مراجعات كتب

الدولة والحرب وخلق «العدو القريب»: مقاربات في أنثروبولوجيا العنف/ محمد تركي الربيعو

 

 

يمثل القرنان السابع عشر والثامن عشر البدايات الحقيقية للجغرافيا القومية، التي سوف تتطور تالياً في أفكار ومجموعة من الرموز والمواصفات المادية، أبرزها التراب الوطني واللغة والعرق وأحياناً الدين. هذا التركيز على الجغرافيا، ساهم في ظهور مفهوم الشعب، الذي يُعرف بوجوده في إقليم ما، والأهم من ذلك بقبوله بفكرة التنازل عن حقه في العنف لصالح جهاز الدولة الحديث، الذي أخذ وفقاً لفيبر يحتكر العنف الشرعي، من أجل الحفاظ على السلام الداخلي والاضطلاع بمهمة الدفاع عن البلاد ضد الأعداء الخارجيين.

غير أن احتكار العنف الشرعي سرعان ما بات، وفقاً لبول دوموشيل في كتابه «التضحية غير المجدية/بحث في العنف السياسي» المترجم حديثاً للعربية، لا يعني وحسب حيازة الحاكم لعنف؛ أو شرعية في العنف تسمح له بتدمير أولئك الذين يهددون السيادة أو حتى يعارضونها؛ بل أخذ يعني أن يكون هو المصدر الذي يصدر عنه الفرق أو التمييز بين العنف الشرعي واللاشرعي. احتكار، لم يستطع عالم المقدس، ادعاء حيازته أبداً، لأن المكان الذي تصدر عنه الأنظمة في هذا العالم، التي تفرق بين العنف الجيد وذاك السيئ مكان فارغ؛ حتى إن ادعى الملوك والأمراء امتلاكهم للكلام نيابة عن هذا المقدس، فإنهم لم ينجحوا أبداً في السيطرة على احتكار العنف الشرعي. غير أن الإشكال في هذا العنف وفقاً لدوموشيل، لم يعد يقتصر على احتكاره وحسب من قبل أجهزة، بل في انقلاب الدولة ضد من يخالفها، والدعوة إلى تهميشهم، نفيهم وقتلهم حتى، بدلاً من حمايتهم. ولفهم هذا الجانب، يحاول دوموشيل المقارنة في تعريف «العدو الأخطر» بين مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، ولاحقاً المجتمعات الحداثوية.

ففي المجتمعات التي لم تكن توجد فيها دولة بالمعنى الحديث، كانت العداوة المدمِّرة لا تمارس ضد الداخل، بل غالباً ما تمارس ضد الأعداء الأكثر خروجاً عن الجماعة، والأكثر بعداً والأجانب. في المقابل أخذت الدولة اليوم تخصص غالباً أقصى قدر من عنفها «لأعدائها في الداخل»، أو الأرهابيين، أو «للأقليات المخربة» العرقية، وكذلك للأجانب الذين يسكنون بيننا. فالعدو الأخطر اليوم، وفق منطق الدولة الحديثة، هو «القريب»، ولا بد إذن من إبعاده وتدميره. هذا الأمر توضّحه صورة الخائن في كتاب «نقد العقل الجدلي» للكاتب جان بول سارتر. إن ظهور الخائن يتوافق مع العودة إلى داخل الدولة، أي العودة إلى أقرب الأصدقاء وليس العدو الأشد مغايرة، ذلك الذي يسمح أن يمارس ضده أكبر قدر من العنف. الخائن هو العدو الأكثر قرباً وشبهاً في آن، لأجل ذلك، هذا العدو يجب إخراجه، مهما كلّف الأمر، إذا أردنا الظفر بالغلبة على العدو الخارجي. إن صورة الخائن تقلب منطق الإقليم. إذ تضع تلك الصورة الأعداء الأشد خطورة في الخارج وفي الأماكن الأبعد، وضدهم يسمح بممارسة أقسى أنواع العنف. إن الخائن، أو الخطير، بكل معنى الكلمة يأتي من أقرب الأقربين. إنه في الواقع قريب للغاية. لكن مما يلاحظه دوموشيل هنا، أن صورة الخائن لن تحافظ على نفسها، إذ سيتم استبدالها بعدو الطبقة، الذي هدفت العدالة الاجتماعية إلى حذفه، بواسطة شكلي الإرهابي والمهاجر غير الشرعي.

ولعل هذه الملاحظة تذكرنا بكتاب أيمانويل تود «ما بعد شارلي: أزمة سوسيولوجيا دينية» الذي كشف من خلاله عن الرؤية التي أخذت تتشكل في مخيال الدولة الفرنسية ونخبها، حول إسلام الضواحي، بوصفه الخصم الجديد للعلمانية الصلبة، لتحميله بعض الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي.

العنف وعالم ما بعد القومية:

ولكن هل بقيت الدولة القومية قادرة على صناعة هذه العدو الداخلي، في ظل زمن العولمة، وفقدانها للعديد من مصادر قوتها واستقلالها؟ ربما هذا الجانب هو ما شغل الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوراي في عدد من كتبه، آخرها كتابه «المستقبل واقعاً ثقافياً»، فالدول باعتبارها كيانات كلية مقدسة، أصبحت تخشى أجزاءها الثانوية على نحو متزايد، إذ أصبحت تلك الأجزاء أكثر رسوخاً ككيانات وأكثر حضوراً من الناحية السياسية. هذه الأعضاء أصبحت جزءاً من عملية تسليع عالمية، وبالتالي أصبحت تعيش حياة تتطلب الانفصال عن بيوتها الجسدية السابقة. كما أن الأساليب الفنية في الجراحة باتت تجعل بالإمكان إضافة أو إزالة أجزاء من الجسم، مع اختلافات النوع والسن، وجراحات التجميل تضيف وتزيل وتعيد توزيع الدهون بشكل جزافي لإعادة تنظيم جماليات «الكل» الجسدي. ولعل ما ينطبق على الجسد البشري في زمن العولمة، بات ينطبق أيضاً على جسد الدولة وكيانها الجغرافي، إذ أن بعض الأعمال الوحشية المصاحبة للعنف الواسع النطاق في العقدين الأخيرين تتضمن أساليب متعددة أشبه بالجراحة/ مثل البتر والاستئصال والثلم وغيرها، لفصل أجزاء عن «الكل» الجسدي، وقد أصبحت هذه الأفعال كلها فصولاً نموذجية من العنف الواسع. هذه الممارسات تصحبها أشكال أخرى من الجراحة العرقية مثل تقديم الذبائح والقرابين وختان الإناث، وغيرها من الممارسات العنيفة التي ما زالت شائعة في مناطق كثيرة من العالم.

وكمثال هنا يشير أبادوراي إلى الممارسات المتعلقة بأجساد النساء الصغيرات (ختان) في كثير من المجتمعات، خاصة في المناطق الشمالية من إفريقيا، فهي تعد تأكيداً غاضباً على أن أجساد النساء لا يمكن أن توضع في الحيز العام، سواء لحقوق الإنسان أو الأخلاقيات الطبية الحديثة، أو الأمان الطبي البسيط. فإصرار الرجال (وقلة من النساء) على حقوق مجتمعات مختلفة في ممارسة بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية، هذا الإصرار على هذا الفعل لا بد من اعتباره جزءاً مما يطلق عليه «الجراحة السياسية»، أي الجراحة بقصد تحقيق هدف سياسي، والهدف في هذه الحالة هو التأكيد بقوة على أن جسد الأنثى متاح ومستباح ليكون ساحة للتقاليد البطريركية. العلاقة بين هذا الأسلوب في الانتهاك الجسدي والجراحة السياسية، يمكن أن نراها كذلك في الهند، وذلك في أعمال العنف ضد المسلمين في أوائل التسعينيات ومحاولات دهماء الهندوس التفتيش على الأعضاء التناسلية للذكور لمعرفة ختانها من عدمه، للتأكد ما إذا كان الضحية مسلماً أم لا، والواقع أن تشريح الأحياء والتحقق يمكن إلحاقهما بعملية التطهير، إذ أنها كلها وثيقة الصلة بالغضب والحنق والشك بخصوص «الجزء المزعج».

بشكل عام، يرى أبادوراي أن عمليات الجراحة السياسية قد تضاعفت في فترة ما بعد التسعينيات، خاصة في إفريقيا، ومؤخراً في الشرق الأوسط، وإن هذا العنف يمكن تفسيره بوصفه لا يعبر عن فعل انتقام، بل عن إشكالية مع الجزء المزعج، رغم حدوث ذلك فجأة أو على نحو غير معقول. لكن المفارقة الساخرة في عملية البتر خاصة، والجراحة السياسية عامة، تكمن في كونها تواجه هذا القلق بنقشه وتسجيله على الجسم الثانوي بدلاً من قتله أو طرده أو نبذه.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى