روزا ياسين حسنصفحات سورية

الخوف، الترقب، والشبيحة: في تهديم بنى ذواكرنا!


روزا ياسين حسن

أعتقد أن سنوات الثمانينيات تلحّ على الكثيرين من أبناء مدينتي اللاذقية، كما تلحّ علي، في الآونة الأخيرة، ربما لأن الكثير مما يحدث اليوم شبيه إلى حد بعيد بما حصل في ذلك الوقت.

الخوف، الترقب، الحذر.. والشبيحة.

الشبيحة كانوا مرافقين لطفولتي ومراهقتي، ولسوء الحظ كانت المنطقة التي نسكن فيها مليئة ببنايات يتراكم الشبيحة أمام بواباتها ليل نهار. لم أفهم البتة، كما لا أفهم اليوم، ما السبب الكامن وراء كل هذه الغطرسة والكبرياء و”الاستفشار” الذي ينثال منهم، وهم لا يجاهدون لإخفائها أمام أي شخص كبر أم صغر. ولطالما رأيت رجالاً محترمين يمرون من أمامهم، وهم يحتلون رصيفاً ما، مطرقين إلى الأرض ومهرولين خوفاً، وإن سمعوا بآذانهم شتائم أو عبارات ساخرة منهم سيتظاهرون بأنهم لا يسمعون.

سيبدو طبيعياً للغاية أن نسمع عن مجموعة منهم يتسابقون في سياراتهم في شوارع المدينة الضيقة بأقصى سرعة، ويروّعون الناس بإطلاق النار في الهواء. أو أن تعجبهم سيارة جديدة لأحد الشباب فيلحقون بها وينزلونه منها ثم يأخذونها تاركينه مذهولاً ومرعوباً في وسط الشارع.

أستاذي في الجامعة “سمير غفر” قتل في أوائل التسعينيات وهو واقف على موقف الباص، مع ثلاثة رجال وامرأة حامل، لأن هناك سيارة مسعورة لم يستطع سائقها التحكم بها، ولم يعاقب ذلك السائق/ الشبيح بالتأكيد. كنا لا نجرؤ على الحديث عنه خوفاً من “الجدران التي لها آذان” على الرغم من أحاديث مرعبة عن رأسه التي فصلت عن جسده كانت تتطاير هنا وهناك. صديقي في الجامعة “حسان الأعسر” قتل أيضاً لأنه دافع عن فتاة التجأت إليه في باص الدولة وكان عدد من الشبيحة يطاردونها. هو الآخر غيبناه عن أحاديثنا خوفاً لكن صورة السكين التي انغرزت في كتفه ووصلت القلب لم تغادر ذاكرتي حتى اليوم.

كان يمكن لأي معاون باص أن يهين أي راكب دون أن يستطيع الأخير “الخائف” الرد لأنه من الشبيحة، وكان يمكن لأي جاهل أن يروّع حارة بأكملها دون أن يجرؤ أحد على الرد لأنه منهم. الشبيحة وسادتهم هم القانون وهم الدولة وهم الزعماء وهم “الفصل والحكم”.

حين أتى “أبو حيدر” إلى حارتنا كانت تبدو سيماء التشبيح عليه: رأس محلوق ولحية طويلة غير مشذبة وكرش ولباس مموّه. بدأ بإخراج كراسيه إلى الحارة واستقبال ضيوفه هناك، وبالتالي كان يعلّق على الرائح والغادي، ثم صار يصفّ سياراته في الحارة، ومن بعد غرز ثلاثة قضبان حديدية ثخينة على باب الحارة وبينها سلاسل معدنية فأغلق الحارة تماماً، ولم يجرؤ أحد حتى اليوم على سؤاله: من أين أتيت بهذا الحق؟. ثم مع الزمن صار اسم الحارة حارة أبو حيدر، زرع فيها نباتاته ونصب شادراً ومراجيح لأطفاله. صارت الحارة حقاً مكتسباً له، كما صار البلد حقاً مكتسباً للشبيحة وأسيادهم.

أرى الشبيحة اليوم ينتشرون من جديد في شوارع المدن السورية وكأنهم استيقظوا من سباتهم يشيعون الخوف أينما حلوا، ولكن هذه المرة وجدوا لأنفسهم وظيفة جديدة، شكروا ربهم عليها، وهي ضرب المتظاهرين وتفريغ تلك الشحنة الطاغية بداخلهم، خصوصاً وأنهم صاروا يلبسون المهمة غايات وطنية، بما أنهم يحتكرون المواطنة والوطن.

اليوم هناك الآلاف من أبو حيدر يصولون ويجولون، وفي الكثير من المناطق السورية لم يحتج الأمن ليعذب نفسه ويتدخل في تفريق المظاهرات فالشبيحة قاموا بالواجب ومن كل قلبهم.

ما يحدث اليوم ليس بجديد أبداً!! إنه نتاج سنوات طويلة مضت من التراكم، ولأنه كذلك فهو يحتاج إلى فضح وتهديم بنية متجذرة فينا اسمها: الخوف!!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى