صفحات العالم

الخيار المأساوي بين: حكم الطغيان أو التحرّر بالاستعمار!


طلال سلمان

ليس أقسى من مأساة الخيار: بين التسليم باستمرار حكم الطغيان «الوطني» الذي يهدر كرامة الشعب وحقوقه في بلاده، وبين السكوت عن عودة الاحتلال الأجنبي، فكيف بدعوته إلى العودة في ثياب «المحرّر»؟!

…وكما فرض صدام حسين على شعب العراق المفاضلة البائسة بين طغيانه وبين الاحتلال العسكري الأميركي، مختاراً بذلك «خليفته» و«وريثه»، فقد فرض معمر القذافي على شعب ليبيا الخيار البائس بين حكمه الفردي الدكتاتوري الذي امتد دهراً، وبين عودة الاحتلال الأجنبي، أطلسياً هذه المرة، تشارك فيه معظم الدول الأوروبية ذات التاريخ الدموي الحافل في ليبيا خاصة، كما في مختلف الدول العربية والأفريقية عموماً، وكأن الإدارة الأميركية أرادت تعويضها عن منعها من المشاركة في الغنيمة العراقية.

…وكما أنهى صدام حسين عصر حكمه الاستبدادي مختبئاً في جحر، وقد حوّل أغنى شعب عربي أرضاً ومياهاً ونفطاً وعلماً وثقافة إلى ملايين من الأيتام والأرامل والمشرّدين الهائمين على وجوههم في مختلف الجهات، داخلاً وخارجاً، ها هو معمر القذافي يختفي في «جحر» هو الآخر، تاركاً بلاده وقد لحقها الدمار، وشعبه الذي حجر عليه لأربعة عقود ونيف مشرداً يحاول إحصاء ضحاياه في مختلف المدن والقصبات والنجوع والبوادي التي دكتها صواريخه وصواريخ الاحتلال، بالتناوب، فتركتها أكواماً من الخراب، وتركت أهلها هائمين على وجوههم، في الداخل والخارج القريب، يرفعون رايات الماضي الملكي ويدورون بحثاً عن طريقهم إلى مستقبلهم في بلادهم.

ثمة دول عربية أخرى لم يدمرها حكم الطغيان تماماً، لكنه أفقرها وأذل شعوبها، فهاجرت كفاءاتها وعقولها تطلب الأمان والرزق في أي أرض، وتتحمل ظلم ذوي القربى وتنتظر أن يسقط الطاغية، بالموت أو بالانتفاضة، لكي تعود فتستعيد بلادها وتسهم في بنائها من جديد.

صار للوطن العربي، بمجمله، صورة محددة: حكم استبدادي لا يحول ولا يزول، لا يعي ولا يستوعب ولا ينتبه إلى ما يجري في العالم كله من تطور ومن كشوف علمية ووسائل اتصال جعلته «قرية كونية» لا يمكن عزل بعضها عن البعض الآخر، فضلاً عن اندثار الزعامات التاريخية والقيادات الخالدة والأحزاب ذات العقائد التي تنتمي لزمن آخر ولا تعني شيئاً للأجيال الجديدة، خصوصاً وان تجاربها قد خذلت أهلهم وخيّبت آمال من «ناضل في صفوفها» دهراً قبل أن ينتبه إلى أنها قد تهاوت فلم يتبقّ منها إلا الشعار المجفف والمجوّف بعدما أفرغته السلطة من أي مضمون.

[ [ [

في الجانب الآخر من الصورة، تبدى الحلف الأطلسي، بقيادته الأميركية وظلها الإسرائيلي، وكأنه «مجلس قيادة للثورة العربية المعاصرة»، مفوضاً إلى نفسه قيادة عملية التغيير!

وبمعزل عن مسؤولية أهل النظام العربي، عموماً، عن هذا الانقلاب في المفاهيم والمعايير، فليس أفدح مهانة للأمة من أن تتجرع الخديعة، مرة أخرى، تاركة مصيرها للغرب يقرر لها ما يتناسب مع مصالحه، عبر استعادة فاضحة لما جرى «للثورة العربية الكبرى» التي انتهت بتوزيع المشرق العربي غنائم حرب بين بريطانيا وفرنسا، تمهيداً لزرع الكيان الصهيوني في القلب منه: فلسطين!

إذ، بسرعة قياسية، وفي ظل أزمة اقتصادية تتعاظم تفاقماً، تلاقت الدول ذات التاريخ الاستعماري، قديمه والجديد، على نصرة الشعب العربي في ليبيا، وبتأييد بل بدعوة خرقاء من جامعة الدول العربية، ضد قائده الأبدي الذي كان خصمها فصالحته بالثمن، واستقبلته قصور الحكم فيها مع حارساته ونوقه وخيامه، ثم انقلبت عليه فجأة، بعد الاتفاق على تقاسم الثروة النفطية الهائلة التي تختزنها أرض ليبيا.

وهكذا ارتدى الفرنسيون (الذين أصروا على دور الطليعة!) والبريطانيون والبلجيك والألمان واليونانيون والإسبان والطليان، وحتى الأتراك الذين وصلوا متأخرين، أثواب المحررين، وجلسوا تحت المظلة الأطلسية يتقاسمون خيرات ليبيا التي قد تخفف عنهم وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجتاح الغرب عموماً، والولايات المتحدة أولاً.

هذه المرة لا يأتون كمستعمرين، بل كأهل نخوة هزتهم مأساة الليبيين، فتقدموا لنصرة حقهم في التحرر من طاغيتهم، واستعادة قرارهم الوطني الحر! وماذا يهم أن يكون الحلف الأطلسي هو من أطلق طيرانه الحربي وصواريخه لتدمر وتحرق الثكنات ومخازن السلاح والطرق وأطراف المدن وبعض أحيائها، مكملاً بذلك المهمة التي باشرتها كتائب أبناء القذافي… ودائماً مع تجنب إلحاق التدمير بآبار النفط أو بخطوط أنابيبه أو بمرافئ تصديره!

سبحان مبدّل الأحوال: إذا كانت كل هذه القوى الدولية مناصرة للثورة العربية، بدءاً بتونس مروراً بمصر، وصولاً إلى اليمن، فمن كان إذن يؤيد ويدعم ويساند الأنظمة القائمة منذ دهر في مواجهة متصلة مع حقوق شعوبها وطموحاتها؟

لقد تبدى العالم المتحضر ديموقراطياً، ثورياً، مشفقاً على أمة العرب من قهر حكامها… مَن إذن كان يحمي تلك الأنظمة، ومَن كان يتعامل مع الطغاة من قادتها متجاهلاً ما يصيب شعبها من عنت وإذلال واضطهاد؟!

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد كان معظم القادة الغربيين الذين تلاقوا تحت شعار نصرة الثورة في ليبيا، يتناوبون على زيارة القذافي، في المواعيد التي يحددها، وبالشروط التي يفرضها، وقد ينتظرون زمناً للدخول عليه، وقد يفرض عليهم تبديل المكان، ثم يخرجون من لدنه مستبشرين ويدلون بتصريحات الإشادة والتقدير للإنجازات التي حققها… فمتى أفاق هؤلاء القادة المتحمسون لانتصار الثورة على حقيقة الظلم الذي لحق بالشعب الليبي فهبّوا لرده عنه؟!

حتى الحكم التركي المستنير، والمبشّر بالإسلام الجديد، ألم يكن يعرف طبيعة النظام الدكتاتوري للقذافي ومدى غربة الشعب الليبي عن القرار، أم أن حجم المصالح وهي بعشرات المليارات قد جعلت «العثمانيين الجدد» يغضون الطرف عن هذا «الدكتاتور الصديق»، ويحاولون أن يلعبوا دور الوسيط، فلما سبقتهم الدول الغربية اندفعوا للحاق بها متعجلين.

بل لعل هذا الحكم التركي حامل الطموح لاستعادة المجد العثماني بسياسة «صفر مشكلات» يجد الآن نفسه مثقلاً بأعباء لم تكن في حسابه، مما جعله يقبل بأن ينصب الرادار الخاص بالدرع الصاروخي الأميركي فوق أرضه، قافزاً من فوق حقيقة أن دولاً أوروبية عديدة قد رفضت أن تستقبل هذا الرادار الذي لن يكون مصدر طمأنينة لدول جواره بدءاً بروسيا وانتهاءً بإيران من دون أن ننسى سوريا التي أقبل على الشراكة مع نظامها إقبال عاشق والذي يهاجمه الآن بحدة، وكأنه فوجئ بطبيعته بعد سنوات من الود الذي طمس «العداء التاريخي الموروث».

…يبقى ضرورياً الإشارة إلى فائض الثورية لدى بعض أنظمة النفط العربية، التي أصرت على المشاركة ـ عسكرياً ـ في حرب تحرير ليبيا، فأرسلت بعض طائراتها الحربية، وتكفلت بشراء ولاء بعض القبائل التي كانت موالية للقذافي، كما سخّرت إعلامها القوي للترويج للثورة وكأنها من نتاجها الفكري!

على أن هذه الأنظمة النفطية ذاتها تبذل قصارى جهدها الآن لشراء انتفاضة تونس أو ـ أقله ـ تلطيف ثوريتها و«تغذيتها» ببعض أجنحة الإسلام السياسي بذريعة ضمان اعتدالها، وحتى لا تستعدي عليها الغرب والشرق معا.ً..

كذلك فإن هذه الأنظمة ذاتها قد حاولت، بالوعود قبل الجهود، أن تسترهن ثورة مصر، وأن تصادر ميدانها، ملوّحة بالمساعدات المؤثرة التي تدرك أن عهد ما بعد حسني مبارك في أمسّ الحاجة إليها، فلما أصر «الثوار» على حرية قرارهم تناقصت التعهدات حتى صارت المساعدات قروضاً بفوائد!

أين تقع سوريا على خريطة هذه التحولات؟!

من الواضح أن النظام قرّر أن يمضي في المواجهة مع قوى الاعتراض التي لا تغيب عن الشارع إلا لتزداد حضوراً فيه، مستثمرة دموية رد الفــعل، وتعــثر مشاريع الإصــلاح الموعود.

ومؤكد أن الضغوط الدولية ستتعاظم، لا سيما في المجال الاقتصادي، مع استمرار محاولات عزل النظام، وتوالي الإدانات، خصوصاً أن كثرة من الأصدقاء القدامى، عرباً وأتراكاً، قد اندفعوا إلى المشاركة في «الحرب» ضده، حتى وإن تعذر عليهم تجميع أشتات المعارضين الذين ما زالوا من دون قيادة موحدة وذات ثقل شعبي وازن وذات برنامج سياسي واضح وقادر على طرد شبح الحرب الأهلية من أفق البلاد ذات الدور الذي لا يعوّض في الدنيا العربية.

…وعسى أن تكون للزيارة الثانية التي سيقوم بها الأمين العام للجامعة العربية، نبيل العربي، نتائج أفضل من زيارته الأولى، فيتم فتح أبواب الحوار المرصود بما يوقف رصاص القتل الذي أول ضحاياه الحوار الوطني وهو بالذات المدخل إلى حل في الداخل ومن الداخل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى