حمّود حمّودصفحات الرأي

الخمينية وطائفية الإسلام السياسي/ حمّود حمّود

 

 

 

بمقدار ما كانت عملية «مأسسة» ولاية الفقيه التي قادها الخميني تُمثّل تحدياً جديداً في عالم الأصولية الإسلامية، حيث استطاعت نقلها في إيران إلى مستوى الدولة، مثلت الخطوةُ الخمينية هذه المرحلةَ الأهمّ من مراحل نقل جزء كبير من الطائفة الشيعية من حال إلى آخر: من الفضاء الطائفي الجماعاتي الديني (الذي تشترك فيه معظم الأديان) إلى الفضاء الطائفي السياسي وإدراجه عنوة لا ضمن سياسات مصالح الدولة الإيرانية فحسب، بل في كل شاردة من شوارد المنطقة السياسية والضدية والصراعية والقومية…الخ. وإذا كان مسار «إعادة» تسييس الطائفة السنية على يد الأصوليين السنة يختلف اختلافاً كبيراً عنه عند الأصوليين الشيعة، فإن من المهم التأكيد أنّه إلى صعود الخمينية يُعزى تدشين أنصابٍ جديدة في قلب المشرق طاول كلا الفضاءين (السنيّ والشيعي)- أنصابٍ أصولية طائفية استطاعت زرع تحديات جديدة للأصولية الإسلامية، لا بل تحوير المسارات السياسية والضدية في المنطقة وعلى رأسها ضدية الصراع مع إسرائيل (خذ، مثلاً، كيف يتحول الصراع نفسه مع إسرائيل، بلحظة، إلى صراع طائفي بين أصوليي السنة والشيعة، لهذا ليس مفاجئاً وجود حالة هستيرية صراعية تندرج ضمن خانة «الصراع على الصراع»: صراع سني- شيعي على الصراع مع إسرائيل ومن هو الأحق طائفياً بقيادته!).

هكذا، فإضافة إلى أنّ الخمينية مثلت أحد أهم أشكال صعود الأصولية في العصر الحديث، فإنها كانت كذلك بمثابة ميكانيزم في إعادة تشكيل الأعماق الطائفية للإسلام السياسي ككل، سنياً كان أم شيعياً، فضلاً عن كونها كانت بمثابة الدليل المرضي لمن يقولون بفشل مشروع الحداثة، وتالياً اندراج أصوات «ما بعدية» كبرى فيها ممن حُسبوا على اليسار الجديد ذوي النزعة «الأنتية» (ضد الكولونيالية، ضد الحداثة…الخ).

بالفعل، كان على المشرق أنْ يشهد اطراداً عنيفاً اختلطت به أوراق سياسية كبرى: من إعادة «تسييس» الدين إلى الإصرار على «تديين» السياسة. لهذا، ليس غريباً، والحال هذا، إنتاج أشكال جديدة من الطائفية كان، وما زال، عمادها الرئيس هو حركات الإسلام السياسي والحركي، والتي شكلت أيضاً ميدان صراع وتجاذب بين قادة البعث السوري والعراقي، كلٌّ بحسب ضديته الباثولوجية.

هكذا، كان بحث الخمينية عن أصول أصولية لها في التاريخ المقدس يعني، بنفس الوقت، البحث عن «الأصول السياسية» للطائفة الشيعية، كسند جمعي هوياتي للشكل الأصولي الهجين الذي تبلور في «الجمهورية». وإذا كان هذا الشكل الأصولي الجديد قد مثّل حالة إغراء قوية للأصوليات السنية المقابلة (الإخوان المسلمون المصريون بالتحديد)، ساهمت به السياسة الطائفية في تصدير الثورة، فإنه أيضاً استطاع تهيئة الأجواء في خلق أرض خصبة لإنتاج أشكال إسلاموية سنية طائفية كانت الخمينية بالنسبة لها هدفاً يجب الصراع ضده، بل والقضاء عليه قبل القضاء على دولة العبرانيين. فكما أنّ الخمينية استطاعت إعادة خلق أجواء إسلاموية حليفة لها، فإنها أيضاً كانت السبب في خلق إسلامويات تقف على الضد منها، وكان لها نتائج كارثية ودموية كما هو الحال اليوم.

وفي الواقع، مثلت الخمينية الركيزة الأهم في انتقال الأصوليات السنية والشيعية من هوامش التاريخ إلى مركزه، من الريف إلى المدينة، من الخاص إلى العام، من أناس تطبعهم الطرفية إلى أناس أصبحوا في عمق قرار المدينة. للخمينية يعود الفضل حديثاً في إعادة التأكيد على «حضرية» الأصولية الإسلامية، وبالتالي طائفيتها، وبأنها لا تستطيع الاستمرار في تأكيد وجودها إلا داخل حواضن المدينة (هذا هو السبب في أنّه لا يمكن الحديث عن غزو الأصولية للمدينة من غير التشديد على ما فرزته هذه الأصولية في المدينة من حيث إعادة «تطييف» الفضاء العام لها).

بالطبع، ليس هذا للقول أنّ الخمينية هي المسؤولة، أولاً وأخيراً، عن إنتاج الطائفية الذي ترافق مع صعود الإسلاموية. على الإطلاق لا (ومن المهم أنْ نتذكر أنّ كل أشكال الدين السياسي تحركها في عمقها ميكانيزمات التعاضد الجماعاتي والطائفي، وهو الأمر الذي يمكن لحظه بأنّ أي تنظيم إسلامي هو طائفي بأصله). إلا أنّ الخمينية، في الواقع كانت، بوجه ما، أحد أهم الأوجه الأصولية الحديثة التي أعادت:

أولاً، ترتيب البيت الأصولي السني والشيعي وفق المسارات السياسية الجديدة والثيولوجية الطائفية (كلما ازدادوا أصالة، كلما ازدادوا طائفية)،

وثانياً، إسدال أثواب جديدة على طائفية الإسلام السياسي من حيث نقل الطائفية إلى مستوى الدولة،

وثالثاً، تهيئة الأجواء الخصبة في تفريخ الجماعات الإسلامية السنية والشيعية (وعلى رأسها حزب الله) واستثمار هذه ضمن العقد السياسية للمرضيات القومية السلطوية، بخاصة في العراق وسورية،

ورابعاً، الزيادة في عملية «تعميم» الطائفتين السنية والشيعية (أهم ميكانيزمات التعميم هو التسييس)،

وخامساً، وليس آخراً، خلق أشكال جديدة من الصراع الأسطوري بين هذين الطرفين وفق إفرازات الشروط التاريخية ووفق حياكات السياسات الإقليمية، حيث بالإمكان في هذه المسرحية السوريالية، كما ذكرنا، أنْ يتحول الصراع ضد «الصهاينة» إلى الصراع على قيادة هذا النضال، إلى الصراع في ما بينهم على المعنى المقدس، إلى الصراع ضد الغرب… وهكذا دواليك.

لا نستطيع الجزم الآن بأنّ المعركة الدائرة اليوم بين أصوليي السنة والشيعة هي ما كان يقصده باحثون رأوا أنها ستحدد شكل الشرق الأوسط وتعيد رسم خرائطه. إلا أنّ هذه المعركة تمثل، على الأقل، قمة الفوضى والدم والعدم الأصولي والطائفي الذي تشهده بيئة المشرق: إنه العدم الذي كانت الخمينية والحركات الشقيقة من الإخوانيات السنية والعسكرتارية (يداً بيد مع الضديات البعثية القومية السورية والعراقية) قد أرست معالمه في تلويث الفضاءات السياسية والاجتماعية؛ وهو تلويث قد طاول حتى التشكيلات الثقافية في البيئات الدينية، سواء داخل المناخ الإسلامي أو خارجه.

واليوم لا يمثل صراع الأصوليات الطائفية في ما بينها سوى المرحلة الأرقى من التراجيديا الدموية، وهي لن تكون بالتأكيد المرحلة النهائية. لكنه أيضاً صراعٌ قد خرج بعباءات جديدة من عمق ما زرعه المشرق على أيدي الأبطال القوميين وأصولييه الطائفيين الذين نبتوا من داخل وعلى حواف الخمينية.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى