صفحات الرأي

الخليفة في مراياه وأقنعته/ رامي زيدان

 

 

أثار إعلان زعيم “داعش” أبي بكر البغدادي تنصيب نفسه خليفةً للمسلمين الكثير من الجدال والتعليقات السياسية والثقافية والتهكمية، وخصوصاً أن تنظيمه هو الأشد قسوة ووحشية بين التنظيمات الجهادية والحربية في سوريا والعراق والشرق الأوسط؛ يمارس الصلب والقتل وتدمير المقدسات والسرقة والنهب، ويضرب بمعاوله ما تبقى من وجود حضاري في العالم العربي، ويستعمل الدين طريقة للاحتلال والاستعمار والسيطرة على النفط والمجتمع، وخصوصاً في الرقة والموصل. هل تفكير أبي بكر البغدادي ومراسه غريبان عن ديارنا؟

ثمة الكثير من الأمور الغامضة تحيط بظاهرته ودوره، وهذا بديهي. لكن ماذا كان البغدادي ليرى لو نظر في مراياه؟ هل يختلف عن زعماء الأمة والعروبة والإسلام والقومية؟ ألا يشبه قادة البعث أو التنظيمات الأصولية السنية والشيعية؟ هل نسي أهل الاعلام والسياسة تفجير التماثيل في لبنان، من بيار الجميل الى عبد الناصر ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي؟ وما الفارق بين أن ينصّب البغدادي نفسه خليفةً للمسلمين وأن ينصّب بشار الأسد نفسه زعيماً لـ”قلب العروبة النابض”؟ ومثله جمال عبد الناصر “الشعبوي”، وصدام حسين “البدوي”، والقذافي “الصحراوي”، وياسر عرفات “الثوري”، وحافظ الأسد “الغامض والباطني”، والخميني “الفقيه”؟ قد يختلف هؤلاء في الشكل واللون عن البغدادي، لكن من يتابع تفاصيل أفعالهم، يجد أنهم لا يقلّون وحشية عن البغدادي ورهطه. من ينسى مجازر باب التبانة في طرابلس ومجازر حماه في سوريا؟ من ينسى حرب اليمن ايام عبد الناصر؟ ومن ينسى حرب المخيمات، بل الحرب اللبنانية أيام حافظ الأسد وحركة “أمل”؟ من ينسى صفقات ياسر عرفات؟ من ينسى صور المعتقلين في سجون بشار الأسد؟ من ينسى اغتيال ميشال سورا والمثقفين الشيوعيين؟ من ينسى سمير قصير؟

الأرجح ان الاهتمام الزائد بظاهرة البغدادي؛ عدا انه وحشي ومخيف ومريض الزمن والنص؛ هو حجة للأنظمة للهرب من أزماتها الداخلية. كانت الأنظمة العربية تستنجد بالقضية الفلسطينية لتهرب من أزماتها الداخلية، واليوم ربما الأنظمة نفسها ومعها إيران تثير الهلع من خلال التصنيع الاستخباراتي للارهابي البغدادي لتمارس مآربها وسياساتها. يتجلى ذلك في الغموض الذي احيط بنشوء “داعش”، ويتجلى أكثر في الدور الذي انيط به، وتماهيه مع النظام السوري على مدى السنوات القليلة الماضية. حتى في العراق كان المالكي يستعين بالبعبع “الداعشي” ليستمر على كرسيّه، إلا أن المسخ “الداعشي” تمرد على خالقه.

هكذا، إذا نظر البغدادي في مراياه فإنه واجدٌ نسخاً كثيرة احترفت أفعاله المشينة قبله. فهؤلاء عقولهم وأفعالهم “داعشية” وإن كانوا يحملون أفكاراً أوروبية ويضعون ربطات عنق. لنقل إن البغدادي ألغى الحدود السورية – العراقية، ونصّب نفسه خليفة، وها هو يحاكي في مخيلته التاريخ والأمبراطورية الاسلامية وربما جنون العظمة. قادة العرب وإيران، لا يختلفون عنه، بل يتصرف كل واحد منهم كأنه نبي العصر الحديث. لم يحترم قادة البعث حدود لبنان في يوم من الأيامَ، ولم يحترم عبد الناصر حدود أي بلد عربي، بل كان يمارس سياسية “لعبة الأمم” في قلب البلدان العربية من خلال تحريك الجماعات الموالية له من العراق الى سوريا واليمن ولبنان والجزائر. القذافي كان يتصرف بماله كإله. لم يحترم أي شيء في العالم، ربما باستثناء خيمته التي تشير الى طريقة تفكيره. هكذا تبدو مشكلة العرب موجودة قبل البغدادي لكنها زادت وتيرتها معه أو هو فضحها بأفكاره البدائية القروسطية المتوحشة، وأفصح عن عيوب بلدان تفضل شعوبها الولاء المذهبي على الولاء الوطني.

ربما الفرق الجوهري بين أنبياء الاستبداد العربي والبغدادي أن الاخير يمارس العنف بوحشية وبدائية قروسيطة، أما خلفاء العروبة والقومية وأنبياؤها فيستثمرون الموت من خلال الحداثة والتكنولوجيا والفتن والطائرات والبراميل والاغتيالات. على أن القضية الأساس في البغدادي ليس في أنه عيّن نفسه ولياً أو خليفة، بل في أن الشبح الديني يحضر في كل شيء في العالم العربي، والبغدادي جزء من هذا الشبح، الذي يروج أنصاره أن الإسلام يجمع بين السلطتين الروحية والزمنية، من دون الفصل بين الدين والدولة. وهذه هي المحنة الكبرى. ففي كل أزمة سياسية أو اجتماعية، نلاحظ ان الشبح الديني يعود الى الواجهة كأنه نذير شؤم. بعض الزعماء يستعملون الدين لاستدراج عطف الناس، وفي اغلب الاحيان يوظفونه لغايات تكون نتيجتها تدمير المجتمع والمدينة والحياة والاقتصاد بطريقة جهنمية.

محنة الشقاء العربي لم تبدأ اليوم من ظاهرة البغدادي، بل منذ انتكاس النهضة العربية في بدايات القرن الماضي وتهميش افكار طه حسين، ومنذ تصدع مشروع التحديث والثقافة الليبيرالية. بات للشبح الديني محطات مع كل أزمة. في عام 1925، أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتاباً عنوانه “الإسلام وأصول الحكم” حينما كان يعمل قاضياً في المحاكم الشرعية، واضعاً دراسة مهمة حول قضية الخلافة والحكم في الإسلام. فبعد انهيار السلطنة العثمانية وإعلان مصطفى اتاتورك تركيا جمهورية علمانية، أصاب الذعر بعض المسلمين، فدعا الأزهر مجموعة من رجال الدين عام 1926 إلى عقد مؤتمر في القاهرة لبحث هذه القضية. انتهى المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضروري للمسلمين، كرمز لوحدتهم. لكن، لكي يكون هذا المنصب فعالاً، لا بد أن يجمع الخليفة بين السلطتين الدينية والمدنية، وهذا أمر لم يكن يتوافر لأيّ حاكم من حكام المسلمين في ذلك الوقت. جاء كتاب الشيخ علي عبد الرازق حاملاً أفكاراً جريئة معاكسة للسائد، متعالية على العواطف في لحظة الضعف التي عمّت البلاد الإسلامية بسقوط الخلافة، فقدم أسئلة شكلت علامة فارقة في النقاش السياسي الإسلامي، وفتح فصلاً جديدا ربما لم يُطرح قبله، هو يتساءل: هل منصب الخلافة من الإسلام في شيء؟ هل هناك شيء اسمه “نظام حكم” في الإسلام؟ هل الإسلام دين ودولة؟

سعى كثير من النقاد الإسلاميين إلى وصم عبد الرازق بأوصاف من شأنها أن توصد الباب أمام مناقشة مشروعه بشكل علمي، حيث صُنِّف بأنه أحد أبرز دعاة العلمانية، وهذه “تهمة” وضعت عبد الرازق في خانة التغريبيين، وبأنه أحد عناصر المخطط التآمري ضد الإسلام. كتُبت ردود كثيرة عليه، وكان ضمن حملة الحرب على المؤلف أن أشيع في تلك الفترة أنه لم يكتب ذلك الكتاب بل مجموعة من المستشرقين، وإنما وُضع اسمه عليه. ما قاله علي عبد الرزاق لا يزال مشكلة عالقة. بعض الاسلاميين لا يريدون الاعتراف بالتحولات التي حصلت في العالم. البغدادي هو مثل فاقع على ذلك، يعبّر عن أحوال أمة مشلولة بين الحنين إلى الأندلس والتفكير في رمي اسرائيل في البحر، وبين التكابر والنرجسية والتمجيد الخرافي لبطولات صلاح الدين الأيوبي وغيره.

كان علي عبد الرازق مدركا واقع الأزمة في العالم العربي والإسلامي، لكن خصومه كان لديهم إلحاح في رفع شعار الخلافة كحلّ سحري. لم تمر سنوات قليلة على كتاب علي عبد الرازق حتى دعا مرشد “الاخوان” الإمام حسن البنا الى العودة إلى الخلافة عام 1928، وكانت أفكاره مقدمة لانتشار الاسلام السياسي ثم الفكر الجهادي الارهابي، وزاد سيد قطب الطين بلة بأفكاره العنفوية بعد صدمته من حداثة الغرب.

بعد نحو 90 عاماَ على صدور كتاب عبد الرازق لا يزال بعض العرب والمسلمين يعيشون الشقاء والجرح النرجسي وأوهام الخلافة وأشكالها، متمسكين بالأرض الخصبة (أي النصوص الدينية) التي تنتج “الداعشية”، متحسرين على ماضيهم، ملقين اللوم في تراجعهم وتخلفهم على الآخرين والمؤامرات. في الخمسينات والستينات تهاوت بعض الأنظمة الملكية والقبلية العربية الفاسدة بعد كارثة تقسيم فلسطين عام 1948، مع ما تحمله فلسطين من دلالات دينية، فولدت أنظمة ثورية وعروبية تستند الى أفكار الاستبداد العلماني كبديل من الاستبداد الديني. بدا ان تلك الأنظمة تعيش صراع الخلافة العروبية، فارتسمت في ذهن قادتها “الثوريين” صورة الخليفة، وربما النبي وصلاح الدين وهارون الرشيد، فتبنوا قضية القدس المحتلة والمسجد الأقصى، واستولوا على السلطة باسم فلسطين وقمعوا المجتمع باسم فلسطين وكان طريق حكمهم سبباً من أسباب بروز “الداعشية” وأخواتها.

لنقل إن البغدادي هو أعلى مراحل الأزمة السياسية في الشرق الاوسط، وحيث تكون الأزمات يتلطى اصحابها وراء الدين والتطرف. لنقل ايضا ان البغدادي يشكل اشارة جلية لتصدع المشرق العربي. وهو اذ ينظر في مراياه، يجد أن كثيرين غيره مارسوا الخلافة بشكل مقنّع. لم يكن عبد الناصر بعيدا من هذا الدور، فهو حمل شعاراته الفضفاضة وإيديولوجيته القومية ومارس أحلامه كخليفة للعرب، وجاءت هزيمة 1967، لتهشم بنية خلافته. فهي أظهرت أن الناصرية كانت عابرة في الواقع العربي المتدين، وبدا طيف التدين يعود بقوة الى الواجهة. فسَّر بعض المتدينين الهزيمة على أنها “عقاب إلهي” بسبب عدم التزام المجتمع التعاليم الإسلامية، وكان من بين هؤلاء الشيخ الشعراوي الذي قيل إنه سجد شاكراً الله على الهزيمة لأنها كما قال بيّنت زيف الحكم المصري وادعاءاته وقتها، وتملّق بعض “الأخوانيين” المصريين قائلاً إن الهزيمة كانت اقتصاصاً إلهياً انتقاماً لسيد قطب الذي أعدمه النظام الناصري.

كانت الهزيمة الحزيرانية مقدمة لولادة النظام البعثي بنسختيه الأسدية والصدامية. الأسد وصدام، كلاهما كان يسابق ليكون خليفة العروبيين، طوال العقود الفائتة. واذ كانت الأفكار الماركسية والقومية قد سيطرت على المشهد العام، إلاّ أن سيطرتها كانت سطحية وعابرة. كل الايديولوجيات العروبية والاستخبارات ورجال الدين والفضائيات الدينية كانوا مقدمة لإفراز نموذج مثل البغدادي الذي يعتبر سلوكه ووجوده أخطر من هزيمة 1967.

البغدادي هو في مراياه، افراز بديهي لمئة عام من الشقاء العربي. زادت الطين بلة الثورة الإيرانية وأفكارها. فهي تبنت منذ البداية مفهوم “ولاية الفقيه”، وكانت النبع الذي شرب منه العشرات من امثال البغدادي والزرقاوي والملا عمر والظواهري. صعود المارد الشيعي الايراني وتبني “ولاية الفقيه” أو مفهوم الإمامة وعصمة الإمام عند الشيعة، سيصيب المارد السني بالعدوى فيبدأ باللعب على وتر الأصوليات الجهادية التي تؤمن بمنطق الولايات وحمى الخلافة وتصدير الثورة والإرهاب.

أن ينظر البغدادي “الداعشي” في مراياه اليوم، فلا بدّ أن يجد السيد حسن نصرالله يتحدث عن الدولة الاسلامية في لبنان عام 1982 وولاية الفقيه، وهذه لا تختلف في الجوهر عن فكرة الخلافة. كلاهما، البغدادي ونصرالله، يتبنى أفكاراً مضت عليها 1300 سنة. ولا عجب ان تحلم التيارات المتطرفة بالخلافة فتستعمل الدين لغايات سياسية. حاول صدام حسين أن يكون “خليفة العرب” بعد الحرب العراقية – الايرانية، فغزا الكويت واستجلب حرب الخليج الثانية التي كانت مقدمة لنكسة عربية ثانية. في سنوات حصاره وتفكك سلطته، أشاع أخباراً عن تدينه فزيّن صورته مصلياً بادعاء انتسابه إلى الدوحة النبوية، وخط “لا إله إلا الله” على العلم العراقي وأدخل نداءاته الدينية على خطاباته الشعبية والتلفزيونية. لكن “إيمانه” لم يغيّر من مسار استبداده المرير. بعد هزائمه تنامت الحركات الارهابية في قلب بعض الأنظمة العربية، وخصوصاً في مصر والجزائر. وما زرعته أميركا في افغانستان في سبيل محاربة الشيوعية، كان كافيا ليشكل منابع للإرهاب في العالم. بالتوازي كان اندفاع التيارات الشيعية الموالية للخميني يساهم في التحاق الجماعات السنية في بؤر التطرف، كأن الاصوليات في سباق مع الزمن لنشر أمراضها “الجهادية”. ولم يكن مستغربا أن يصدر وضاح شرارة كتاب “دولة حزب الله” الذي يشرح كيف يبسط “حزب الله” سيطرته على المجتمع في ظل تصدع الدولة. وبلغت الجماعات الاسلامية التي تحلم بالخلافة ذروتها في 11 أيلول 2001 وكانت كافية لإلقاء الضوء على الاسلام واندفاع الباحثين الى تفسير جوهره ومشكلاته ونصوصه ومجتمعه. المفارقة ان طريقة اميركا في محاربة الارهاب ساهمت بشكل فعال وكبير في تنامي الارهاب وتكاثر ينابيعه في اصقاع الارض. عدا الكابوس الافغاني طوال عقود، كان الكابوس العراقي عام 2003 وما خلَّفته “الفوضى الأميركية” كافياً ليدمر العراق ويزيد وتيرة التيارات التي تساهم في تنامي الاصوليات الشيعية والسنية، وكان من ثمار الغزو الاميركي للعراق وسقوط صدام حسين، أن إعدامه شكل بداية قوية لصراع النواصب والروافض وتغلغل ايران بقوة في العراق والشرق الاوسط، ثم بروز نظام طائفي بديل يقوده نوري المالكي الذي افرزت سياساته شخصيات مثل البغدادي كما افرز الأسد شخصيات مثل الجولاني.

يستغرب البعض تنامي “الداعشية” بهذه السرعة وسيطرتها على مدن عراقية، لكن قارئ الواقع يدرك أنه لمن البديهي ان تصل الأمور الى ما وصلت اليه، اولا بسبب سياسات المالكي الفئوية، وثانياً بسبب سياسات المجتمع الدولي تجاه سوريا، فضلاً عن ان هذه المنطقة ارض خصبة لتوظيف الدين في السياسة والإرهاب. وبدل ان يفضي مسار الثورة السورية إلى نهضة سوريا، أدت مصادرة الثورة على أيدي الجهاديين والأصوليين والمتطرفين الدينيين إلى تصديعها، فعاد المجتمع المتصدع للاستنجاد بشخصية “مقدسة” من هنا ومن هناك. يلاحظ أكثر من تقرير أن المقاتلين السنة والشيعة ومن لفّ لفّهما في سوريا، يؤمنون بأن ما يحصل قد ورد في نبوءات الأنبياء والأولياء الصالحين. يقولون إن هذا المسار مهدت له قبل 1400 سنة أحاديث نبي الاسلام التي تناقلها الصحابة وأهل البيت. في السياق نفسه وظف “حزب الله” الرموز الدينية الشيعية لتحشيد مناصريه ودفعهم الى المشاركة في القتال في سوريا، وترافق هذا مع شائعات وأساطير ميتولوجية، فاجتذبت الحرب شيعة كثيرين من لبنان والعراق وإيران إيمانا منهم بأنها تمهد لعودة الإمام المهدي الذي انحدر من نسل النبي وغاب عن الأنظار قبل ألف سنة وسيعاود الظهور في زمن حرب ليبسط العدل وقواعد الحكم الرشيد في آخر الزمان.

عصر الظهور

بعد سيطرة “داعش” على بعض المدن العراقية إضافة الى الرقة السورية، ألقى السيد حسن نصرالله خطاباً في العيد 29 لكشافة المهدي تحدث فيه عن “عصر الظهور” (المهدي النتظر). هكذا في كل مأزق أو ازمة تستحضر الرموز الدينية لشد العصب والتحشيد في سبيل الاحتراب. قد يكون أبلغ تعبير عن واقع توظيف “حزب الله” عصر الظهور في الحروب، ما كتبه الصحافي عماد قمحية عن خطاب نصرالله المذكور اعلاه: “مشهد غريب كان رؤية الشباب والفتية الذين تجمعوا أمام الشاشات في العيد 29 لانطلاقة كشّافة المهدي ليستمعوا إلى كلام الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله. هو الذي راح يكرّر شعار “لن تُسبى زينب مرتين”، وعرّج على المستجدات في العراق مؤكدا “أنّه انتهى الزمن الذي يُسمح فيه لأيّ أحد في العالم بأن يهدم أو يدنّس مقدساتنا الدينية في النجف وكربلاء وسامراء”، خاتما حديثه بكثير من التأكيد: “نحن الآن في عصر ظهور الامام المهدي وعلينا أن نكون مستعدين لذلك”. هذا المشهد يعيد قميحة ثلاثين سنة الى الوراء، وتحديدا الى العام 1983، حين ترك دروسه ليحضر امسية دينية في منطقة الشياح تحدث فيها رجل الدين عن عصر الظهور في مواجهة اميركا والاتحاد السوفياتي. بعد المحاضرة الدينية يقول قميحة: “خرجت من حسينية الشياح تتملّكني فكرة وحيدة هي أنّ العودة الى الدرس والتحضير للامتحانات الرسمية تُعتبر بمثابة الخطيئة (…). رميت كتبي وتوجهت في اليوم التالي الى الجنوب حاملا بندقية لأقاتل أعداء الله”. يستنتج الصحافي: “أكاد أجزم هنا أنّه عندما يستمع هؤلاء الفتية، من شخصية بحجم نصر الله، إلى قوله إنّنا اليوم أيضا في “عصر الظهور”، فسيتحوّلون من طلاب مدارس إلى مقاتلين مستعدّين للموت في سوريا، وحتّى في العراق…”.

ثمة “داعشية” نفسية في خطب السيد حسن نصرالله، تلعب على رموز اللاوعي الجمعي الديني والغيبي. والراجح انه اذ تُرك أبو بكر البغدادي على سجيته يمارس الخطب والتسجيلات في غلاة السنّة فسيصبح تأثيره السلبي أشد وطأة، مندفعا بإيديولوجيا دينية همجية، وحاملاً راية “الخلافة” التي تعتبر معولاً جديداً لهدم العرب والشرق.

لا عجب في ان نستحضر فكرة أشار اليها الصحافي السعودي جمال خاشقجي في جريدة “الحياة”، وهي أنه بعد 11 ايلول كتب المستشرق برنارد لويس كتابه “ما الخطأ الذي حصل؟ الصدام بين الإسلام والمعاصرة في الشرق الأوسط” محاولاً فيه أن يجيب عن سؤال ما الذي أدى بالمسلمين إلى حالة التخلف عن الحضارة الغربية بعدما كانوا رواداً في الحضارة والعلوم والإنجازات البشرية، باحثاً في أسباب فشل الدولة العثمانية في قرنها الأخير في إتمام مشاريع عدة للعصرنة، على رغم أنها شرعت فيها، لعل أهم نتائج بحثه اعتقاده أن المسلمين اشتغلوا أكثر بالبحث عمّن فعل هذا بهم أكثر من انشغالهم بماذا فعلوا بأنفسهم؟

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى