راتب شعبوصفحات سورية

الدولة القديمة والدول الجديدة في سورية/ راتب شعبو

 

 

يعيش أهالي المناطق الخاضعة للنظام السوري في ظل دولةٍ قديمة، أقصد موجودة سلفاً. دولة تعرّضت وتتعرض لخسائر كثيرة في السياسة والجغرافيا على مدى السنوات الخمس ونصف السنة المنصرمة، لكنها لا تزال صامدةً، وتبقى، بعد كل شيء، دولةً تمارس وظائفها المعهودة إلى جانب “وظيفة الحرب”. صحيح أنها ألحقت بقية الوظائف بهذه الوظيفة الطارئة، وصحيح أن الفساد ازداد، وأن التشبيح ازدهر، وأن سواد الموت طغى، لكن ذلك من طبيعة الأمور، تلك هي الحرب.

في المقابل، يعيش أهالي المناطق التي خرجت عن النظام في ظل “دول” جنينية، نشأت لتغطي انحسار وظيفة الدولة القديمة، فبرزت “دول” محلية أو جديدة، سرعان ما خضعت لبيئة نشوءٍ قاهرة وغير مؤاتية. كان النشاط المدني العام، في بداية انحسار الدولة القديمة، عمومياً ممتزجاً بفرحة الخلاص من السيطرة الأسدية، وبفرحة التجريب والتصدّي لتولي مسؤولياتٍ كبيرة. ولكن، تحت ظروف الحاجة للحماية الخارجية ضد الدولة القديمة، والصراعات البينية، والحاجة إلى الموارد، ونقص الخبرات ..إلخ، بدأت الدول المحلية هذه تتجه، كلما طال أمدها واشتد عودها، أكثر نحو نمط دولة استبداد ديني، بفعل تزايد سيطرة القوى الدينية على هذه المناطق، لما تتمتع به من إمكانات مادية وصلات خارجية.

جعلت هذه النشأة الدول المحلية هذه مقزومةً من ناحية علاقتها بالمجتمع المحلي، وطبعتها بالطابع العسكري الديني، على ما تشير تقارير تناولت ظاهرة المجالس المحلية وسياق سيطرة الإسلاميين عليها، مثل (أنماط الحكم المحلي في سورية بعد الثورة) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مايو/أيار 2016. فتحول انحسار الدولة القديمة من كونه تجربةً فريدةً لابتكار مؤسسات ذات شفافية وملاءمة، تُبنى بيد الناس المتحرّرين وتوقهم لإدارة شؤونهم، إلى فرض أنماط جاهزة وسطحية وغير ملائمة، تحمل من الاستبداد أبشعه. وكان هذا من الملامح الباكرة لنكوص الثورة.

طريقة القضم الجغرافي البطيء وتثبيت مناطق “محرّرة” والاضطرار لإدارتها، مع صمود الدولة القديمة، جعل الصراع في سورية يتخذ طابعاً جديداً، هو الصراع على الأرض وليس على الدولة، وهذا ما فتح المجال لحساب النصر بالمساحة الجغرافية، مع إهمال العنصر الحاسم، أقصد آلية الحكم. ففي المناطق “المحرّرة”، تم التراخي في موضوع العلاقة مع الجمهور لصالح الفاعلية العسكرية. تم التغاضي عن القمع والفساد، لكي لا يتم التشويش على “الجهاد”. وبذلك فتح باب للتعثر من وراء ظهر المعنيين، ومن دون انتباه السياسيين.

تحت غبار المعارك والقتل والدمار اليومي في سورية على مدى هذه السنوات، مرّرت الدولة القديمة نتيجةً لم تلفت الانتباه الذي تستحقه، وهي إفشال إمكانية بناء دولة بديلة ذات جاذبية سياسية، أو إفشال بناء مؤسسة دولةٍ ذات علاقة شفافة وجذابة مع محكوميها. فبضغط من ضرورات المواجهة، قبل سوريون كثيرون التنازل عن “كل شيء” تقريباً. بهذا، نجحت الدولة القديمة في أن تظهر أن “الجديد” كالقديم أو أسوأ.

هذا يعني أن السوريين، هنا وهناك، لم يعرفوا فعلاً طعم الحرية، وإن كانوا قد تذوّقوا في

“تمكّنت الدولة القديمة من أن تنقل استبدادها إلى “الدول” المحلية الوليدة” مناطق معينة فرحة عابرة، جرّاء هزيمة المستبد القديم ودحره، قبل أن يدركوا أن القوى الجديدة لا تقل ثقلاً واستبداداً. إن بروز بعض الاحتجاجات المدنية لأهالي المناطق “المحرّرة” ضد الأسياد الجدد (وهي احتجاجات قليلة على أية حال)، لا تجد تفسيرها في سعة صدر أو تساهل و”ديموقراطية” من جانب “الدولة الجديدة”، بل بحداثة عهدها بالأحرى، وقلة خبرة الناس بها.

وبعد كل شيء، لا تزال الدولة القديمة تتميز في أن مناطقها تحافظ على التنوع السوري، كما كان عليه الحال من قبل. صحيحٌ أنها تحافظ عليه في إطارٍ من التمييز والحكم الأمني الفاسد الرسمي وغير الرسمي (وبأشد مما كان عليه الحال دائماً)، لكنه تنوع موجود مثل واقع يتفوق على الواقع وحيد اللون في مناطق سيطرة “الدول الجديدة”، في فشل مبكّر للتيار الديموقراطي الوطني المعارض. وإذا كانت الدولة القديمة قد نزفت كل شرعيتها في نظر أهالي المناطق الخارجة، والتي باتت هدفاً مستمراً لطائراتها وأسلحتها الثقيلة، فإن هذه الدولة لا تزال تحافظ على قيمة معنوية في نظر قسم كبير من أهالي مناطق النظام مستمدة من مواجهة “الإسلاميين”.

هذه فرادة مستحقة للحالة السورية، الدولة القديمة تحوز شرعيةً فائقة لدى قطاع غير قليل من السوريين، على الرغم من أنها تهمل عملياً كل وظائف الدولة المعهودة، وتفشل في حماية أمن محكوميها ولقمة عيشهم، وذلك ليس لأنها تدافع عن الوطن ضد عدوٍّ خارجي، يريد احتلال الأرض، بل ضد حركة داخلية واسعة (وإن كانت مدعومة خارجياً)، تريد السلطة، أو المشاركة الجدية فيها.

إن خروج قطاع واسع من السوريين على الدولة القديمة خروجاً راح يتجذر أكثر فأكثر مع تكشف طبيعة هذه الدولة، باعتبارها جهازاً مسخراً للحفاظ على سلطة مؤبدة، جرى تعويضه بدخول قطاعاتٍ أخرى إلى دائرة الولاء الشديد للدولة نفسها، باعتبارها جدار الصد الوحيد ضد إسلاميين “فاشيين”، و”يشكلون أداة تدمير الدولة والوطن”.

الدولة التي تحولت إلى عدو في نظر نسبةٍ كبيرة من الشعب السوري، تحولت إلى خشبة خلاص لنسبة كبيرة أخرى. حتى باتت الجذرية السياسية لطرفٍ تغذي جذريةً مضادّة لدى الطرف الآخر. والعنف المفرط لطرفٍ يغذي عنفاً مضاداً، ما يغذي بدوره كل صنوف اللاعقلانية والانحطاط السياسي والأخلاقي، حتى انتهى الأمر فعلياً إلى قتل الضمير الوطني الذي هو الخلفية المعنوية المشتركة للتجمعات السياسية أو للدول الحديثة.

على هذا المستوى من العداء المستحكم، تمكّنت الدولة القديمة من أن تنقل استبدادها إلى “الدول” المحلية الوليدة، وخسر السوريون، بفعل ديمومة هذا الصراع وتعفنه، المساحة النظيفة التي يبتكرون عليها دولتهم التي نشدوها في مطلع 2011.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى