صفحات الرأي

الديموقراطية: أضاليل وأطروحتان/ ثائر ديب

 

 

ما من مناسبة ذات صلة بالمسألة الديموقراطية – كفوز الباكستاني الأصل والمسلم صادق خان بمنصب عمدة لندن – إلا ويبرز فيها كمّ الأضاليل وأسواء الفهم الهائل الذي يحيط بهذه المسألة، مفهوماً وبنيةً وتطوراً تاريخياً. ولست أقصد هنا ما تراه الأنظمة الاستبدادية من أنَّ الديموقراطية مجرد «مؤامرة» لتفتيت مجتمعاتنا، فهذا مجرد ترّهة جاهلة لا تستحقّ الردّ وتتعمّد خلط الديموقراطية بما تتذرّع به القوى الكبرى، خصوصاً أميركا، لإكمال ما بدأه الاستبداد من تقويض مجتمعاتنا، في الوقت الذي لا يتردّد مفكروها أمثال صموئيل هنتغنتون عن اعتبار الديموقراطية خصيصة غربية لا تصلح لشعوبنا.

لم يَفُزْ صادق خان بمنصبه لأنّه باكستاني الأصل أو مسلم، كما قد يبدو وللوهلة الأولى لمراقبٍ غير مدقِّق يغفل عن تطور الديموقراطية في انكلترا وعن بنيتها، بل فاز برغم كونه باكستاني الأصل ومسلماً. ذلك أنَّ الديموقراطية الإنكليزية التي ابتدأت بـ «الثورة المجيدة» في أواخر القرن الثامن عشر، تطوّرت من ديموقراطية تراتبية للمالكين بحسب حصّة التكليف الضريبي إلى ديموقراطية مواطنة حديثة علمانية لا تتورّع، في بدايات القرن الحادي والعشرين، عن صرف النظر، إلى حدّ بعيد، عن الدين والعرق والإثنية، في توسيع جديد ولافت لحدودها. وهذا ما يمتنع فهمه، برغم بساطته، على من ينظرون إلى البشر فيرونهم أول ما يرونهم أبناء مكوِّنات وجماعات وطوائف وأقليات وأكثريات، لا أفراداً مواطنين أحراراً كما دُفِعَت الديموقراطية تاريخياً لأن تراهم. والحال، إنَّ كلّ من يبتدئ تحليله لظاهرة صادق خان بأنّه باكستاني الأصل أو مسلم لا بدّ أن يتوصل إلى نتائج زائفة سواء مدح الظاهرة أم قدحها.

تشكّل هذه المناسبة، إذاً، فرصة قيّمة لإعادة تناول المسألة الديموقراطية، مفهوماً وبنيةً وتطوراً تاريخياً، وما يكتنفها من أضاليلِ جهاتٍ شتّى. ويمكن أن نعرض على هذا الصعيد أطروحتين من شأن النقاش فيهما وإِحكامهما أن يساهما في تبديد شيء من الغموض والتضليل اللذين يحيطان بهذا المفهوم.

تتمثّل الأطروحة الأولى في رفض القول بِقِدَم الديموقراطية القائمة الآن. فهي لا تقتصر على أنّها لا تعود إلى ديموقراطية أثينا اليونانية فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى أنّها ليست قديمة قِدَم البرجوازية ذاتها التي عادةً ما تُقرَن بها عضوياً في العالم الحديث. إنّها، في جميع أشكالها، بما فيها الشكلية والمحدودة المقتصرة على حق الاقتراع، بنت القرن العشرين، الأمر الكفيل بتبديد الخلط الذي يربط الديموقراطية بالبرجوازية وليبراليتها. وما يعنيه هذا هو أنَّ من كان وراء الديموقراطية القائمة الآن ليس البرجوازية التي لم تكفّ عن محاولات جعلها محدودة ومقيَّدة، بل الشعوب بعمالها وفلاحيها ومثقفيها ونسائها وشعوبها المستعمَرة وملوّنيها وإثنياتها الخاضعة ومختلف فئاتها التي سعت البرجوازية إلى إقصائها خارج المشروع الديموقراطي. وضحايا الرأسمالية هؤلاء هم الذين أعطوا الديموقراطية معنى تاريخياً ثورياً مختلفاً عن معناها البرجوازي المحدود.

تشير الأطروحة الثانية إلى أنَّ الهزيمة التي لحقت بالنضال من أجل العدالة الاجتماعية التي لم يُوجِد أحدٌ اسماً لها أفضل من «الاشتراكية» و «التحرّر من التبعية»، بعدما طبعا القرن العشرين بطابعهما، ألقت المشروع الديموقراطي ذاته في أتون أزمة عميقة، تجلّت في مظاهر شتّى، لعلّ أبرزها ما نراه من ضياع الديموقراطية جرّاء ربطها بـ «حرية السوق» وبسياسات الهوية، بدلاً من أن تكون هدفاً للنضال من أجل مساواة جذرية فعلية، الأمر الذي يصعب وجوده من دون صلة داخلية عميقة مع النضال من أجل الاشتراكية.

يحتاج كلّ هذا إلى مزيد من النقاش.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى