صفحات الرأي

الدبابات الأميركية أطْلَقَتْ “الربيع العربي” من بغداد

    جهاد الزين

اليوم 9 نيسان 2013  تكون قد مضت عشر سنوات كاملة على سقوط بغداد في  9 نيسان 2003. كان ذلك السقوط هو البداية الحقيقية لما سيُسمّى لاحقا “الربيع العربي”، البداية التي لا يحب أن يعترف بها “المثقّفون الوطنيّون ” العرب!

في الأول من تشرين الثاني 2002 أي قبل بضعة أشهر من الغزو الأميركي للعراق وإسقاط صدام حسين كتبتُ على هذه الصفحة من “النهار” مقالا بالعنوان الحرفي التالي: (“المشروع الثوري” الوحيد للمنطقة هو المشروع الأميركي). أثار لي المقال والعنوان يومها العديد من المتاعب مع العديد من الأصدقاء اللبنانيين والعرب. اليوم وبعد عقد كامل على سقوط بغداد تبقى واحدةٌ من أهم ظواهر سلوكِ جزءٍ كبيرٍ من النخب العلمانية العربية التي لم تنل ما تستحقّه من الرصد والنقاش هي أن هذه النخب المنخرطة عميقا في ثورات “الربيع العربي” في تونس ومصر وليبيا التي أدت إلى سقوط ثلاثة ديكتاتوريين عرب مع أنظمتهم، هي نفْسُها هذه النخبُ ترفض التغييرَ الذي حدث في 9 نيسان 2003 في العراق والذي أدّى إلى سقوط أول وأعنف هؤلاء الديكتاتوريين مع نظامه.

السبب المعلن لهذا التناقض هو أن التغيير العراقي تمّ عبر الدبابات الأميركية حتى لو أن هذه الدبابات كانت “متحالفةً” يومها مع معظم مكوّنات الشعب العراقي وهي الأكراد ومعظم الشيعة وجزءٌ لا يُستهان به من السُنّة نشأت مخاوفُه الطائفية بعد التغيير لا قبله.

هذه الظاهرة في “سلوك” النخب العربية لها طبعا تفسيرها في الثقافة الوطنية أي بكونها ضد الغزو الأميركي. وقد فوجئتُ وكنتُ انتهيتُ لتوّي من كتابة هذا المقال بوجود مقال نُشر في “النيويورك تايمز” يوم السادس من نيسان الجاري لكنعان مكّية الكاتب العراقي المهاجر يحمل تقريبا العنوان نفسه: “الربيع العربي بدأ في العراق”. وهو توارد أفكار مفهوم في موضوع بهذه الأهمية.

 المعضلة العميقة التي ستُطرح لاحقا على هذه الحقبة من تاريخ منطقتنا هي أنه، أحببنا ذلك أم رفضناه، فإن مشروع التغيير الديموقراطي الأشمل في المنطقة منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 (التي أدّى وجودُها إلى ولادة شبكة من الأنظمة العسكرية الاستبدادية في المنطقة (وهذه حقيقة لا يحب أن يعترف بها معظم الغربيين)… هذا المشروعُ التغييريُّ أطلَقَتْهُ الولايات المتحدة الأميركيةُ بالقوة العسكرية عام 2003. ما هي أهداف واشنطن الحقيقية؟ هذا سؤال ليس مطروحا فقط على ما حدث عسكرياً في بغداد بل أيضا على ما حدث ب “القوة الناعمة” في تونس والقاهرة وبمزيج القوتين الصلبة والناعمة في طرابلس الغرب وحاليا في سوريا، لا سيما السؤال الخطير عن هل هو هدف تفكيك دُولِنا أكثر مما هو الهدف الديموقراطي؟ لكن كل علامات الاستفهام هذه المطروحة للنقاش لا تستطيع أن تخفي حقيقة جوهرية هي أن مشروع التغيير الديموقراطي في المنطقة قادته واشنطن. ولكي تكون الحقيقةُ مزعجةً أكثر يجب التذكير بأن “المحافظين الجدد” حول الرئيس جورج بوش الإبن هم الذين وضعوا نظريّته وقادوه.

كل العناصر الداخلية كانت موجودة في حالة التغيير العراقي وهي عناصر استندتْ عليها القوةُ العسكرية الأميركية. الرفض الشيعي والكردي الكاسح لصدام حسين. رفض مدعوم برفض ضحايا صدام الكثيرين بين السُنّة العراقيين ومع كل هؤلاء رفضٌ متراكمٌ وعميقٌ لنظام صدام من معظم النخبة اليسارية والليبرالية العراقية في الداخل والمنفى الذي اتسع في سنوات حكم صدام ليصبح حوالى أربعة ملايينِ عراقيٍّ مشتّتين في العالم ومنهم نخبة كبيرة جدا في دول الغرب لم تعد لها مصلحة في العودة إلى العراق بالمطلق.

في مصر أشعلت هذه النخبة الثورةَ وبالوسائل الديموقراطية لأنها كانت موجودة على أرض بلدها وكانت قد تطوّرت وسائل الاتصال الاجتماعي التي كان التنسيق “القِيمي” قائما فيها بينها وبين الغرب سياسيا وثقافيا وإلى حدٍ ما اقتصاديا بالنسبة للكوادر الواسعة من الطبقة الوسطى المصرية التي ساعدت على تعزيزها برامج التدريب الأوروبية والأميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. في تونس الوضع نفسه ولو كان عدد الناشطين والقياديين المعارضين للنظام الديكتاتوري العائدين من الخارج أكبر من العائدين المصريين. ففي مصر تميّزت الديكتاتورية المباركية بمنع أي تداول للسلطة مستندةً إلى نهب اقتصادي لثروات الدولة لكن مع قدر ملموس ومسموح به من حريات التعبير. هذا لم يكن موجودا في تونس وفي ليبيا وفي سوريا وفي العراق حيث الديكتاتوريات استئصالية بالكامل ولو أن صدام حسين والعقيد معمّر القذافي كانا الأبشع في تطبيقها. فالديكتاتورية المصرية وخصائصها بل واختلافاتها المهمة، لا سيما سماحَها بحرية التعبير، عن الديكتاتوريات العربية الأخرى موضوعٌ يحتاج إلى درس ضروري ولكن لسنا بصدده هنا.

الغرب موجودٌ عميقا في كل تحوّلاتنا. إنْ لم يكن عسكريا كما في العراق ولاحقاً بصيغة أخرى في ليبيا واليوم بصيغة ثالثة في سوريا… فهو موجودٌ ثقافيا وسياسيا واقتصادياً طبعا. والعامل الثقافي أساسي وعميق بحكم انتصار القيم الديموقراطية الليبرالية التي عادت تتبنّاها معظم نخبنا العربية بما فيها التيار الأساسي في الحركات الإسلامية. أليست هذه ما سُمّي “نهاية التاريخ”؟

المشهد – النتيجة الأهم كقاسمٍ مشتركٍ يجمع بين بغداد 2003 والقاهرة 2011 هو بدون أدنى شك مشهدُ وجودِ كلٍّ من صدام حسين وحسني مبارك في قفص الاتهام داخل محكمة على أرض العاصمة التي حكمها عقودا.

هل كان يمكن لمشهد حسني مبارك في القفص أن يحصل بدون مشهد صدام حسين المماثل الذي سبقه؟ أليست هذه ديناميّة التاريخ التي أطلقت موجةً تغييرية من بلدٍ إلى بلدٍ ضمن منطقة واحدة كما حدث في أوروبا الشرقية مع سقوط جدار برلين وقبل ذلك بشكلٍ مختلف في أميركا اللاتينية؟ إنها قوّةُ “السابقة” التي لم يكن ممكنا تصوُّرها بدون الاحتلال الأميركي الذي فتح أفق الديموقراطيةِ في المنطقة وتفكّكِ دولنا… معاً؟ كيف نفرّق بين النتيجة الرائعة والنتيجة الوخيمة على ملعبٍ واحد؟

لقد كانت هناك، بعد بغداد، بدايةٌ ثانيةٌ مثيرةٌ لـ”الربيع العربي” بكل التباساته التي عرفناها لاحقا هي الحركة الاعتراضية المستندة إلى تيار شبابي واسع في طهران والمدن الإيرانية ضد النظام الديني الإيراني وبقيادة رموز سابقة من النظام لكنها انتهت إلى الفشل بعدما نجح النظام رغم مشروعيّتها الديموقراطية في حصارها وجعلها “غير وطنية”.

تيارات دينية حاكمة في كل مكان: سنّية في تركيا ومصر وتونس وشيعية في إيران والعراق ومقاومات ليبرالية وعلمانية مختلفة الأحجام لكل منها. وصل “حزب الدعوة” في العراق، النسخة الشيعية لـ”الإخوان المسلمين” السُنّة. ووصل “الإخوان ” في مصر وتونس وليبيا. أحزابٌ لم “تسرق الثورة” عكس ما يردد أصدقاؤنا الليبراليون واليساريون المصريون وإنما كانت في جهوزية شعبية وسياسية لقطف ثمارها السلطوية بسبب تاريخ طويل دؤوب من المواجهة مع الأنظمة العسكرية لم يكن فيها “الإخوان” دائماً ضحايا إرهاب السلطة بل كانوا أحيانا صانعي هذا الإرهاب ضد السلطة وضد أخصامهم السياسيين والفكريين.

 انفراط  العِقد المتماسك والرهيب للاستبداد العسكري… بدأ في بغداد 2003.

مخاضٌ هائلٌ داخليٌّ وخارجيٌّ متلاطم… في بعضه لا يُعاد تركيب السلطات فقط بل يُعاد تركيب الدول، وفي بعضه يُعاد تركيب المجتمع.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى