صفحات سوريةمصطفى اسماعيل

الدولة الجديدة في سوريا وكيف نراها!


مصطفى اسماعيل

منذ عقود تقف سوريا أمام سورٍ اسمنتي شاهق، تحولت فيها الدولة إلى مجرد سلطة احتكارية أممّت البلاد في أنساقِ مفاهيمها ورؤاها الضيقة والمُغلقة، وطرح هبوب الربيع العربي ضرورة تغيير الفضاءات الداخلية في المستويات كافة وإعادة الدولة المُغيّبة والمحجوبة، بما يعنيه من إنهاء الشمولية والتسلطية والأحادية الوخيمة التي صادرتْ سوريا طيلة عقود.

ما يجري الآن في سوريا هدفهُ بناءُ الدولة المُحطّمة مجدداً. إعادة تأسيسها. إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي. إعادة مونتاجٍ لبلادٍ أزهقت روحها، وإرجاعها بالتالي إلى خضم السيرورة التي اجتثت منها ذاتَ انقلابٍ من العسكر الذين حولوها إلى مجرّد ثكنة وقبو أمني، وإخضاعها بالتالي إلى ضروب العنف والظلم واضطهاد مكوناتها.

الدولة القادمة في سوريا هي الدولة المؤسسة على إرادة الجماعة، وليست دولة الحاكم الفرد المُؤلّه، ولكي يكون الكيان السياسي القادم دولة للمجموع السوري عليه تفكيك البنى القديمة، بنى الدولة الشمولية والاستعاضة عنها ببنى مستجدة تعبر عن الطموح الجماعي للسوريين، بما يليق بتضحياتهم الهائلة لأجل الحرية والديمقراطية طيلة أشهر مفتوحة على شتى الاحتمالات.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة إيلاء المواطن كل الأهمية واحترام حقوقه وكرامته، وهي دولة لا مكان فيها للأجهزة الأمنية المرعبة التي لا تحصى وتدخلاتها السافرة في حيوات المواطنين، وهي ستكون دولة حماية المواطن ورعاية مصالحه، لا دولة وصائية وعصا غليظة فوق رؤوس المواطنين، وهذا يقتضي تفكيك الدولة الأمنية الحالية وتقليم أظافرها وتجريدها من المخالب وإلباسها قفازاتٍ من حرير.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة التعبير الأمثل عن الفسيفسائية المُغتالة منذ تأسيس سوريا ومنذ استقلالها الوطني ومنذ انقلاب جنرالات البعث، حيث تم تحويل البلاد إلى خشبة مسرحٍ مونودرامي ليس عليها سوى ممثل واحد، فيما حُوِّلت القوميات والإثنيات الأخرى إلى كومبارسٍ مجرد من أي حركة أو فعل، ومن أجل ذلك يتوجب على المعارضة السورية التي سقط قناعها في اسطنبول يوم 27 مارس 2012 مغادرة سرير رفيقها البعثي.

الدولة القادمة في سوريا هي الدولة المحتفية بمؤسسات المجتمع المدني، كبديلٍ طبيعي ومُعادلٍ موضوعي لدولة مختزلة إلى سلطة لوياثان متغولة تديرها المخابرات، لم يُعثرْ فيها يوماً على حزبٍ سياسي حقيقي ولا جمعية خيرية حقيقية ولا مؤسسةٍ مدنية ولا نقابة حرة ولا إعلامٍ حر، وكان قصبُ السبقِ فيها دائماً لما يفرخهُ البعثُ، وما يجود به المطبخ الأمني من سقط متاعٍ تحت مسميات شتى، لقد نُحِرَتْ النقابات في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، وتم الحجرُ عليها ومصادرتها باسم الضرورة الأمنية والمقتضيات الأمنية، وحينَ أعاد ربيع دمشق قبل عقدٍ المُغيَّب المدني الجميل إلى الواجهةِ تعرض النشطاء ومؤسساتهم إلى التنكيل الأمني والبطش والردع والقمع.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة برلمانية، يكون فيها البرلمان منتخباً من خلال انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة وبمراقبة دولية، ولن يكون برلمانَ غنمٍ سعيد أو برلمانَ شخصياتٍ معينة لممارسة الشخير على مقاعده، ذلكم البرلمان سيمتلكُ صلاحياتٍ عديدة من بينها تشكيلُ وزارةٍ من الحزب الأكثر نيلاً للأصوات، وسيكون بيده الحلُّ والربطُ، وليس مجرد مؤسسة صورية أو مؤسسة إكسسوار لتجميل قباحات السلطة أو النظام الحاكم.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة خادمة، دولة تحقيق الرفاه لمواطنيها وتيسيرِ سُبل العيش لهم، دولة تُحاربُ الفسادَ وتكفلُ تأمين فرص العمل وبالتالي القضاء على البطالة المتفاقمة والمتفشية عبر عقود، ولن تكون الدولة القادمة ملكية حصرية لأقلية من رجال الأعمال يتحولون إلى بقراتٍ سمان على حساب غالبية عظمى من المواطنين ينحدرون إلى ما تحت خط الفقر.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة الإعلام الحر والمؤسسات الصحافية الحرة والمنابر الإعلامية الحرة، وأتمنى أن تكون خالية من مقص الرقيب وتدخلاته، وخالية أيضاً من وزارة لا مبرر لها اسمها (وزارة الإعلام) التي تحولت مخفورةً بقانون مطبوعاتٍ مهترئ إلى جهازٍ لمصادرة أية بذرة إعلامية تحاول أن تطل برأسها في البلاد.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة تمثيل الفسيفساء السوري، وتكفل الاعتراف الدستوري بالشعبين الكردي والآشوري وحقوقهم القومية في البلاد وفق العهود والمواثيق الدولية وعلى أساس اللامركزية السياسية، ولن تكون دولة القومية الواحدة أو اللون الواحد أو اللغة الواحدة، وفي حال عدم تحقق ذلك ستكون سوريا القادمة دولة فاقدة للشرعية وساقطة في نظر مواطنيها من جميع المكونات.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة الفصل بين الدين والدولة، لن يكون فيها الإسلام هو مصدر التشريع، ولن يرحب فيها بالتيارات السلفية والأفغان السوريين، وهذا يعني أن تحول سوريا إلى نموذج قندهاري أو ثيوقراطي غير مسموح به، فوضع سوريا لا يحتمل قيام دولة دينية أو دولة للإخوان المسلمين فيها.

الدولة القادمة في سوريا هي دولة مستقلة ذات سيادة، لن تنخرط في اتفاقيات أمنية مع جوارها على حساب مكوناتها، ولن تقبل التحول إلى شرطي لمصالح جوارها الجغرافي على حساب حياتها الوطنية.

الدولة القادمة في سوريا ستكون دولة لا تعاني من مشاكل في الحواس الخمس.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى