صفحات المستقبل

“الدولة الباقية” بصرياً: ذرّ الغبار وإرهابه/ روجيه عوطة

 

 

في حين كانت الصورة، التي التقطها السوريون ونشروها بعد اندلاع ثورتهم، مغبشة، ظهرت صورة أخرى، سمتها الأساس أنها صافية، لا يشوبها صدع أو خدش، بسبب إنتاجها بتقنيات حديثة، واعتماد المونتاج في تأليفها، كأنها رسمية، وخارجة من مؤسسة إعلامية إلى عين المُشاهد. أما الوسيط بين الطرفين فهو الشبكة العنكبوتية، وموقع “يوتيوب” تحديداً. لقد واظبت “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة بـ”داعش”، على بث هذه الصورة الجلية عنها، وعن عملياتها، مستهدفة بها الأعداء والمؤيدين، ومحركةً إياها بهدف غالب، أي الدعوة إلى الجهاد في كل مكان.

والحق أن بيان الشكل البصري، ووضوحه، على علاقة مباشرة بمضامين الصورة، التي لولا التعليق الإديولوجي فيها، لتركزت على أرضية مبنسطة، شبه صحراوية، حيث تدور المعارك، أو ينزل العقاب. إلا أن الخُطب الداعشية، وكلام مقاتليها، تقوي الصورة بردّها إلى الخرافة، التي تبدو مغبشة بطريقة أخرى، ذلك، أن الغبار يطغى على زواياها، ويغيرها إلى “أرض” مرصوصة بعصب الدم، والتشبث بـ”البقاء”، فالصورة “باقية”، لأنها “أرض الجهاد”.

إذاً، يحل الغبار فوق الصورة الداعشية، وليس فيها، كأنه هواء الخرافة الدينية، أو لنقل رملها. على عكس الصورة السورية، التي كان الغبش واحداً من عناصرها، لا سيما أنها تخلخل الواقع النظامي، وتهزه بنقله البصري. فلبصرية “الدولة” غاية أخرى، لا تتعلق بالخلخلة أو الهز، بل بالحجب واللف، أي أنها تستر الواقع، وتلفه بمشهد تاريخي من جهة، وبآخر حالي. هذا، ما تشير إليه بعض فيديواتها، التي تربط بين الصورة الخلفية، الظاهرة بأحصنتها وصحرائها وسيوفها، والصورة الأمامية، البادية بسياراتها وطرقاتها الإسفلتية وأسلحتها الجديدة. والصلة بين الإثنتين هو الغبار، الذي يلازمهما كوجه شبه بين الماضي والحاضر، وبين تفرق المسلمين وتوحيدهم تحت سلطة واحدة.

تالياً، تستقر وظيفة “الدولة” البصرية في ذرّ الغبار، أو رمل الخرافة، من السردية الدينية إلى سرديات الحرب ضد “الكفار والمجوس والصليبيين” في سوريا والعراق، فتخفي الواقع بذرذرة الخطاب فوقه، ساعية إلى تجميده، والتحكم به أكثر فأكثر. وذلك، من خلال فعلين من أفعال العنف، أولهما، قتل الأعداء، وثانيهما، الخطبة المهددة لهم. فتربط الصورة بين الإغتيال والكلام كأنهما فعل واحد، فالذبح في المشهد هو نفسه في الخطبة، والتشابه نفسه، بالنسبة إلى إطلاق الرصاص. إذ أن “داعش” تطابق بين خطابها وصورتها بالعنف الطافح، كما أنها، وهذا أكثر ما يلفت في فيديواتها، تماثل بين التصوير المسرب، والآخر الرسمي، أي الصادر عن ماكينتها الإعلامية، فلا يمكن “فضحها” بفيديو مسرب أو ملتقط خلسةً، لأنها لا تخفي ارتكاباتها، بل تجاهر بها، وتدعو إليها على لسان كل مقاتل من مقاتليها.

بمعنى آخر، تمسك “الدولة” بالمُسرب وبالرسمي، تساوي بينهما، مانعةً “الأعداء” من الكشف عن عنفها، لأنها تسبقهم إلى هذا الفعل، فلا فرق بين هذا الفيديو، الذي يهدف ناشروه إلى تسريب إعدام “داعش” لمجموعة من الناس، وهذا الفيديو الشهير، الذي تهدف به “الدولة” إلى نشر عقابها للـ”كفار”، بعدما سألتهم عن عدد ركعات الصلاة. وعليه، فالتسريب هو نفسه النشر “الداعشي”. الفارق الوحيد بينهما متصل بنوع الصورة، فالتسريب مغبش، والنشر مغبر فعلياً، بسبب طبيعة المناطق السورية أو العراقية، أو رمزياً، نتيجة هبوب الخرافات في الفيديو، من دون أن يضعف ذلك من سينمائيته.

فـ”الدولة” تعتني بصورتها على أكمل وجه، مستعينةً بأفضل تقنيات التصوير والمونتاج، كي ترفع من جودة فيديواتها، التي تشبه أفلام الحركة وأحياناً، الخيال العلمي. وقد يكون الإعتناء البصري هذا مرده بروباغندي. لكنه، في الوقت نفسه، يدل على النزوع إلى المأسسة، الذي تتحرك وفقه “الدولة”، مظهرةً قوتها في نثر غبار الخرافة على الصورة، وتحويله إلى إرهاب منظم، ومن ثم تؤسس به صورة مجلوة، قد لا تُشاهد على أنها من إنتاج “داعش”، بل أنها مؤلفة في استديوهات واسعة، حيث المقاتلين بمثابة ممثلين، أدوارهم مكتوبة مسبقاً، وما عليهم سوى تأديتها بكل ما يمتلكون من قوة ساحقة، وموضوعها الآخرون.

تتدخل “الدولة” في كل مكان كأنه استديو خاص بخرافاتها، التي تحدثها تقنياً، وتخرجها بالعنف، ناشرةً إياها كتحذير موجه إلى “كفار”، أو إلى المؤيدين، الذين، على الأغلب، يعلنون الولاء للتنظيم من باب خوفهم على أنفسهم، أو على أن يكونوا “أعداء” أبي بكر البغدادي. في الخلاصة، أو ما يشبهها باختصار، تسلك “داعش” سبلاً حديثة لتظهير إرهابها المستند إلى خرافات كثيرة، فتربط بين القديم المغبر، والحديث الواضح في صورة واحدة لا شك أن القسوة هي بنيتها الأولية، كي تظل “الدولة باقية” رغم عيون المشاهدين، الذين تصنعهم بترهيبهم!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى