صفحات الرأي

الدولة كملكية خاصة للعائلة

 


يسار أيوب

بعد الاعتذار من الماركسية التقليدية، لاستعارتي عنوان واحد من أهم الكتب التي أنجزها فريدريك أنجلز منفرداً، أي ««أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، أود التوضيح بأنّ ما سأناقشه هنا هو العنوان مقلوباً ليصبح «الدولة كملكية خاصة للعائلة». وهو نمط ساد الدولة العربية الحديثة، أقلّه منذ بدء عهد الانقلابات العسكرية التي افتتحها حسني الزعيم في سوريا في 1949. مع بداية الحكم العسكري الذي استحكم يوماً بما اصطلح على تسميتها الدول العربية التقدمية التي ادعت الجمهورية في نظامها، ومع وصول النخب العسكرية لتمسك بزمام السياسة والاقتصاد، تحوّل نظام الحكم في هذه الدول إلى سلسلة قواعد وأوامر عسكرية يصعب على «مجرد الفرد» ردها، مجرد فرد بعيد عن المواطنة بكل ما تحمله من معان وأبعاد.

كان السياق العام يقضي، في الدولة والنظام والعسكريتاري، المستعار أساساً من أنماط خارج المنطقة، بأنّ كل فرد موجود لخدمة المجموع العام، وأنّ الدولة تجسد هذا المجموع العام، وأنّ النخبة الحاكمة تجسد الدولة. وبالتالي، يصب الصالح العام، في نهاية المطاف، في الصالح الخاص للطغمة المتحكمة في مفاصل الدولة وأجهزتها، بعد زوال الفارق المهمّ بين الدولة والسلطة.

إنّ التماهي، في العسكريتاريا العربية، بين الصالح العام للمجتمع ككل، والصالح الخاص للنخبة الحاكمة المؤلفة من ائتلاف مجموع القوى المسيطرة، التي تحكم علاقاتها البينية مجموعة من القواعد غير المستقرة، لكن الخاضعة لتوازنات هذه القوى، جعل الصراع بينها يستعر حيناً للاستحواذ على مناطق النفوذ، أو يهدأ حيناً آخر ربما بسبب تهديد من خارج هذا الائتلاف.

بنتيجة الصراعات المستمرة بين النخب المتباينة، والائتلافات المتعددة التي تعاقبت على السيطرة، تحوّلت الدولة إلى أداة في خدمة استمرارية شكل الحكم، بدلاً من أن يكون الحكم في خدمة استمرارية الدولة، كتجسيد للوحدة السياسية للشعب على أرضه. وتحوّلت مؤسسات الدولة بمطلق اصطلاحاتها الى مجرد أدوات لخدمة النظام الحاكم، ووسائل لضمان استمراريته، وأحياناً كانت هذه المؤسسات مجرد نقاط تحافظ على توازنات النظام الداخلية. إنّ مرحلة الانقلابات العسكرية التي تعاقبت على الدول الجمهورية في الوطن العربي، انطبعت بعدم الاستقرار السياسي. عدم استقرار أتاح للصراع الداخلي بين مراكز القوى العسكرية أن تنتج محصّلاً لها يتمتع بسلطة أعلى من البقية، ليستخدمها في توسيع رقعة النفوذ هذه مرة أخرى على حساب الآخرين في النخبة، ولينتج قوانين جديدة تتيح له ربطهم به إلى درجة التكسب والتعيش.

إنّ المركز القوي هذا، والمتوسع دوماً بحكم توالد قوته وتعاظمها، سمح بتأسيس النظام على مقاس العائلة. وتحوّلت العائلة الممتدة، التي ينتمي إليها مركز القوة هذا، إلى مواز حقيقي للمؤسسة المدنية، وغالباً ما تكون متفوقة عليه. واحتوت العائلة على امتداداتها بطبيعة الحال، فاستثمرت وجود محورها في مركز الحكم، لتؤسس لمرحلة الصراع من أجل الاستحواذ على كل شيء يحتويه البلد. فلا عجب حينها في أن نرى أفراد العائلة يتربعون على عروش الدولة المختلفة، كالاقتصاد والجيش والأمن، وتعداه إلى العمل المدني والخيري، وغيرها من الميادين التي تديم سيطرتهم، وتعاظمها، وتحوّلها من مؤسسات للدولة الى مؤسسات للعائلة الحاكمة. ويتيح ذلك التقاء الجمهورية العربية الحديثة بالملكية العربية الحديثة، ويماهي بينهما بحيث يصعب التفريق على المستوى العملي بين هذين النظامين المختلفين أساساً.

إنّ تمدد الأخطبوط العائلي في الجمهورية العربية، وتحكمّه في مفاصل مؤسسات الدولة ومؤسساتها، جعلا من النظام الحاكم ينتقل من نظام توازنات القوى الداخلية إلى نظام التعيّش والتكسّب من العائلة. وبهذا، تحوّلت من عائلة الحاكم الى العائلة الحاكمة، بما يعنيه هذا من اعتبار الدولة بكل ما فيها، حتى شعبها، مجرد ملكية خاصة لها، لا يجوز الاقتراب منها تحت أي ذريعة كانت. وبمرور السنوات، أصبح هذا حقاً من حقوق العائلة الحاكمة، وامتيازاً من امتيازاتها، محروساً بإعلام مداح ممجّد، وجيش مهمته الحفاظ على هيبة الحاكم، وأجهزة أمنية موجهة أساساً إلى الداخل لا الخارج، ونهاية بشعب، ظنّت العائلة أنّه تعوّد حياة الذل والخضوع.

وأخيراً جاء بائع متجول، ضاق ذرعاً بحياة الشظف، ولم يستطع الاحتجاج سوى بتوجيه حقده كلّه نحو ذاته، فأحرق نفسه. وامتدت ناره لتحرق معه العائلة الحاكمة، والجمهوريات العائلية في الوطن العربي الكبير.

* كاتب فلسطيني مقيم في باريس

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى