صفحات الرأيماهر مسعود

الدولة الوطنية وروح الطائفية/ ماهر مسعود

 

 

 

سُميت «الدولة» الخارجة من حكم الاستعمار الأوروبي منتصف القرن الماضي بـ «الدولة الوطنية»، وجاء اضفاء الوطنية على الدولة نوعاً من تمييز الحال عن الاحتلال ليس إلا، وللقول إن من يحكم، وللمرة الأولى في العصر الحديث، هم أبناء البلد، بعد أن أصبح الحاكم «دولة»، وليس محتلاً غريباً.

إذاً، كانت الوطنية بالأصل تعريفاً سلبياً لسلطة الحكم، أي تعريفاً بما هو ليس سلطة الاستعمار، لكنها أيضاً، وفي الوقت ذاته، كانت حكماً بالطلاق البائن بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة في الواقع السياسي. فما كان يضمره الاحتفال بالاستقلال وولادة «الدولة الوطنية» هو الاعتراف الجزئي، لكن النهائي، بالحدود الوطنية المُقرَّة في اتفاقية سايكس/بيكو. وأدى الاعتراف بالواقع المقترن بإنكاره على النحو الذي حصل لأن تصبح تسمية «الدولة الوطنية» تسمية موقتة ريثما تتم استعادة أو تحقيق «الأمة»، التي انتهت تاريخياً مع انتهاء الخلافة الإسلامية في بداية القرن ذاته مع أتاتورك.

الأمة المؤجلة، عاشت في الأفق وفي الوهم، خارج «الدولة الوطنية» وأكبر من حدودها، أما السلطة القائمة في الواقع فبقيت ما دون الدولة، تحتلها احتلالاً مثلما يفعل الاستعمار، وتفرض سطوتها بالغلبة والقوة والانقلاب العسكري، وحتى عندما استقر لها الحكم كما في سورية السبعينات، لم تقم ببناء الأمة ضمن حدود الدولة لتصنع «الدولة/الأمة»، دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية، بل أبقت «الأمة» عربية، و»الدولة» وطنية، وبينهما برزخ لا يكف عن الاتساع.

هذا الواقع الفصامي الذي تمّ تثبيته والبناء عليه، أسس لروح الطائفية في «الدولة الوطنية» القائمة، على اعتبار أن من ليس عربياً مثل الأكراد والشركس والأرمن والأمازيغ وغيرهم، بقي مهمشاً من الدولة، وهو خائن مُفترض و «بالقوة» لها، كونه خارج الأمة، الغائبة الحاضرة.

الوطنية، التي لم تُفعَّل أو تُعرَّف إيجاباً بالقياس إلى المواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية بين أبناء «الوطن»، استكانت لتعريفها السلبي السابق، وأصبحت دليلاً مرشداً للسلطات الحاكمة، في المزاودة على الشعب بالعداء اللفظي والشعاراتي للخارج، وسيفاً مشهراً ضد أي منافسة سياسية محتملة في الداخل، بحيث احتكرت السلطة هذا المعنى السلبي للوطنية، ودمجت بين السلطة والدولة في ذاتها، ثم أصبحت معارضة السلطة، أو العداء لها، لا تعني سوى العداء للدولة وخيانة الوطن، ليذهب المعنى الايجابي والحق «الطبيعي» في المواطنة المتساوية أدراج الرياح.

من هنا تداخلت الروح الطائفية مع قيام الدولة الوطنية ذاتها، نتيجة ضياع وضعف الهوية السياسية لـ «الدولة» التي لا هي دولة في وجدان وعقول أهلها، ولا هي أمة. بل إن تلك الدولة تشكلت في وعي الناس على أنها سلطة، هي أشبه بسلطة الاحتلال الخارجي، من كونها كياناً سياسياً عقلانياً ومؤسساتياً جامعاً لأبنائه، والوطنية أخذت طابعاً استبعادياً امتيازياً قائماً على الولاء للسلطة، بدل الولاء للوطن الذي يتساوى فيه مواطنوه.

هذا الوضع منع الوعي الذاتي للطوائف، من التطور باتجاه الوعي الوطني، كون الوطن القائم لم يكن وطناً لجميع أبنائه بالتساوي، بل لقلَّة سلطوية تحتكر الدولة. ومن كان يحمي حرية الناس وممتلكاتهم، وحتى أعراضهم، ليس القانون الساري على الجميع، ولا مؤسسات الدولة، بل الطوائف والولاءات العشائرية والسلطوية، بالإضافة للنفوذ والثروة والاستزلام والمحسوبية.

الوعي الذاتي للطوائف والمذاهب والاثنيات المُكوِّنة لـ «الدولة الوطنية» إذاً، لم يغادر في الواقع سياجه الطائفي ذاته، نتيجة احتكار السلطة لمعنى الوطن ومعنى الوطنية، ووقوفها حجر عثرة أمام الاندماج الوطني على أسس المواطنة المتساوية. وذلك ما أنتج غربة الطوائف عن أوطانها، مثلما ينتج اليوم ظاهرة الطوائف العابرة للأوطان. فأن يصبح، على سبيل المثال لا الحصر، اندماج الشيعي اللبناني أو العراقي أو السوري بالشيعي الإيراني، أسهل من اندماجه بأبناء «دولته»، فذلك ليس إلا محصلة للتمييز والتمايز السياسي الذي أقامته السلطات القائمة بين أفرادها، على أسس طائفية وعشائرية مختلفة، ومحصلة للامتيازات السياسية على أساس الولاء للسلطة ذاتها.

ربما كانت الحقيقة التي أوضحتها الثورة السورية، هي أنه إن لم نتخلّ عن الوطنية المُعرّفة بدلالة الخارج وبالضد منه، لنبني وطنية جديدة قائمة على المواطنة المتساوية لأبناء الوطن، ولم نتخل عن الدولة المُعرّفة بالسلطة ونظامها السياسي، لنبني الدولة المحايدة تجاه جميع مكوناتها الدينية والإثنية، فنحن نتجه في أحسن الحالات، من الدولة الوطنية الطائفية، التي قامت على التمايز والاستبعاد والتمييز، نحو الدولة الإسلامية الطائفية أيضاً. فإذا كانت الأولى تحكمها القّلة باسم الأقلية، ليجد أبناء تلك الأقلية، رغم حيفهم، سهولة أكبر مما يجده غيرهم من السوريين في التماهي مع الدولة، فإن الثانية ستبقى دولة طائفية تحكمها القلَّة باسم الأكثرية هذه المرة. وإن كان متوقعاً أن يتماهى أبناء الأكثرية بسهولة أكثر من تماهي غيرهم معها، فإن الاستبعاد والظلم والحيف والتمييز ستطاولهم أيضاً تبعاً لنوع الإسلام الصراطي المطلوب الولاء له. ومثلما قام استبداد الدولة الوطنية على الوهم المؤجل للأمة العربية، سيقوم استبداد الدولة الإسلامية على الوهم الكبير المؤجل في الأمة الإسلامية. كلاهما يريد أن يجعل من الماضي مستقبلاً ليستعبد الحاضر، وأهل الحاضر. كل ذلك إن تمَّ، فهو لا يرجح سوى أن تبقى الطائفية روح المرحلة، والتناحر الطائفي العابر للدول هو المصير.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى