثري الذي اختارته هيئة الشورى ذات التكوين المكّي الكامل، ولم تكن تعكس بطبيعة انتماء أعضائها أوضاع الجزيرة العربية بكاملها، ناهيك بأوضاع البلاد المفتوحة حديثاً.

إذا كان الخليفة الراشدي أقرب إلى الناصح والمستشار منه إلى رجل الدولة الماسك بزمام الأمور بقوة، فإنه في الفترة التي امتدت قرناً بعد وفاة الرسول بلغت رقعة الدولة العربية الإسلامية شأواً بعيداً حتى جبال البيرينيه غرباً والى البنجاب وما وراء سمرقند شرقاً. إلا أن منصب الخليفة بقي على طبيعته على رغم اتساع الدولة: أقرب الى طبيعة منصب زعيم القبيلة البدوية الذي هو سيدها، لكنه يبقى مع ذلك الأول بين متساوين. إن هذا يعني ضمناً أن سيد القبيلة لا يأمرها بل يقنعها عبر إقناع مجلسها العام، ومن أجل ذلك لا بد أن يكون هذا السيد حكيماً عليماً خطيباً متقدماً في السن، ولعل هذا ما يفسر وضعية الخليفة الراشدي الأقرب الى الناصح والمستشار الذي عكسته كتبهم الى ولاتهم، ولذا فإنه حين غدا الخليفة حاكماً لبلاد شاسعة، بقيت مجموعة من الرجال على الدوام، في دمشق عهد الخلافة الأموية، تنتظر إستشارتها في القضايا المهمة والعديدة، من مثل تلك التي كان سيد القبيلة يستشير فيها اشراف قبيلته.

إلا ان هذا كله لا ينفي أنه كانت للخليفة ميزات لم يكن يمتلكها سيد القبيلة، منها أنه ورث عن الرسول منصب القائد العسكري مما أعطاه حق اجراء العديد من التعيينات الفرعية لإدارة الولايات المفتوحة. مع الزمن غدت سلطة الخلفاء في المسائل الفقهية لا جدال في شأنها، ومع مرور الوقت استبدلت رجاحة الحكم بما اتفق عليه فقه الفقهاء وعلم العلماء في “المؤسسة الدينية” الجديدة التي تكونت تدريجاً وكان من أسباب نشوئها وجوب تنظيم الإدارة وحل النزاعات.

استمر الحكم والنظام في مصر مثلاً، كما كان قبل الفتح مع تعديل طفيف في الضريبة. أما في ولاية سوريا فكان النظام المالي بسيطاً إذ يدفع المسلمون الأعشار ويدفع غير المسلمين الضرائب على أساس من التنظيم البيزنطي السابق. وفي العراق بقي نظام الضرائب الساساني، ووزعت أرض السواد على الفلاحين من أهل الفيء. وكان الخمس هذا هو خمس الغنائم الناتجة من الحملات العسكرية وريع الأراضي المفتوحة والخراج والجزية على رأس غير المسلمين، وكانت الضرائب أقرب إلى الإعتدال عموماً.

وإذا كان دستور المدينة الذي نصّه الرسول يقضي بإحالة النزاعات على النبي، فإن العرف ذاته استمر مع الخلفاء الراشدين بوتيرة أضعف، إذ أحيلت الخلافات على الخليفة أو على الوالي أو على أي موفد من كليهما. وإذا كان الرسول أرسل معاذ بن جبل قاضياً الى اليمن، فإن منصب القاضي لم يترعرع فعلاً إلا في عهد الأمويين، إذ كان الخلفاء والولاة يستمعون في البدء الى النزاعات من دون وجود هيئة شرعية تمكن مراجعتها، وكانت الأحكام تتخذ مبدئياً وفقاً لمبادئ القرآن والسنّة، على أن وطأة الواقع كانت شديدة التأثير.

كان الخليفة الراشدي خلفاً للرسول خصوصاً في الجوانب الدنيوية، وخلفه أيضاً في إمامة الناس بالصلاة وخطبة الجمعة، إلا أن الخلفاء كانوا واقعيين جداً إذ أنهم ارتضوا النظام الاجتماعي والتشريعي القائم على أساس من العرف المتبع. أما ما يفرّق بين الخلفاء والرسول فهو أنهم لم يكونوا أنبياء ولا معصومين عند المسلمين السنّة ولم يكن في مقدورهم أن يتلقوا الوحي الذي ثبت في قرآن كامل ونهائي، وكان عليهم أن يتقيدوا من الناحية المبدئية بالنصوص القرآنية والسنّة النبوية، آخذين في الاعتبار ما استجد من ظروف واقعية سياسية وإقتصادية واجتماعية، لأنه بحكم الواقع اذا كانت النصوص متناهية فإن الوقائع غير متناهية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى