صفحات العالم

الخوف من الثورات

 


خالد صاغية

-1-

ثمّة تيّار آخذ بالتوسّع، يبثّ خوفاً من الثورات العربيّة بحجّة أنّها تُبعد الجمهور العربيّ عن فلسطين. كنّا نحسب المسألة مقلوبةً. فالشكوى، عادةً، كانت أنّ الأنظمة العربيّة لا تقوم بواجباتها تجاه فلسطين، وهي تكتفي باستغلال الموضوع الفلسطيني لتقمع شعوبها، فتسوّغ هذا القمع بكونها تقاتل من أجل فلسطين، أو تسوّغه بالتذرّع بالظروف الاستثنائيّة التي فرضها وجود إسرائيل في المنطقة. هكذا استمرّت حالات الطوارئ حتّى لدى دول كانت قد وقّعت اتفاقات سلام مع إسرائيل. بكلام آخر، كان الحريصون على فلسطين يلقون باللوم على الأنظمة، فإذا بهم اليوم يلقون باللوم على الشعوب التي تحاول قلب هذه الأنظمة. فإمّا أنّهم سعداء بالتحيّات اللفظيّة إلى فلسطين، أو أنّهم يلعبون لعبة الاستبداد نفسها، فيحرّمون على الشعوب المطالبة بحقوقهم ما دام الحقّ الفلسطيني لا يزال ضائعاً.

الأجدى بمن يحبّ الفلسطينيّين ويحبّ فلسطين أن يستنتج ممّا يحدث في أكثر من بلد عربي أنّ قضيّة فلسطين، بصرف النظر عن الموقف منها، لم تعد قضيّة يمكن باسمها الطلب من الشعوب العربيّة «تأجيل» كلّ حاجاتهم السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية الأخرى ريثما يتحقّق النصر الموعود. والواقع أنّ «تأجيلاً» كهذا يحمل في طيّاته ازدراءً للجماهير التي يُطلَب منها أن تشارك في صنع مستقبل فلسطين. تلك الجماهير تمكّنت من فرض احترامها من خلال الثورات التي أطلقتها. يكفي أنّ مفردة «جماهير» عادت إلى التداول. وهذه الثورات لها في الخارج من يدعمها ومن يشجّعها، ولها أيضاً من يخشاها ومن يحاربها. لكنّها أوّلاً وأخيراً من صنع الشباب العرب. أولئك الشباب الذين يؤكّدون، مرّة أخرى، الشرط الأوّل لنصرة العرب لفلسطين، أي الرابطة العروبيّة بين شعوب المنطقة. وهذا ما سعت الأنظمة إلى قمعه والتخلّص منه. الثورات أعادت إلى العروبة روحها، ودلّت بالملموس على قوّة هذه الرابطة التي تجمع بين العرب، وتجعل مصيرهم واحداً. انظروا إلى السرعة التي ينتقل بها التغيير من بلد عربيّ إلى آخر. لقد توحّدت اللهجات العربيّة وباتت تنطق بلغة فصيحة: «الشعب يريد إسقاط النظام».

فلسطين بالذات ليس لديها ما تخسره من الثورات العربيّة. لديها العالم العربي كلّه لتربحه سيّداً، حرّاً، كريماً.

-2-

منذ أحداث 11 أيلول، انتشر مصطلح مضلِّل بعض الشيء اسمه الإسلاموفوبيا. وهو مضلِّل إذ قد يُفهَم منه الرُّهاب من الإسلام أو المسلمين، من قبل الدول الغربيّة خصوصاً. غير أنّ الواقع كان يدلّ دائماً على عكس ذلك. ثمّة نوع من الإسلام والمسلمين تُوجَّه الكراهية إليهم، في مقابل نوع آخر تمطر عليه غزلاً. وقد يكون الباحث محمود ممداني أكثر من فصّل هذا التمييز في كتابه الذي «يُقرأ» من عنوانه «مسلم جيّد… مسلم سيّئ». والمسلم الجيّد، بهذا المعنى، هو المسلم كما تشتهيه الأنظمة ذات الأطماع بالدول ذات الغالبيّة المسلمة. أمّا المسلم السيّئ، فهو ذاك الذي لا تلبّي مواصفاته تلك الأطماع. هذه صورة مختزلة، بالطبع، لكنّه اختزال لا يخلو من حقيقة.

في زمن الثورات العربيّة، يلوح شبح الرهاب من الإسلام من جديد، بطريقة مشابهة، وإن غير متطابقة. فاليوم، يقود قسم كبير من أعداء الثورات والخائفين منها معركتهم عبر التخويف من البديل الذي سيكون، بحسبهم، إسلاميّاً لا محالة. ولمزيد من التشويق، لا يُترَك مجال للشكّ في نوع الإسلام الذي سيحلّ محلّ الأنظمة «العلمانيّة». إنّه، بالتأكيد، الإسلام الكاره للديموقراطيّة والمفجِّر للكنائس. وفي هذه الحالة، تماماً كما في حالة الإسلاموفوبيا الغربيّة، يرمي التركيز على هذا النوع من الإسلاميّين إلى تحقيق شيء آخر. في الحالة الأولى، تنفيذ السياسات الإمبرياليّة. وفي الحالة الثانية، تأبيد بقاء الأنظمة العربيّة. في الحالة الأولى، يصوَّب على الإسلاميّين لإسكات كلّ الأصوات المعادية للإمبرياليّة بحجّة الحرب على الإرهاب. وفي الحالة الثانية، يصوَّب على الإسلاميّين لإسكات كلّ الأصوات المعادية للأنظمة بحجّة الدفاع عن العلمانيّة. لقد استبطن العرب إذاً مفهوم الإسلاموفوبيا، لكنّ المسلم «الجيّد» بات هنا المؤيّد للنظام، والمسلم «السيّئ» هو المؤيّد لسقوط النظام.

طبعاً، لا يحجب ذلك حقيقة أنّ ثمّة مسلماً سيّئاً فعلاً، بالمعنى الأخلاقي لا السياسي، تماماً كما يوجد مسيحيّ سيّئ ويهوديّ سيّئ… إلا أنّ هؤلاء المسلمين السيّئين هم ممّن تربّوا في أحضان الأنظمة أو ممّن غذّتهم سياساتها. ولنا في التواطؤ بين التكفيريّين والنظام في مصر أمثولة. ومن مصر نتعلّم أيضاً كيف فتحت الثورة آفاقاً سياسيّة جديدة لا يحتكرها أحد، ولا يُقصى منها أحد.

-3-

لم تفاجئ الثورات العربيّة السلطات وحسب، بل المعارضات أيضاً. فقد اندلعت تلك الثورات من أفراد لا «تمون» المعارضات عليهم، ومن مناطق طرفيّة أهملتها المعارضات كما أهملتها الأنظمة. وهذا ما جعل العثور على ناطقين باسم المحتجّين متعذّراً، فصعّب أيّ مفاوضات مع النظام. لكنّ هذا ما جعل أيضاً البدائل من النظام غامضة ومفتوحة على احتمالات متعدّدة. ولعلّ هذا الغموض سبب رئيسيّ في الخوف من المستقبل بعد زوال الأنظمة الحاليّة. وهو خوف عرفت الأنظمة كيف تستغلّه بالتركيز على «الخطر» الإسلامي. إلا أنّ ثمّة من يتجاوز هذه المسألة ليرسم صورة قاتمة عن مستقبل الديموقراطيّة في العالم العربي، معتبراً أنّ الجيش هو القوّة الوحيدة القابلة للإمساك بزمام السلطة بعد انهيار الأنظمة، وهو إمساك قد يكون مباشراً أو غير مباشر، وعلى الأرجح بالتنسيق مع الإدارة الأميركيّة.

لا شكّ في أنّ الجيش المنظّم، حيث يوجد جيش كهذا، سيعمل على إيجاد مخارج تحفظ امتيازاته ومصالحه، خصوصاً في البلدان التي يؤدي فيها دوراً أساسيّاً في انتصار الثورة عبر «إقناع» الزعيم بالرحيل. لكنّ الجيش لن يكون بأيّة حال وحيداً على الساحة السياسيّة. ومرّة أخرى، يمكن المرء أن يلتفت إلى مصر حيث كان للضابط «الواقف ورا عمر سليمان» دور حاسم في الرحيل السريع نسبيّاً، والسلميّ نسبيّاً، لحسني مبارك. ورغم ذلك، ورغم أنّه لا مجال للمقارنة بين الجيش المصري والجيوش الأخرى في المنطقة، لم يستطع الجيش المصري التصرّف كحاكم مطلق لمصر من أجل إعادة إنتاج النظام السابق في حلّة جديدة. لا يعود ذلك إلى انعدام شهيّة الجيش على السلطة، بل إلى عدم قدرته على تحقيق هذه الشهيّة. فإضافة إلى قلّة الحكمة التي تقوده إلى اتّخاذ قرارات غير شعبيّة، فإنّه يفتقد القدرة على الدفاع عن قرارات كهذه. فقد اضطرّ خلال الشهرين الأخيرين إلى التراجع عن قرارات كثيرة تحت ضغط شباب الثورة، حتّى إنّه ما إن كانت تصدر رائحة قرار يوم الاثنين حتّى يرفضه الشباب الثلاثاء ويدعوا للتظاهر الجمعة، فيُمحى القرار صباح الخميس.

ومن المفيد الاطّلاع على البيان الرقم 56 للقوّات المسلّحة المصريّة، الذي صدر في 22 أيّار واستخدم لغة «العناصر المشبوهة» ممّا يعكس ضيق صدر الجيش باستمرار التظاهرات. فكان الردّ بالبيان الرقم 3 لثورة الغضب المصريّة الثانية. ثمّ صدر عن الجيش البيان الرقم 58 الذي يعيد تأكيد حق التظاهر السلمي، وذلك قبل أن يضطر إلى دعوة شباب الثورة إلى الحوار.

«إيماناً من المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة باستمرار التواصل مع الشعب المصري العظيم وشباب الثورة»… هذه هي الجملة التي تفتتح بيانات الجيش المصري بعد نجاح الثورة. قد تكون جملة إنشائيّة وحسب، لكنّها جملة تعكس عدم قدرة الجيش على التخلّص من ضغط الشارع. لا يعني ذلك طبعاً عدم وجود سلوك قمعيّ ارتكب فظاعات منذ نجاح الثورة، لكنّه يعني أنّ تمادي هذا السلوك ليس قدَراً.

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى