إياد الجعفريصفحات العالم

الداروينية على الساحة السورية/ إياد الجعفري

 

 

تُوحي الكثير من التسريبات والمؤشرات إلى أن بعضاً من المؤثرين في آلية صنع القرار داخل الإدارة الأمريكية بواشنطن يؤمنون بنظرية تُفيد بأن إطالة النزاع في سوريا يخدم مصالح الأمريكيين وحلفائهم في المنطقة، حيث تُفني الجماعات المتطرفة بعضها، أو على الأقل، تستنزف بعضها، من الطرفين، الشيعي والسني، بحيث تكون الحصيلة، التخلص من جزء كبير من عوامل قوة هذه الجماعات، وربما فناء بعضها النهائي، سواء كانت تلك المحسوبة على المحور الإيراني، بما فيها حزب الله، أو تلك المحسوبة على قوى “التطرف” السنّي كتنظيمات القاعدة، ومؤخراً، “الدولة الإسلامية – داعش”.

ويفسّر الكثيرون من المراقبين عدم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية المباشر في تطورات الساحة السورية، ومؤخراً العراقية، من منطلق قناعة المؤثرين في صنع القرار بواشنطن، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بالنظرية سابقة الذكر.

وبغض النظر عن مدى دقّة تفسير الموقف الأمريكي من التطورات الميدانية بسوريا والعراق، على أساس النظرية السابقة، إلا أن التطورات الأخيرة، خاصة صعود “داعش” المُفاجئ والسريع، إلى جانب تجارب تاريخية عديدة سابقة، تؤشر إلى عدم دقّة هذه النظرية، بل، وأن نتائج المراهنة عليها، عادةً ما تأتي عكسية، بمعنى أن حصيلة الاقتتال والصراع الدامي بين عدد من الجماعات المتشددة ينتهي عادةً بتصدر واحدةٍ منها للمشهد بحيث تتحول إلى قوة ميدانية راسخة يصعب اقتلاعها لاحقاً.

وفي هذا السياق، يمكن إسقاط نظرية “الداروينية الاجتماعية” على ما يحدث في سوريا بالذات، ومؤخراً أيضاً في العراق. ففي سوريا مثلاً، ربما يصعب، أو يستحيل، تعداد أسماء الميليشيات والجماعات المسلحة التي تقاتل النظام، وتتقاتل مع بعضها، حتى أن النظام ذاته يحتوي في جانبه على فصائل يمكن التمييز بينها عضوياً. هذه الجماعات أو الفصائل تدخل في لجّة الصراع الدامي بحالة اصطفاء طبيعي، يزول معها الأضعف والأقل قدرة على التكيّف وتطوير مهاراته للبقاء والارتقاء. ومع الزمن، تبقى بضعة ميليشيات أو فصائل لتحتل صفة “الأرقى” حسب النظرية الداروينية، ويصبح وجودها راسخاً في الكيان الاجتماعي والبعد الميداني، وتطوّر من مهاراتها، وحنكتها الميدانية والإدارية والسياسية، عبر التعلم من أخطائها العديدة في سياق الصراع الدامي، بحيث تصبح في نهاية المطاف، كالجذر الذي يستحيل اقتلاعه دون بعثرة التربة التي تحتويه بأكملها.

ينطبق التوصيف السابق على النظام السوري ذاته، فهو أحد الفصائل المتقاتلة على الساحة السورية، وقد ساهمت تجارب سابقة بالارتقاء بحافظ الأسد، مؤسس النظام، الذي خاض العديد من التجارب الفاشلة السابقة، ليصبح في الختام “الأرقى” في عالم “الاصطفاء السلطوي”. وكمثال على ذلك، يذكر باتريك سيل في كتابه الشهير عن حافظ الأسد مشاركة الأخير في محاولة انقلابية، يمكن وصفها بالساذجة، شارك فيها الأسد في عام 1962 بحلب، لكن تسامح السلطات الحاكمة حينها كتب للأسد وبعض رفاقه أن يخرجوا سالمين من ذلك الفشل الذريع. وهكذا تدرج الأسد عبر مراتب الارتقاء، ليكتسب من تجارب فاشلة شاهدها أمامه، وأخرى خاضها بنفسه، خبرة ومهارة يصبح معها “الأقوى”، ويختم عصر الانقلابات في سوريا، بآخر انقلاب قاده إلى سدة الحكم، ليؤسس واحداً من أعقد الأنظمة السياسية في المنطقة العربية.

ولأن الداروينية الاجتماعية تقول بأن “الأرقى” يورث خصائصه إلى ورثته، فإن صمود النظام السوري حتى اليوم، في لجّة الصراع الدائر في سوريا، نتاج المنهجية التي أورثها الأسد “المؤسس”، لخلفائه، في العائلة، وفي قيادات الأجهزة الأمنية والجيش.

المثال ذاته ينطبق على حزب الله في لبنان، الذي وُلد خلال معمعة الحرب الأهلية اللبنانية، التي راهنت عليها إسرائيل للقضاء على أي فصيل مقاوم لها، وكانت تصوب حينها على فتح بزعامة ياسر عرفات. لكن الحرب الأهلية اللبنانية، التي عرفت عشرات الفصائل المتناحرة، من بينها حزب الله، خلصت في نهاية المطاف، إلى زوال العديد منها، وبقاء بعضها، وتسيّد حزب الله باعتباره “الأقوى أو الأرقى” في معركة الاصطفاء الطبيعي المبنية على القدرة على التكيف وتطوير المهارات والاستفادة من الأخطاء والعثرات السابقة. وهكذا تخلصت إسرائيل من فتح “أبو عمار” لتعاني من الأسوأ منه، بالنسبة لها، حزب الله.

ينطبق ما سبق على حركة طالبان في أفغانستان التي كانت واحدة من الفصائل المتنازعة على الساحة هناك، والتي خرجت من المعمعة الأفغانية كـ “أرقى” المتنازعين، وأقدرهم على البقاء والارتقاء، لتصبح لاحقاً صُداعاً للأمريكيين، ما يزال يؤرق أدمغتهم حت اليوم.

أيضاً، ينطبق ما سبق على نموذج “الدولة الإسلامية – داعش”، التي هي خلاصة تجارب فاشلة تمتد لأكثر من عقد من الزمان، وها هي تخرج بخلاصة تجعلها، حتى الساعة، أقوى الفصائل المتسيدة للميدان السوري في الجانب الآخر لنظام الأسد. ولا يعني ذلك بالضرورة أن “داعش” ستخرج في الخاتمة الأخيرة للمعمعة السورية، على أنها “الأقوى”، لكن هذا الاحتمال قائم حقيقةً، بناء على مدى قدرة هذا التنظيم على التكيّف مع وضعه الجديد كـ “دولة”، ومدى قدرته على تطوير مهارات قياداته وحنكتهم الميدانية والإدارية والسياسية.

ينطبق ما سبق على جبهة النصرة وعلى الجبهة الإسلامية، وعلى مختلف الفصائل المتناحرة مع النظام ومع بعضها، كما ينطبق على النظام ذاته.

خلاصة ما سبق، أن المشهد الميداني السوري لن ينتهي، إلى حالة من الفناء والإنهاك للمتنازعين، كما يظن المروجون لنظرية “إفناء المتطرفين لبعضهم”، بل على العكس، سينتهي بخروج فصيل أو أكثر ليكون “الأرقى والأقوى”، بحيث يكرر سيرة حزب الله أو حركة طالبان أو حتى نظام الأسد في “تُربة” راسخة، سيصبح من الصعوبات الكبرى، نزعه منها. ليكون صُداعاً مُزمناً لكل من راهن على جدوى إطالة أمد النزاع السوري بما يخدم مصالحه، بمن فيهم الأمريكيون والإسرائيليون، إذا صح أنهم يراهنون على “إفناء المتطرفين لبعضهم” على الساحة السورية.

وكخاتمة، فإن إطالة أمد النزاع السوري، هو الوصفة السحرية المناسبة التي تتيح لقوى “متشددة” الفرص الكافية للنضوج، كي تكون “الأرقى”، بحيث تصبح في نهاية المطاف، كابوساً مزمناً لكل من راهن على الاستثمار في الساحة السورية عبر إطالة أمد النزاع، بما يخدم مصالحه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى