صفحات مميزة

الدور الروسي في الازمة السورية –مجموعة مقالات-

 

 

 

 

بشار الأسد ملح الوجبة الروسية/ غازي دحمان

يحمل فلاديمير بوتين ما يعتقد أنّه إنجازه السوري، أحدث تقنيات الإستراتيجية الروسية، عارضاً إياه في سوق الصفقات العالمي، كوجبة دسمة بمواصفات روسية فاخرة، ويبتغي من خلالها شراء تسوية أزماته مع العالم، رفع العقوبات الأميركية والأوروبية والتفاهم مع الخليج على ملف الطاقة، وربما تبييض صفحته لدى منظمات حقوق الإنسان.

وتحاول الديبلوماسية الروسية التقاط أي حادث أمني يحصل في أوروبا لوضعه في سياق جهودها واستخدامه دليلاً على صحة السياسات الروسية التي تتخذ الطابع الاستراتيجي في محاربة الإرهاب ولا تلجأ الى الألعاب الجيوسياسية الخائبة التي ينشغل الغرب بها لمكايدة روسيا.

وفي الواقع، ليس بوتين مخطئاً لناحية اعتبار أنه يملك منتجاً اسمه الإنجاز السوري، أو الوجبة السورية، فالرجل صنع واقعاً، عدا المكاسب الإستراتيجية التي حققها في غزوته السورية وتمثّلت في بناء مرتكزات للوجود الروسي على البحر المتوسط، فإنه استطاع تعديل ميزان القوى وتغيير اتجاهات رياح الصراع صوب المقلب الآخر، فعل ذلك برشاقة حسده عليها كبار مخططي الإستراتيجيات العسكرية، لكن الوجبة التي صنعها بوتين في سورية ويعرضها على الآخرين هي وجبة تناسب المزاج الروسي وكل من يتذوقها يجد صعوبة في ابتلاعها، ذلك انه ينقصها العنصر المهم، ملحها ربما، وهو مصير بشار الأسد، والذي من دونه لا بوتين سيستطيع تسويق وجبته ولا الآخرون يمكنهم استساغتها.

ويبدو أن بوتين يحرتق في اللعبة التفاوضية على العالم، يريد تدفيعه مرتين ثمن غزوته السورية، مرّة لأنه سوّى الأوضاع على هذه الشاكلة في سورية ودفع الأطراف للتفاوض وسحب جزء من عتاده الحربي، ويريد سداد كل مستحقات هذه الجزئية بأسرع وقت ممكن، والمرة الثانية عندما ينقل بشار الأسد إلى سوتشي او سمرقند، ولكن بوتين يرغب في الحصول على غالبية مستحقات هذه الجزئية قبل البدء بها.

ويطرح بوتين، وبهدف إيجاد مناخ من الثقة في العرض الذي يقدمه، مؤشرات عدة يحاول من خلالها إثبات أنه متعهد ملتزم وأنه بالفعل سينجز مهمته، إذ عدا عن كونه يملك الأرضية المناسبة لتأسيس مشروعه المقبل في سورية من خلال ما يمتلكه من قواعد عسكرية وشبكة استخبارات تعمل في شكل علني، فهو بات قاب قوسين أو أدنى من ترتيب أهم بنية في هيكلية نظام الأسد وهي الجيش الذي يوليه اهتماماً مميزاً ويدعمه بالتقنيات والتدريب، كما يعمل على بلورته وتظهيره كبنية دفاعية وحيدة بعد أن يصار إلى دمج أو تسريح القوى الرديفة له. حتى أن بوتين يطمح إلى جذب الكثير من فصائل المعارضة تحت جناح هذا الجيش.

ولا ينسى بوتين في طريقه صناعة بنية سياسية موازية للبنية العسكرية وقد تكفلت قاعدة حميميم طوال المرحلة الماضية بغربلة واختبار العديد من الوجوه والاتجاهات السياسية وتدريبها على العمل السياسي ولا أحد يعرف بدقة طبيعة وتقاصيل النشاطات التي تحصل في قاعدة حميميم.

لكن هل يستطيع بوتين بالفعل إنجاز البنى التي يستطيع من خلالها التحكم برأس الأسد أو على الأقل الاستغناء عنه وجعل النظام يعمل في شكل اوتوماتيكي ولا يتأثر بإزاحة رأسه؟ وهل يعتبر بوتين أن مطالبة الأطراف الأخرى في شكل علني بضرورة إزاحة الأسد فوراً تخريباً لمخططاته، وهل شرح نظريته مؤخراً للطرف الأميركي الذي تفهّم ضرورة تأجيل البحث في مصير الأسد؟

من المعلوم ان نظام الأسد كان يعمل وفق هندسة صمّمها الأب حافظ الأسد بعناية وصبر، حيث شكل منظومة تتمركز خيوطها بيد الرأس الذي يسيطر على كل مفاصلها من دون أن يكون فيها مراكز قوى مستقلة بقدر ما فيها مراكز وظيفية تنحصر قوتها في الأدوار التي تقوم بها وضمن قطاع محدد، من دون أن تكون لها القدرة على التنسيق بين بعضها من دون الرجوع الحتمي للرأس الذي شكل إدارة منفصلة في القصر الرئاسي من بطانته المقربة.

وهي المنظومة نفسها التي ورثها الأسد الإبن، ولم يحصل في تاريخ هذا النظام أن واجه محاولات للخروج عن السيطرة إلا باستثناءات محددة جداً لم تصل إلى حد التمرد العلني، مثل حالة وزير الداخلية السابق غازي كنعان، وكذلك رئيس الأركان آصف شوكت الذي يقال أنه فتح قناة اتصال مع الأميركيين وكانت في بدايتها لحظة قتله.

تنطوي الوجبة السورية في حال إتمام مواصفاتها على إغراء مهم لبوتين في المرحلة المقبلة، وهي بمثابة بوليصة تأمين لتسوية الكثير من الملفات العالقة مع المجتمع الدولي، وبخاصة أن بوتين الآن في وضع مالي معقد لم يخطر بباله أنه سيصل إليه بعد سنوات من الإزدهار والبحبوحة وتراكم الثروة جراء ارتفاع أسعار الطاقة، ولا يخفي بوتين بحثه عن مخارج لهذا الوضع، لكنه يسوّق بضاعته في سوق راكدة وزبائنها أكثر احترافية وأقل إنبهاراً وتسرعاً، والواضح أنهم يتفحصون وجبته لكنهم يشيرون إلى الملح الناقص منها، فمتى يرش بوتين ملحه؟

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

الأفكار الأميركية – الروسية بشأن الأسد والمرحلة الانتقالية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

فيما كان المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان ديميستورا، يجول في عواصم الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية؛ سعياً وراء دعمٍ يساعده على تحقيق تقدّم في الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف التي تنطلق الأسبوع الجاري، بدأت تطفو على السطح ملامح تفاهم أميركي- روسي جرى التوصل إليه، كما يبدو، في زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، موسكو أواخر شهر مارس/ آذار الماضي.

ويبدو من المعطيات المتوفرة أنّ الجانب الأميركي بات أكثر استعدادًا لقبول الموقف الروسي الداعي إلى تجنّب تناول موضوع بشار الأسد، عند بحث المرحلة الانتقالية، والتركيز في تغيير الدستور، بما في ذلك صلاحيات الرئيس، وترك مصير الأسد للانتخابات. وهذا يعني عَدّ الأسد جزءاً من المرحلة الانتقالية، وأنّ له أن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها خلال ثمانية عشر شهراً من بدء العملية السياسية، ما دام “الشعب السوري سيقرّر مصيره”؛ وذلك في مقابل نزع سلطاته، وتحوّله إلى رئيسٍ بصلاحيات بروتوكولية. وتُعزز هذا الاعتقاد جملةٌ من المؤشرات، أبرزها تصريح الناطق باسم الخارجية الأميركية، مارك تونر، في 2 أبريل/ نيسان 2016؛ إذ قال إنّ الولايات المتحدة تتفق مع روسيا في أنّ “مصير الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يقرّره السوريون أنفسهم”، وهي اللازمة التي ما فتئت روسيا تكرّرها منذ بداية الأزمة، والتي تعني بها تمسكها ببقاء الأسد في أثناء المرحلة الانتقالية.

والسؤال الذي يبرز هنا: هل من الممكن أن يبقى الأسد من دون صلاحيات؟ وهل يمكن حصول مرحلة انتقالية بوجوده ووجود الأجهزة الأمنية والجيش معه كذلك؟

اتفاق كيري – بوتين

على الرغم من نفي الجانب الروسي أن تكون محادثات كيري في موسكو قد تطرّقت إلى مصير الرئيس الأسد، أو إلى ترتيبات المرحلة الانتقالية، مع اقتراب موعد استئناف مفاوضات جنيف، فإنه بدا واضحاً أنّ التركيز، بعد الاتفاق على تثبيت الهدنة، والاستمرار في تسديد الضربات لتنظيم الدولة كان منصبًّا على مصير الأسد الذي تذرّع الروس بأنّ إزاحته ستكون صعبةً، بسبب معارضة إيران واحتمال تفكك النظام برحيله..

وفي وقت غدا فيه الجانب الأميركي أقلّ تمسكاً بمطلب رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، مع

“بات الجانب الأميركي أكثر استعدادًا لقبول الموقف الروسي الداعي إلى تجنّب تناول موضوع بشار الأسد، عند بحث المرحلة الانتقالية” استمرار تمسّك موسكو وطهران به، اقترح الروس أن يتمّ الإبقاء على الأسد، وحتى السماح له بالترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية المرحلة الانتقالية، في مقابل تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية، من النظام الرئاسي المعمول به حالياً إلى النظام البرلماني، على نحوٍ يصبح فيه الرئيس منتخباً من البرلمان، بدلاً من الشعب، ويتمتع بصلاحيات بروتوكولية، في حين تحصل الحكومة التي سيجري تشكيلها على السلطات الحالية التي يحظى بها رئيس الجمهورية، بما في ذلك سيطرتها على الجيش والأمن. ويبدو أنّ الروس والأميركيين اتفقوا على أن يكون التركيز في المرحلة المقبلة في تعديل الدستور، أو إعادة كتابته، بدلاً من التركيز في موضوع الحكم/ الحكومة الانتقالية، والبحث في مستقبل الأسد، وأن يتمّ الانتهاء من ذلك في موعد أقصاه أربعة أشهر، أو كما قال كيري إنّ الدستور الجديد يجب أن يكون جاهزاً بحلول شهر أغسطس/ آب المقبل.

المشكلة في هذا الطرح الذي اقترحه الروس خلال زيارة كيري موسكو، والذي باشر الأميركيون ترويجه في عواصم عربية وإقليمية عديدة، بدعمٍ من دول عربية مهتمة بعدم تحقيق الثورة السورية أدنى أهدافها؛ بما في ذلك إزاحة الأسد، أنّ أيّ حكومة في سورية، مهما كان عنوانها أو اسمها أو تشكيلتها أو صلاحياتها، لن تستطيع أن تمارس مهمّاتها ما دام الأسد موجودًا، حتى لو كان ذلك بصفة رمزية في الحكم، أو داخل سورية؛ لأنّ سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية ليست سيطرةً قانونيةً أو دستوريةً تتأتي من كونه رئيساً للجمهورية وقائدًا عاماً للجيش والقوات المسلحة فحسب، بل لأنها تتعدّى ذلك إلى السيطرة الفعلية، فالجيش الذي قاتل شعبه والأجهزة الأمنية التي أذاقته ألوان العذاب هي من صُنع يد نظام الأسد، وبرعايته على امتداد نصف قرن. ومن ثمّ، فهي تأتمر بأمره، ويصعب تصوّر تلقيها أوامر من غيره، في ظلّ وجوده واستمراره. وتُعدّ حالة الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، مثالاً واضحاً دالّاً على طبيعة العلاقة الزبائنية والولاءات الشخصية التي تربط الرئيس أو الزعيم بالأجهزة الأمنية والعسكرية في النُظم الاستبدادية، فقد غادر صالح السلطة كلّيًا بموجب المبادرة الخليجية، وتخلّى عن صلاحياته لنائبه الذي غدا رئيساً مُوقّتًا، لكن قسماً كبيراً من الجيش والقوى الأمنية المختلفة مازال يدين له بالولاء الكامل ويقاتل تحت رايته، على الرغم من أنه لم يعُد، قانونياً ودستوريًا، رئيساً له. وإذا كانت هذه حال صالح، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الأسد، في حال بقائه في السلطة، وإن كان منزوع الصلاحيات. إنّ أيّ تغيير في الدستور في ظلّ وجود الديكتاتور هو “تغيير على الورق”؛ لأنّ سلطة الديكتاتور لا تنبع من الورق أو الصياغات، أو حتى من الدستور نفسه.

وفوق ذلك، جرت العادة أن يكون شخص الرئيس البروتوكولي (الشرفي) رمزاً لوحدة الوطن والشعب، وأن تتأتى رمزيته من إنجازاتٍ أدّاها لوطنه الذي يفخر به، ويوكل إليه مهمّة تمثيله. فهل يمكن أن يكون الأسد رمزًا لوحدة سورية؟ إنّ القول بإمكان ذلك يكون في حال عَدّ كلّ من الروس والأميركيين أنّ سقوط أكثر من مليون سوري بين قتيل وجريح ومفقود، وتشريد نصف السوريين، وتدمير البنية التحتية للبلد، وتحويلها إلى ساحةٍ تعيث فيها كلّ مليشيات الأرض فسادًا، إنجازات يستحقّ الأسد أن يُكافأ عليها بمنصب “رئيس شرفيّ”.

“داعش” يسيطر على عقل إدارة أوباما

يبدو واضحاً أنّ فكرة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تكاد تستحوذ استحواذاً مطلقاً على تفكير إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، واهتمامها بما يجري في سورية وعموم الإقليم. ومن ثمّ، هي ترى أنّ كلّ القضايا الأخرى لا تعدو أن تكون تفاصيل غير ذات شأن؛ ما يعني، وفق منطق واشنطن، أنّ على القوى المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري تنحية خلافاتها “الصغيرة” جانباً، والتركيز في الهدف الرئيس، المتمثّل بهزيمة التنظيم، وحرمانه من أيّ ملاذ آمن في المنطقة.

من هذا الباب، وعلى الرغم من امتعاضها الناجم عن وقع المفاجأة، وجدت الولايات المتحدة في التدخل العسكري الروسي في سورية فرصةً للدفع في اتجاه ضمّ موسكو إلى جهد حربها ضدّ تنظيم الدولة؛ إذ رأت أنّ التدخل الروسي في سورية يمكن أن يكون مفيدًا في حال استهدافه لتنظيم الدولة، وهو أمر ما فتئ يُردّده مسؤولو إدارة أوباما، من جهة أنهم يريدون من روسيا أن تكفّ عن استهداف فصائل المعارضة السورية، وأن تركّز، بدلًا من ذلك، على ضرب داعش.

وفي سبيل إقناعها بتغيير مقاربتها في اتجاه القضاء على تنظيم الدولة، بدلًا من استهداف

“موقف الولايات المتحدة من الهدنة أنها تفسح المجال أمام وقف القتال بين النظام والمعارضة، وتوجّه جهد الطرفين نحو القضاء على تنظيم الدولة” المعارضة السورية، كانت واشنطن مستعدةً للذهاب مع موسكو إلى أبعد حدّ ممكن، بما في ذلك القبول ببعض عناصر الموقف الروسي بشأن مصير بشار الأسد. ومن هذا المنطلق، وافقت واشنطن على الانخراط في المسار السياسي الذي اقترحته موسكو، بالتوازي مع تدخلها العسكري في سورية. فشاركت في مسيرة فيينا التي بدأت رباعية (روسيا – الولايات المتحدة – تركيا – السعودية) قبل أن تتوسع لتشمل 17 دولةً، ضمنها إيران، في إطار ما أصبحت تعرف بـ “مجموعة دعم سورية”، لتعود بعد ذلك، وتصبح ثنائيةً في ظل توجّه موسكو وواشنطن نحو التوصّل إلى تفاهماتٍ مشتركة بينهما حول الأزمة السورية.

أسفر مسار فيينا عن التوصّل إلى اتفاقٍ روسي – أميركي في المبدأ، عُرف بـ “اتفاق فيينا”، في 14 نوفمبر/ تشرين ثاني 2015، وقدّم خريطة طريق لحلّ الأزمة السورية، جرى تضمينها في قرارٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حمل الرقم 2254 في 18 ديسمبر/ كانون أول 2015، ونصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة شاملة ذات طابع غير طائفي، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات خلال 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة. وبعد إخفاق الجولة الأولى من مفاوضات “جنيف 3” التي انطلقت في 29 يناير/ كانون ثاني 2016، بسبب استمرار القصف الروسي، ومحاولة النظام وحلفائه استثمار المفاوضات غطاءً لتحقيق نتائج على الأرض، تمكّن الروس والأميركيون في 11 فبراير/ شباط 2016 من التوصل إلى اتفاقٍ لوقف “العمليات العدائية” في سورية، على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، بدأ تنفيذه في 27 فبراير/ شباط 2016، بعد تذليل آخر العقبات أمامه في اتصال هاتفي بين الرئيسين، بوتين وأوباما، في 22 فبراير/ شباط 2016.

وعلى الرغم من الخروق الكبيرة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، ظل الروس والأميركيون متمسكين باتفاق وقف إطلاق النار، بل صار الأميركيون يصرّون على هذا الاتفاق أكثر من أيّ وقت مضى، بعد أن تبينت لهم فوائده لإستراتيجيتهم الخاصة بالقضاء على داعش، وذلك على الرغم من معارضة النظام السوري الذي أراد، مع حصوله على شحنة قوّة بعد التدخل الروسي، أن يواصل القتال، كما قال رئيسه، حتى يستعيد كلّ الأراضي التي فقدها. وعلى الرغم من تحفّظ المعارضة التي وجدت أنّ وقف العمليات القتالية، قبل انطلاق المرحلة الانتقالية، يُضعف موقفَها ويُفقدها أدوات الضغط التي يمكن أن تدفع النظام إلى تقديم تنازلات.

تمثّل موقف الولايات المتحدة من الهدنة بأنها تفسح المجال أمام وقف القتال بين النظام والمعارضة، وتوجّه جهد الطرفين نحو القضاء على تنظيم الدولة، بمعزل عن المسار السياسي،

“ليس من الممكن تخيّل الأسد، أو أيّ ديكتاتور آخر يسيطر بالقوة والولاءات غير الوطنية على أنواعها” وعن إمكان تحقيق تقدّم في مفاوضات جنيف لحلّ الأزمة السورية. فخلال الأسابيع الستة الماضية من الهدنة، تمكّنت قوات النظام التي سعت، مع حلفائها، إلى تحقيق انتصاراتٍ ذات قيمة معنوية تساعد على تأهيل رأس النظام السوري، وتحويله من قاتلٍ لشعبه إلى خصمٍ عنيد لتنظيم الدولة، وحليف في إطار الحرب على هذا التنظيم لاجتثاثه، من نقل جزء كبير من قواتها من الجبهات التي كانت تواجه فيها المعارضة المسلّحة، والحشد لاستعادة مدينة تدمر ذات الأهمية التاريخية والحضارية الكبيرة، كما تمكّنت قوات النظام من استعادة مدينة القريتين التي تقع على مسافة تبعد نحو 85 كيلومتراً في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة حمص. وقد شكّلت استعادة المدينتين ضربةً كبيرةً لتنظيم الدولة لاحتوائهما ثروات باطنيةً مهمّةً، فضلاً عن أنهما تشكلان معبراً مهمّاً بين معاقل التنظيم في شرق سورية (دير الزور) وشمالها الشرقي (الرقة) من جهة، وقواعده في منطقة القلمون جنوب غرب البلاد، من جهة أخرى. أمّا قوات المعارضة، فقد تمكّنت، بدعم تركي، من إلحاق بعض الهزائم بتنظيم الدولة في شمال شرق حلب؛ إذ استعادت قرية الراعي الإستراتيجية على الحدود مع تركيا، إلى جانب قرىً أخرى، قبل أن تفقدها مرّةً أخرى. وفي الوقت نفسه، كانت فصائل المعارضة في الجنوب تخوض معارك طاحنةً ضدّ فصيلين صغيرين قريبين من تنظيم الدولة في المناطق الواقعة بين درعا والقنيطرة؛ هما لواء شهداء اليرموك وحركة المثنى الإسلامية.

وهكذا بدت الإستراتيجية الأميركية كأنها تُحقق نتائج إيجابية على الأرض، في ضوء توقّف القوات الجوية الروسية عن استهداف فصائل المعارضة المسلّحة، وتركيزٍ أكثر لقوات النظام في مواجهة تنظيم الدولة. وقد دعت هذه النتائج كيري إلى زيارة موسكو للمرة الثانية خلال شهر، لتثبيت الهدنة الهشة بين النظام والمعارضة.

خلاصة

ليس من الممكن تخيّل الأسد، أو أيّ ديكتاتور آخر يسيطر بالقوة والولاءات غير الوطنية على أنواعها، رئيساً فخريّاً بلا صلاحيات، كما أنه يصعب تحريك المرحلة الانتقالية إلى الأمام، ما دام يحتفظ بصلاحياته؛ ذلك أنّ هذا الأمر يقتضي مغادرته. هذا فضلاً عن القضية الأخلاقية المتعلقة بالجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها ونظامه.

لا حلّ سياسيًّا في سورية، ولا استقرار فيها مادام بشار الأسد موجودًا في الحكم بأيّ صيغة كانتْ؛ لأنّ بقاءه واستمراره يعنيان أنّ سبب الأزمة مازال موجودًا، ومن ثمّ سيجد السوريون مبررًا قويًّا لمواصلة القتال حتى يغيب الأسد، أو يجري تغييبه، ولا شكّ في أنّ استمرار الأزمة واستمرار الاقتتال بين السوريين يعنيان أنّ تنظيم الدولة (أو ما يشبهه) لن يجد متسعاً للبقاء فحسب، بل للتمدد أيضاً.

العربي الجديد

 

 

 

 

سَعي روسيا الى دَور جيو – استراتيجي عالمي/ فيودور لوكيانوف

سار التدخل الروسي في سورية على ما ارتُجي منه قبل ستة أشهر، أي لدى بدء التدخّل. وأبرز الأهداف الروسية المعلنة، محاربة الإرهاب. لكن الرؤية الروسية لمحاربة الإرهاب تتباين مع الرؤية الأميركية. وترى موسكو أن لا غنى عن تعزيز قوة الدولة السورية. فهي الجهة «الوحيدة» القادرة على وقف تقدّم «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة. وأفلحت الحملة الروسية في إنقاذ النظام السوري وتعزيز قدرات جيشه، وغيّرت موازين القوى في ميدان المعارك.

وسعت موسكو الى تغيير إطار علاقاتها بالغرب من طريق التدخل في الشرق الأوسط. فقبل ستة أشهر، كانت أوكرانيا مدار العلاقات الروسية – الغربية. واليوم، تعاظم هامش مناورة روسيا التي لم تسع في أوكرانيا الى أكثر مما حصلت عليه: اتفاق مينسك الذي رمى الى بلوغ حل. وعلى رغم مكانتها البارزة في الحسابات الروسية والأوروبية، ليست الأزمة الأوكرانية سوى أزمة ثانوية وفرعية على الصعيد الدولي. وخلافاً لذلك، الأزمة السورية محورية وبارزة. لذا، التدخل الروسي في سورية هو السبيل الى استعادة مكانة بارزة في العلاقات الدولية. ورمت روسيا الى اختبار قدراتها العسكرية واستعراضها.

كان تدخل أميركا في العراق كارثياً، ونجم عن انسحابها بروز «داعش». وفي أفغانستان، كان التدخل الأميركي أنجح. فعدد القوات الأميركية المرابطة هناك كان وازناً وساهم في الاستقرار. وفي سورية، لم تنسحب روسيا من القاعدة العسكرية البحرية (في طرطوس)، وعززت قدراتها، وقلّصت العتاد في القاعدة الجوية الجديدة (في اللاذقية). ومع الوقت، نرى ما ستؤول إليه الأمور.

ولا شك في أن كييف تمر في أزمة سياسية عميقة. لذا، تتعثر في التزام اتفاقات مينسك. وإذا لم تف التزاماتها – وهذا ما يرجح – اضطرت موسكو الى دحض المزاعم بأنها المسؤولة عن العرقلة. ويرى الغرب أن روسيا تعرقل دوران عجلة اتفاقات مينسك، على رغم أن الديبلوماسيين الغربيين يوجهون سهام النقد الى كييف وراء الأبواب الموصدة، لكنهم في العلن يعفونها من المسؤولية. ولا يصبّ تحول أزمة الدونباس الى نزاع مجمد في مصلحة روسيا. وتعصى إدارة مثل هذا النزاع في منطقة مترامية الأطراف من غير التعاون بين أوكرانيا وروسيا التي تعود إليها الكلمة الفصل في أعمال الانفصاليين، وهي تسيطر عليهم، في وقت يبدو أن خطوات كييف غير متوقعة. وإذا لم يرغب الأوكرانيون في تجميد النزاع، لن يجمد.

وفي عام 2012، كان العالم أكثر استقراراً. وكانت روسيا واحدة من حلقات القوى الكبرى في العالم. لكن أحوال اليوم مختلفة. وتفاقم التوتر بين أوروبا وروسيا حول أوكرانيا منذ منتصف مطلع الألفية الثالثة. لكن الى 2013، تظاهر الاتحاد الأوروبي وروسيا بأن العلاقات بينهما على خير ما يرام، وإثر الأزمة الأوكرانية، برز التوتر بينهما. واستنفد نموذج العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وبدأ فصل جديد من العلاقات الدولية. ومكانة روسيا في النظام العالمي ملتبسة، وقبل 3 سنوات، كان ثمة إجماع على أنها جزء من أوروبا الكبرى. لكن اليوم، تبدّد الإجماع، وينظر إلى روسيا على أنها قوة يعتد بها، إثر الحملة العسكرية في سورية. فالقدرة على توسّل القوة، امتياز لا يستخف به.

ويرى الروس أن استخدام القوة يحول دون الاستخفاف ببلدهم. وهذه رؤيتهم التقليدية للقوة «الصلبة». وبوتين هو مرآة الثقافة الروسية ونتاجها. وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، دار النقاش الروسي على مسألة: ترجيح كفة القوة أم كفة القوة الناعمة؟ ولطالما انتقد الغرب افتقار روسيا الى مثل هذه القوة، وهي تعوّض عن نقصها باللجوء الى القوة. وثمة فائدة ترتجى من هذا النهج.

والنموذج الاقتصادي الروسي ضعيف، في وقت تقدم موسكو نفسها على أنها قوة وازنة. فروسيا تحث الخطى لبسط نفوذها السياسي والعسكري والجغرافي، لكن سياستها الاقتصادية مصابة بالشلل. وهذا فشل رهيب. وثمة تناقض في الجمع بين اقتصاد مصاب بالشلل والقوة الجغرافية السياسية. ويبدو أن عجلة الاقتصاد متوقّفة، سواء كان الحل الاقتصادي ليبرالياً أو مناوئاً لليبرالية. وهذا أمر غريب، ويشير الى مشكلات كبيرة في إدارة البلاد. وغياب السياسة الاقتصادية ترتب على النظام الاجتماعي – الاقتصادي الذي برز (بعد الحرب الباردة). وتوتر علاقات روسيا بألمانيا يعود، في شطر منه، الى مواقف موسكو، والى تخبّط برلين في مرحلة عسيرة على وقع أزمات. ومن أزمة اليورو الى أزمة أوكرانيا وصولاً الى أزمة اللاجئين، تؤدي ألمانيا دوراً راجحاً. لكنها لا تُقبل عليه وتتلكأ. ووجّهت برلين دفّة هذه الأزمات على أحسن وجه الى نهاية 2015، لكن الوضع اليوم أكثر تعقيداً. ويبدو أن تحريك عجلة نظام دار منذ نحو نصف قرن، متعذّر وعسير.

وليست استدارة روسيا الى الشرق مناوئة للغرب أو بديلاً من العلاقات معه. وهذه السياسة (الاستدارة) لن يكتب لها النجاح إذا لم ترسخ بما يقتضي التأنّي في إرساء علاقات وطيدة (مع الصين). والاستدارة مردها الى سعي روسيا الى الموازنة بين أجزائها الداخلية: فثلاثة أرباع أراضيها في آسيا وثلاثة أرباع سكانها يعيشون في الجزء الأوروبي منها. ومنذ نهاية الحرب الباردة، كان شاغلها الجزء الغربي منها. لكن الأمور لن تبقى على حالها، ويجب أن تتغير. والانعطاف الى الشرق هو سيرورة «طبيعية». فآسيا محورية في القرن الواحد والعشرين.

وتوسيع الناتو خلّف آثاراً سلبية في روسيا. ولكن، لم يكن ثمة مفر من التوسع هذا. فحين تنحسر قوة ما، تتربع محلها قوة أخرى: والدائرة الجيو – سياسية تلفظ الفراغ وتخشاه. الاتحاد السوفياتي خسر الحرب الباردة، وترتب على ذلك تقدُّم الـ «ناتو»، حيث أفل (الاتحاد السوفياتي). وأول موجة توسع «أطلسي» برزت في شباط (فبراير) 1999، في بولندا وتشيخيا وهنغاريا. وفي آذار (مارس) 1999، شن الـ «ناتو» حملته العسكرية الأولى ضد دولة ذات سيادة، هي يوغوسلافيا. ومذذاك، لم يعد حلف شمال الأطلسي قوة حماية شاغلها الديموقراطية والازدهار، وصار حلفاً يتدخل عسكرياً في الجوار الروسي.

بوتين لم ينسَ هذا التغير في دور الـ «ناتو». وفي أول مقالة نشرها في 30 كانون الأول (ديسمبر) 1999، بعنوان «روسيا على مشارف الألفية (الثالثة)»، عشية تعيينه رئيساً موقتاً، كتب: «للمرة الأولى في تاريخها، تواجه روسيا خطر التقهقر الى المرتبة الثانية أو الثالثة في سلم قوى السياسة الخارجية. ويجب وقف الانزلاق». وهذا ما فعله بوتين. وفي هذا المقال، يدور كلامه على الاقتصاد. فيومها كانت حال الاقتصاد بالغة السوء. ثم انشغل بالشؤون العسكرية والجغرافيا السياسية. لكن شاغله الهوسي مذذاك هو إحياء العظمة الروسية.

* رئيس تحرير مجلة «راشا ان غلوبل أفـــيرز»، رئيـــس المجلس الروسي للــشؤون الخارجية والدفاعية، عن «لوموند» الفرنسية، 3-4/4/2016، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

سورية بوتين ترث سورية الأسد/ أنيس الوهيبي

يتجه المفاوضون السوريون إلى جنيف، لعقد جولة جديدة من محادثاتٍ ستدخل في “المسألة الجوهرية”، الانتقال السياسي. وفي حين يستعد هؤلاء المفاوضون للمناقشة حول المرحلة الانتقالية، شروطها ومواقيتها، فإن فهم الإطار الذي تتم فيه العملية التفاوضية قد يساهم في التنبؤ بنتائجها.

سجلت أول مظاهرة خرجت في دمشق بداية النهاية لسورية، التي بناها حافظ الأسد. وطوال السنوات الماضية، قاوم بشار الأسد، وحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فما استطاع. استعان بالإيرانيين، علهم يستطيعون. تمكنوا فترة قصيرة. اتضح أن طهران عازمة على تجاوز سورية الأسد، وإطلاق سوريتها الخاصة، “المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين”، لكنها فشلت، فجاء الروس.

وبعد الضغط الشديد والمكثف الذي مارسته القوات الروسية في شهري ديسمبر ويناير/ كانون الأول وكانون الثاني الماضيين، على الثوار، اضطرت المعارضة السورية ممثلةً بـ “الهيئة العليا للمفاوضات” إلى الجولة الأولى من محادثات جنيف، من دون أية ضمانات حقيقية لمناقشة العملية الانتقالية. في المقابل، ومع نشوة النظام بإنجازاته العسكرية، وشعوره بإمكانية دحر الثوار، تحت الغطاء الاستراتيجي الروسي، عاد لا يعترف بأن ما يجري في سورية أزمة داخلية، بل بات أكثر إصراراً على تصويرها حرباً خارجية، تدار من العواصم الإقليمية والغربية بأدواتٍ “إرهابية” على الأرض السورية. لم ترضَ موسكو عن هذه القراءة. سارع الروس إلى فرض الهدنة على النظام. ولاحقاً، سحبوا الجزء الأساسي من قواتهم في سورية.

فهم وفد النظام الموجود في جنيف، حينها، أن الجولة الثانية من المحادثات (انعقدت في الثلث الأخير من شهر مارس/ آذار الماضي)، ستكون جدية. برز ذلك من، إضافة إلى بدء الانسحاب الروسي الجزئي، الأجواء في عاصمة المنظمات الدولية، ازدياد مستوى التنسيق الروسي الأميركي، وارتقاء مستوى الاتصال مع الوفد من وزارة الخارجية إلى القصر الجمهوري. مع ذلك، كان الوفد بحاجة ماسة إلى التعليمات المناسبة. وما كان في وسع رئيسه، بشار الجعفري، إلا المماطلة.

الآن، وبعد توافق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري،

“بات مؤكداً أن سورية ستشهد عملية انتقالية حقيقية للغاية، لكنها مختلفة عما يتوقعه كلا الجانبين، أو يريده” أصبحت مناقشة المرحلة الانتقالية في مفاوضات جنيف على الأبواب. لكن الانتقال من ماذا إلى ماذا؟ بحسب بشار الأسد، يكون الانتقال من دستور إلى دستور، ومن حكومة إلى حكومة. أما المعارضة فتريده انتقالاً من الاستبداد والديكتاتورية إلى الديمقراطية. وبغض النظر عن مواقف الطرفين، بات مؤكداً أن سورية ستشهد عملية انتقالية حقيقية للغاية، لكنها مختلفة عما يتوقعه كلا الجانبين، أو يريده. فانزلاق سورية، والتي ضعفت، إلى حد بعيد، بعد الحرب التي شهدتها خمس سنوات، إلى دائرة النفوذ الروسي لن يكتمل، من دون أن تشهد هذه الدولة تغييراً يتناسب مع الوضع الجديد. وبالفعل، ظهرت بعض معالم التغيير. بات في سورية اليوم مركزا قوة: القصر الجمهوري (بشار الأسد)، والقاعدة الجوية الروسية في قرية حميميم في محافظة اللاذقية. تحولت حميميم إلى ما يشبه قرية عنجر اللبنانية، التي ركز فيها ضباط المخابرات السوريون مقرّهم خلال عهد الوصاية السورية على لبنان.

نظم الوجود السوري في لبنان بموجب اتفاق الطائف ومعاهدة الأخوة السورية اللبنانية. نظَّر حافظ الأسد لوجود سورية العسكري في لبنان، بمصطلحين سكّهما بنفسه، “العلاقات المميزة” و”وحدة المسار والمصير”. أيضاً، ستنظم العلاقات الروسية السورية المستقبلية المعاهدة التي وقعها بشار الأسد مع الروس، قبل إطلاق عمليتهم الحربية في سورية. وإلى المعاهدة التي سيشترط على أي حكم سوري جديد المصادقة عليها، هناك شيء ما فتئ يتبلور في روسيا، هو العلاقة الخاصة بين روسيا وسورية والمصير المشترك!

بعد إقرار اتفاق الطائف، نسج ضباط المخابرات السوريون من عنجر، المنبسطة في وادي البقاع اللبناني، خيوطاً تحكّموا من خلالها باللعبة اللبنانية. واليوم، يعمل الضباط الروس (العسكريون حتى الآن) من حميميم على مد نفوذهم في مختلف المناطق السورية، سواء الواقعة تحت سيطرة المعارضة أو تنظيم الدولة الإسلامية، أو حتى النظام. يعقدون المصالحات والهدن. يركّزون بشكل كبير على إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وإرساء آلية للتعاون العسكري المستقبلي مع الثوار. لكنهم لا يكتفون. يستقبلون شخصياتٍ سياسية، شيوخ عشائر، ضباط النظام، أعيان الطوائف والمذاهب. كما يعملون على استمزاج الآراء بشأن الشكل المناسب للدولة السورية، ونظامها السياسي المقبل.

بشكل أو بآخر، ينفذ هؤلاء الضباط مهام أجهزة المخابرات السورية؛ فمنذ أيام المكتب الثاني (جهاز أمني شهير ترأسه قبل الوحدة المصرية السورية أسطورة المخابرات السورية، عبد الحميد السراج) أدار ضباط المخابرات المجتمع السوري. من الطبيعي، أن علاقات تنسيق قوية ستنشأ بين الضباط الروس ونظرائهم السوريين، على غرار التي سبق ونشأت إبّان الوجود السوري في لبنان، بين أجهزة المخابرات السورية والأجهزة الأمنية اللبنانية. تلك العلاقات الراسخة دفعت المعارضة اللبنانية إلى الحديث عن وحدة تلك الأجهزة، وصك مصطلح جديد لوصفها “الجهاز الأمني اللبناني السوري المشترك”.

لن يكون لأي مسؤول سوري، مهما علا منصبه، سيطرة تذكر على الأجهزة الأمنية التي ستخضع لاعتبارات التنسيق المشترك مع قاعدة حميميم. الجيش “المتعب والمنهك” سيكون أيضاً خاضعاً لتوجهات المستشارين الروس الذين أزاحوا، أخيراً، نظراءهم الإيرانيين. يعتزم الروس جمع سلاح المليشيات المسلحة، بما في ذلك المؤيدة للنظام، وحصر السلاح في سورية بالجيش المعاد بناؤه وهيكلته. العلاقات الدولية للدولة السورية ستحدد في الكرملين، وكذلك توجهاتها الخارجية وسياساتها الإقليمية. وفي هذا المجال، عقد فلاديمير بوتين سلسلة من الاتفاقات المتعلقة بسورية، منذ قرّر التدخل العسكري لصالح النظام، كاتفاق عدم التصادم أو إنشاء خط ساخن بين قاعدة حميميم وقيادة القوات الجوية الروسية، ولا يبدو أن الرئيس الروسي بصدد التوقف في المستقبل.

وإذا كانت شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية لسورية ستقرّر في الكرملين، فما هو شكل الانتقال الذي ستشهده البلاد، وسيتم التفاوض عليه راهناً في جنيف؟ بحسب الروس، إنه الانتقال من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي الطوائفي المضبوط روسياً. تشهد على ذلك بنود اتفاق فيينا التي تؤكد على “الطابع اللاطائفي” للدولة والحكم المقبل. لكن، مع التشديد على الحصة الوازنة للأقليات في الدولة، الجيش والأمن! نظام برأسين، مع تأكيدٍ على دور البرلمان والحكومة وتقليص صلاحيات الرئيس. وبغض النظر عن التلويح الروسي بورقة الفيدرالية، للضغط على أنقرة، فإن موسكو تؤيد حكماً فضفاضاً ولا مركزياً في سورية، ربما كان شبيهاً بما كان عليه في فترة الحكم الوطني (1946 – 1958). على الأرجح، سيتوصل المفاوضون السوريين إلى نتيجةٍ قريبةٍ من هذا الحكم بالذات.

يوحي النظام المقبل بأن بشار الأسد لم ينجح في دفع كأس التغيير عن نفسه. رفض أي شكل من التنازل عن صلاحياته، أو المساس بهيمنته المطلقة على الجيش، والأجهزة الأمنية، والحكومة، بل ومجمل الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. في المقابل، لا يشير هذا النظام إلى انتصار الثورة وقيمها؛ فالسوريون الذين ثاروا ضد تسلط الأجهزة الأمنية (المخابرات) وجبروتها سيجدون أنها ستبقى قائمة. عزاؤهم الوحيد أنها قد تتوارى قليلاً عن الأنظار، من دون أن يختفي تدخلها السابق بشؤونهم. أما الجيش ومؤسسات الدولة عامةً فإنها جميعاً ستبقى مكاناً للتمييز الطائفي، جرّاء إصرار روسيا على حقوق الأقليات. مع ذلك، رؤية موسكو ضرورة إنشاء حلف بين الجيش النظامي والثوار لقتال داعش، وعزمها هيكلة الجيش، يوحيان بوجود رغبة روسية في تصحيح الحالة غير السليمة لجيشٍ بناه النظام مؤسسة “عقائدية”، مهمتها الأساسية حماية الرئيس، إلى جيش يتمتع بشيء من التأييد الوطني. ووفق المعطيات الراهنة، لا يبدو أن الروس موافقون على محاسبة مسؤولي النظام عن الجرائم، التي ارتكبوها بحق المدنيين السوريين في السنوات الخمس الماضية.

تشي هذه التحولات التي ستحدث في العامين المقبلين بأن البلاد مقبلة على عملية انتقالٍ لا رجعة عنها، وبأن “سورية الأسد” زالت من الوجود، لتحلّ مكانها “سورية بوتين”.

العربي الجديد

 

 

 

دستور سوري جديد كتبه لافروف؟/ راجح الخوري

تفيد تقارير ديبلوماسية عليا ان جون كيري فوجئ خلال زيارته الأخيرة لموسكو عندما قدم له سيرغي لافروف مسودة دستور سوري جديد، وطلب منه درسه وإبداء الملاحظات عليه، تمهيداً للتوصل الى مسودة مشتركة تقوم كل من موسكو وواشنطن بتسويقها لدى حلفائهما!

هذه المعلومات ظلّت موضع شكوك وتساؤلات، الى ان جاءت تصريحات لافروف أول من أمس لتؤكّدها عندما أعلن في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيرته الأرجنتينية سوزانا مالكورا انه “من المتوقع ان يتفق الأطراف السوريون المتفاوضون في جنيف على مسودة دستور جديد، وان ذلك الدستور سيُعتمد كأساس للإنتقال الى النظام الجديد، على ان يتم تنظيم إنتخابات جديدة مبكرة”!

من الضروري الإنتباه الى ان هذا الكلام جاء وقت كان بشار الاسد يجري أول من أمس انتخابات نيابية، اعتُبرت مسخرة المساخر في نظر المعارضة والأمم المتحدة وعدد كبير من الدول، بما يعني إنها لن تلبث ان تفقد معناها الدستوري والتمثيلي، وخصوصاً بعدما تحدث لافروف صراحة عن انتخابات مبكرة، بما يعني ان الإنتخابات التي اجراها الاسد مجرد إجراء مرحلي هدفه عدم السماح بحصول فراغ في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

أكثر من مسخرة المساخر، ان تكون مسودة الدستور السوري الجديد كتبت في روسيا وان “الشركاء” الأميركيين تسلموا نسخة عنها لإبداء الملاحظات تمهيداً لتسويقها لدى حلفائهم، ولا يهمنا هنا ماذا سيكون رأي الاسد الذي لن يقدم او يؤخّر، بل ماذا سيكون رأي الإيرانيين الغارقين في الوحول السورية، إلا اذا كان الأمر سيوفّر لهم حجة للخروج من المأزق المتزايد الذي يواجههم!

ما هو أكثر من المسخرة ان يواصل فلاديمير بوتين والجوقة السياسية سواء في موسكو أو في طهران الحديث عن حق الشعب السوري في تقرير مصيره، في حين يقوم الروس بكتابة مسودة دستوره الجديد نيابة عنه ويتولى الأميركيون وضع الملاحظات عليها تمهيداً لتسويقها والأصدق لفرضها على السوريين.

في هذا السياق لست أدري ما الفرق بين بشار الأسد عندما يجري انتخابات المسخرة، ولافروف الذي يكتب دستور المسخرة وكل ذلك بإسم الشعب السوري ونيابة عنه، وقت بات أكثر من نصف الشعب السوري إما في القبور وإما في اللجوء.

الشعب السوري هو الذي يقرر مصيره وهو صاحب الحق الوحيد في هذا الشأن، صحيح تماماً ولكن أين هو الشعب السوري اليوم، مليونان ونصف مليون في تركيا، ومليونان في لبنان، و٨٠٠ ألف في الاردن، وأكثر من أربعة ملايين في التيه داخل سوريا، والاسد يجري انتخابات نيابة عن الشعب ولافروف يكتب الدستور لهذا الشعب… ويحدثونك حرام عن حق السوريين في تقرير مصيرهم!

النهار

 

 

الخطة ب” ضد روسيا/ سميح صعب

بدأت الولايات المتحدة ردها على قلب روسيا التوازن العسكري في سوريا الذي ترسخ باستعادة الجيش السوري تدمر والقريتين، وما الهجوم الذي بدأته “جبهة النصرة” وفصائل اسلامية “معتدلة” على ريف حلب الجنوبي سوى البداية لعكس المسار الذي بدأ مع التدخل الجوي الروسي في 30 أيلول.

ومن الواضح ان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي بسحب الجزء الاساسي من القوات الروسية في سوريا، لم يقنع واشنطن بأن موسكو خففت تأثيرها العسكري على مجريات الحرب في هذا البلد، ذلك أن استعادة تدمر أثبتت أنه لا يزال في امكان روسيا ان تشكل دعامة أساسية للجيش السوري وأن الحديث عن اعتزام الدولة السورية المضي من تدمر الى دير الزور أو الرقة، جعل أميركا تسارع الى وضع ما أطلق عليه وزير خارجيتها جون كيري “الخطة ب” موضع التنفيذ. وهذا ما كشفته صحيفة “الوول ستريت جورنال” الاسبوع الماضي نقلاً عن مسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إي” تحدثوا عن تدريب الوكالة مقاتلين من المعارضة السورية وتجهيزهم بأسلحة متطورة بهدف البدء بمرحلة جديدة من القتال ضد النظام السوري في حال انتهاك التهدئة المتفق عليها مع روسيا وانهيار مفاوضات السلام.

لكن ما فات الصحيفة أن “الخطة ب” بدأت فعلاً منذ دخول الجيش السوري تدمر وايجاده واقعاً ميدانياً مختلفاً لا يتماشى مع ما تطرحه الولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا وجزء من المعارضة السورية كحد أدنى للعملية السياسية الجارية في جنيف ألا وهو تأليف هيئة حكم انتقالي في سوريا ذات صلاحيات كاملة من دون الرئيس بشار الاسد.

إن استمرار الواقع الميداني السوري على النحو الذي كان سائداً بعد تحرير تدمر كان من شأنه ان يجعل مطلب رحيل الاسد ضربا من الوهم السياسي الذي لا يجد أرضية واقعية يستند إليها، لذا كان لا بد للرئيس الاميركي باراك أوباما الذي يستعد للقاء زعماء مجلس التعاون الخليجي في الرياض الاسبوع المقبل، أن يحمل معه واقعاً مختلفاً في الميدان السوري وان يكرر التشديد أمام زعماء الخليج أن لا مكان للاسد في مستقبل سوريا.

هذا يفسر كثيراً من مجريات الميدان السوري اليوم الذي يشهد مرحلة من التصعيد العسكري للمعارضة المسلحة بقيادة “جبهة النصرة” التي قد تضطر أميركا من باب الواقعية السياسية الى إسقاطها في المرحلة المقبلة من قائمة التنظيمات الارهابية كي يسهل التعامل معها.

قال أوباما قبل أيام في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأميركية إن ليبيا كانت أسوأ خيار في سياسته الخارجية بسبب الفوضى التي تلت سقوط معمر القذافي. ماذا سيقول أوباما عن سوريا لاحقاً؟

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى