صفحات العالم

الدرس السوري

 


الياس خوري

لم يسقط النظام بعد، لكنه سقط.

معضلة الرئيس السوري بشّار الأسد ليست في الاصلاحات مثلما يُظن. فما يُسمى بالاصلاحات السياسية، وعلى رأسها الغاء قانون الطوارىء من اجل استبداله بمجموعة من القوانين الشبيهة، ليس جوهر المسألة التي يواجهها النظام الذي يحكم سورية منذ اربعين عاماً. جوهر المسألة يكمن في البنية الأمنية للدولة. اي في هيمنة اجهزة الأمن على الحياة السياسية الداخلية، التي ماتت نهائياً، بحيث صارت السياسة قراراً امنياً لا علاقة له بالمجتمع وتوازناته.

هنا تكمن المسألة.

لذا فان ما يُسمى اليوم برزمة الاصلاحات التي املاها الرئيس السوري على اعضاء مجلس الوزراء الجديد لن تحلّ مشكلة النظام مع الشعب او مشكلة الشعب مع النظام.

كي يحلّ النظام مشكلته عليه ان يستعيد هيبته، اي يستعيد قدرته على اخافة الناس، وكي يحلّ الشعب مشكلته عليه ان يحوّل مكتسباته التي توصل اليها بالشجاعة والتظاهر والتضحيات، الى سابقة تحكم علاقته بالسلطة.

ما يُسمى بالاصلاح لا يعدو عن ان يكون مجرد محاولات لتجميل النظام، تمهيداً لاستعادة الرهبة التي يثيرها في اوصال المواطنين. من دون هذه الرهبة لا يستطيع حزب البعث ان يبقى قائداً للدولة والمجتمع بحسب المادة الثامنة من الدستور السوري. فهذه القيادة هي نتيجة الانقلاب العسكري وهي قيادة دائمة وليست تفويضاً شعبياً محدد المدة ويحتاج الى احتكام دوري والى انتخابات ديمقراطية. كما ان حرية العمل الحزبي والنقابي والاجتماعي محكومة بمنطوق هذه القيادة الأبدية التي تملك وحدها حرية اتخاذ القرارات.

الانسداد السياسي في سورية الذي قاد الى تعميم المظاهرات في جميع مناطق البلاد، ناجم عن هذه المسألة. وكل محاولة للتحايل عليها، لن تعني سوى ان النظام قرر ان يمضي في المواجهة الى النهاية، والنهاية تعني القدرة على الدوس على الناس، مثلما حدث في البيضة، حين رأى العالم بأسره، من خلال شريط الفيديو، كيف تدوس اجهزة النظام الأمنية على الشبان المكبلين والمطروحين ارضاً.

الدروس التي قدمتها الثورات العربية، وخصوصاً في تونس ومصر، تقول ان النظام حين لا يلتقط اشارات التغيير فانه يذهب الى مصيره.

غير ان سورية مختلفة، يقولون.

تستطيع سورية ان تحتمي بتحالفاتها الاقليمية، وهذا منطقي، ولكن متى استطاعت تحالفات اقليمية ان تحمي نظاماً من السقوط امام ثورة شعبية؟ اسألوا حسني مبارك ونجليه عن لعنة التحالفات الدولية والأقليمية التي قادتهم الى السجن، واسألوا بن علي عن حلفه مع الفرنسيين الذي اوصله الى الهاوية.

يقولون ان هناك مؤامرة. والسؤال هو هل يستطيع المتآمرون اخراج مئات الالوف الى الشوارع؟ هل يمكن اطــــلاق صفة مؤامرة على ثورة شعبية سلمية واجهت الدبابات بالصدور العارية؟ نفهم ان المؤامرة قد تعني حفنة انقلابية، او مجموعات مسلحة، اما ان يتهم الناس الذين يواجهون الموت بالتآمر، فهذا عجيب.

يقولون ان هناك جماعات مسلحة تطلق النار، والغريب ان هذه الجماعات لا تجرؤ على الظهور الا حين يكون النظام في صدد قمع مظاهرة شعبية، وهذا ما اعلنه اهل بانياس حين طالبوا بانسحاب الأمن والشبيحة ودخول الجيش، موجهين بذلك اصابع الاتهام الى المسلحين الفعليين الذين يقتلون.

ويقولون اخيرا ان سقوط النظام يهدد بحرب اهلية، لأن المجتمع السوري مؤلف من طوائف متعددة ويضم مجموعات اثنية مختلفة. هذا هو الخطر الذي وعته الجماهير السورية حين رفعت شعار ‘الشعب السوري واحد’. السوريون تعلموا من تجربة حماه المريرة، ومن تجارب اشقائهم اللبنانيين ان الطائفية وحروبها هي الاسم الآخر للانتحار الوطني الشامل. كما تعلموا ان الطوائف لا تستطيع ان تتحول الى قوى سياسية الا اذا ارتهنت لقوى خارجية. وهذا من الصعب ان يحصل في سورية. صحيح ان الثورة هي ضد حكم الأقلية، لكنها ليست اقلية طائفية مثلما يدّعي البعض، بل هي اقلية مافيوية عائلية، وتضم منتفعين من جميع الملل والنحل.

كان حسني مبارك يهدد شعبه والعالم بأن عليهم ان يختاروا بين حكم المافيا التي يقودها وبين الاسلاميين. وعندما جدّ الجدّ تبين ان هذه كانت الكذبة الأكبر. لذا من المستحسن ان لا يهدد احد بالحرب الأهلية، وان يتعظ الجميع بالمصير البائس الذي يواجهه الرئيس المصري.

ما يجري اليوم في سورية هو التحدي الأكبر لمشروع التحوّل الديمقراطي في العالم العربي. ولن يستطيع النظام انقاذ نفسه بالتهويل. لا ايران قادرة على انقاذه ولا السعودية او امريكا ايضاً. المكان الوحيد للبحث هو في الشام. اي مع الشعب السوري. وبدلاً من اعتقال قادة احزاب المعارضة وقادة الرأي والزج بهم في السجون يجب العمل على التحاور معهم من اجل انقاذ الوطن من ازمته.

بعد هزيمة حزيران 67، طلعت ابواق الأنظمة بمعزوفة ان اسرائيل لم تنتصر لأنها لم تستطع اسقاط الأنظمة التقدمية! وكان هذا قمة ‘الزعبرة’. من قال لهم ان اسرائيل ارادت اسقاطهم؟ كان هدف اسرائيل ولا يزال هو احتلال الأوطان وتدميرها.

اليوم الشعب يريد اسقاط النظام من اجل حماية الوطن. هذه هي المعادلة الجديدة التي يصنعها السوريات والسوريون بشجاعتهم وتضحياتهم ووعيهم بأن السلاح الوحيد الذي يملكونه هو سلاح الشعب الأعزل في مواجهة السلاح.

هذا هو الدرس السوري الكبير، انه ردّ متأخر على الهزيمة والمهانة والاذلال.

لا استطيع وانا ارى الشام تنفض عنها غبار القمع ان لا استعيد صوت نزار قباني منشداً لدمشقه ودمشق العرب:

‘ما للعروبة تبدو مثلَ أرملةٍ

اليسَ في كُتبِ التاريخِ افراحُ

 

وكيف نكتبُ والأقفالُ في فمِنا

وكلُّ ثانيةٍ يأتيكَ سفّاحُ

هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي

فكيف اوضحُ هلْ في العشقِ ايضاحُ’…

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى