صفحات سوريةعدي الزعبي

الديمقراطية والليبرالية في سوريا


عدي الزعبي

إذا كان كل البشر باستثناء فرد، على رأي واحد، وكان لهذا الفرد رأي مخالف، فلن يكون قمع هذا الشخص من قبل كل البشر أكثر عدلاً، مما لو كان هو، إذا امتلك القدرة، عادلاً في قمع كل البشر.

جون ستيوارت مِل

أشار حازم صاغية في مقالة له عنوانها ‘الانتقال إلى الديمقراطية’، إلى إشكالية ‘الديمقراطية الأكثرية’. السؤال مطروح هنا هو حول الديمقراطية المنشودة في سوريا المستقبل. الديمقراطية هي حكم الأكثرية. إسقاط الديكتاتور هو هدف الثورة السورية الأساسي، وبناء نظام ديمقراطي هو البديل. ولكن يتخوّف البعض من الديمقراطية، لكونها قد تأتي بالإسلاميين إلى الحكم. هكذا تصبح الديمقراطية، بما هي حكم الأكثرية، منبع لتخوّف الأقليات الدينية، والعلمانيين السوريين. هذا المقال محاولة في صياغة بعض الأفكار حول هذا الإشكالية، التي دعاها الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مِل بطغيان الأكثرية.

أولاً، التخوّف من ‘طغيان الأكثرية’، لا يعني أبداً دعم الديكتاتورية كبديل. على سبيل المثال،كان أفلاطون يفضّل حكم النخبة على الديمقراطية. معظم أنصار النظام السوري يفضّلون الديكتاتور على الديمقراطية. أما نحن فنفضّل، وبدون تردد، الديمقراطية على الديكتاتور وحكم النخبة. ما نحتاجه هو فتح باب النقاش حول مفهوم الديمقراطية، والعمل على تجاوز الصعوبات المرتبطة بالانتقال إلى الديمقراطية وفهم أسباب هذا التخوّف وسبل معالجته.

ثانياً، يجب أن نميّز بوضوح بين ‘طغيان الأكثرية’ كإشكالية تتعلّق بمفهوم الديمقراطية، ومحاولة بناء حكم سنّي متشدّد. الخلط بين الاثنين يدفع بالطبع إلى مساواة الديكتاتور بالثورة. لم يكن هدف الثورة قلب نظام الحكم وإقامة حكم سني متشدّد. هذا جزء من بروباغندا النظام السوري. هدف الثورة هو إقامة نظام ديمقراطي. الفارق الذي يجب أن نشدّد عليه هو التالي : محاولة بناء حكم سنّي متشدّد لا يعترف بالديمقراطية وبالانتخابات من جهة، وإشكالية وصول الإسلاميين إلى الحكم عن طريق الانتخابات من جهة أخرى. هذا التمييز يجب أن يكون محوريّاً. خلافنا مع من يرفض الانتخابات هو خلاف مبدأي، وهو الخلاف ذاته مع الديكتاتور. أما خلافنا مع الإسلاميين اللذين يقبلون بالانتخابات فهو خلاف سياسي. غياب هذا التمييز والخلط بين الاثنين يعني أن نقع في المأزق التالي: تخيير الشعب بين الديكتاتور، وبين نظام سني متشدد، يعيد إنتاج الديكتاتورية. الثورة السورية هي الدرب للخروج من هذا المأزق. الخيار هو بين الديكتاتور والديمقراطية.

ثالثاً، ما نودّ الإضاءة عليه هو إشكالية ‘طغيان الأكثرية’، والتي تتعلّق بمفهوم الديمقراطية بوصفها حكم الأغلبية. ليست إشكالية ‘طغيان الأكثرية’ محصورة بالإسلاميين. بل هي إشكالية تأتي من مفهوم الديمقراطية نفسه. ‘طغيان الأكثرية’ يعني أن تقوم الأكثرية بفرض آرائها على الآخرين. ما نود التأكيد عليه هو أن المشكلة ليست فقط مشكلة الإسلاميين. مثلاً، نستطيع النظر إلى الإشكالية من وجهة نظر التعدد القومي في سوريا. الأغلبية العربية قد تفرض آرائها على الأقليات القومية الأخرى. من جهة أخرى، تاريخياً، طغيان الأكثرية المرتبط بالديمقراطية، كان حاضراً في أعمال الفلاسفة الليبراليين، كجون ستوارت مِل، وبرتراند راسل وكارل بوبر. هذا الطرح يساعدنا، كما يساعد الإسلاميين، في فهم الإشكالية ونقاشها من زوايا مختلفة.

رابعاً. الليبرالية والديمقراطية. ‘طغيان الأكثرية’ هو الموضوع الأساسي في كتاب مِل ‘في الحرية’. يرى راسل وبوبر أنّ هذا الكتاب يشكّل مرجعية أساسية لمن يريد مناقشة ‘طغيان الأكثرية’. الفكرة في الكتاب بسيطة، يلخّصها فكرة أن الديمقراطية لا تعني أن تتحكّم الأكثرية بحياة الأفراد. طالما أن الفرد لم يشكّل خطراً على الآخرين، فلا يجوز للأكثرية أن تتدخّل في حياته الشخصية. في الحالة السورية، هذا يعني أن لا تتدخّل الأكثرية في شؤون الأفراد والجماعات الدينية والقومية. بالطبع، هذا الحل لا يقدّم إجابة شافية للمشاكل التي تواجهنا. تبقى حدود التدخّل وأهدافه خاضعة لحسابات مجتمعية واقتصادية وتاريخية مختلفة. لكن المبدأ يصلح كنقطة انطلاق للحوار حول هذه المسائل. بهذا المعنى، تكون الحرية الدينية مكفولة، وهي كذلك كما يراها الإسلاميون، ولكن تغيير الدين والزواج المدني يخضع للنقاش. الاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية للأكراد مكفولة، لكن فكرة الفيدرالية تخضع للنقاش. ما هي بالضبط الحدود التي لا يحق للأكثرية المنتخبة ديمقراطياً أن تتجاوزها غير واضح. ولكن الأكيد أن ربط الديمقراطية بالمبدأ الليبرالي يشكّل ضمانة أن لا يتحوّل ‘طغيان الأكثرية’إلى عبء على مفهوم الديمقراطية. هذا المبدأ الليبرالي يتيح لنا أن نضمن للأقليات المتنوعة، وللأفراد، حقوقهم. يجب أن نشير أن المقصود هنا الليبرالية بالمعنى الفلسفي والسياسي، وليس الاقتصادي. لا يتّسع المجال هنا لتوضيح هذا الفارق. ربما سيكون لدراسة مل وراسل، وتحديداً الأخير، ومحاولتهما فصل الجانب الاقتصادي عن السياسي لليبرالية نتائج ملموسة في تخفيف حدة النقد الموجّه لليبرالية من اليساريين.

مع اقتراب سقوط النظام السوري، يجب علينا أن نطرح الأسئلة المتعلّقة ببناء سوريا المستقبل. تقديم رؤية بديلة للديكتاتورية يساعد في تسريع عملية السقوط. إشكالية ‘طغيان الأكثرية’ مطروحة الآن ومرتبطة بتصاعد التوتر الطائفي. محاولة فهم هذه الإشكالية وطرح تصّورات مختلفة لمعالجتها يشكّل خطوة إلى الأمام. الفكرة في هذا المقال هي تعريف المشكلة وتمييزها عما يعلق بها من بروباغندا الإعلام السوري، ثم مقاربتها من زاوية الفلسفة الليبرالية. هذا يساعد بالطبع في كسر الجمود الغريب الذي يربط بين هذه الإشكالية والإسلاميين. هذه ليست مشكلة الإسلاميين فقط، بل مشكلة الديمقراطية. بالمقابل، يوجد إشكالية خاصة في التيارات الإسلامية والقومية مرتبطة بإشكالية طغيان الأكثرية. لم نتطرق هنا لأي منها. هذه محاولة أولى لمقاربة الموضوع.

التخلّص من الديكتاتور هدفنا الأساسي. مع الاقتراب من لحظات النصر، تصبح المسؤولية كاملة بين أيدينا. سنتخلّص من الطاغية، ونبني وطناً لكل السوريين.

‘ كاتب من سوريا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى