صفحات الرأي

الديموقراطية الأميركية تحتضر.. ومؤسساتها قد لا تنجو/ فيليب بوليه – جيركور

 

 

هل تقيض الحياة للمؤسسات الأميركية بعد رئاسة ترامب؟ جواب السؤال هذا شائك. وليس في المقدور النفي أو التأكيد. فهذه المؤسسات قد لا تنجو. وإلى اليوم، يُقال إن الأمور على ما يرام، مثلما قد يقول رجل رمى بنفسه من أعلى المبنى قبل ارتطامه بالأرض. وشطر من أميركا يقول إنها بألف خير، في ذكرى عام على بلوغ دونالد ترامب البيت الأبيض. وهؤلاء من مؤيدي ترامب طبعاً. وغيرهم كثر يرون أن بلادهم نجت من الكارثة، والأسوأ. فالاقتصاد لم يتعثر، وعجلته تدور. والبورصة في أحسن أحوالها، ولم تندلع أي حرب، ولا حتى حرب تجارية. ويبدو أن الديموقراطية الأميركية تقاوم، وهي صاحبة أقدم دستور في العالم. فالرئيس على رأسها، ولكن النظام يراقبه مراقبة من كثب ويحاسب. ولكن في السادس عشر من الجاري، قبل أربعة أيام من احتفال ترامب بذكرى عام على رئاسته، صدر كتاب «كيف تموت الديموقراطيات؟» أو على أي وجه تلفظ أنفاسها؟ ولا يخفي صاحبا الكتاب هذا، وهما مختصان بمسألة أفول الديموقراطيات، دانيال زيبلات وستيفن ليفيتسكي، قلقهما. فهما رصدا أربع علامات يتسم بها الزعيم المستبد: لا يعلي شأن احترام القوانين والقواعد الديموقراطية، ينكر على خصومه مشروعيتهم، ويتسامح مع العنف، ويميل إلى قمع الحريات المدنية أو وسائل الإعلام. ويبعث على القلق ظهور سمة واحدة من هذه السمات على السياسي، فكيف إذا جمعها كلها على نحو ما هي حال ترامب. وفي ما خلا ريتشارد نيسكون، لم ينطبق أي من هذه السمات على أي مرشح ديموقراطي أو جمهوري منذ قرن، إلى اليوم.

وليس ما يهدد الديموقراطية الأميركية انقلاباً عسكرياً ينفذه أصحاب النظارات القاتمة والسوداء. فما يهددها هو اثخانها بآلاف الجروح النازفة. وينبه ليفيتسكي وزيبلات إلى أن تآكل الديموقراطية متدرج ولا يحدث بين ليلة وضحاها بل خطوة بعد خطوة وتحمله (التآكل) تغيرات طفيفة مثل «تسريح موظفين ومسؤولين حياديين وتعيين موالين محلهم». وهذا ما يحصل اليوم في الوزارات الأميركية على مختلف المستويات والمراتب. ويضطر عشرات آلاف الرجال والنساء من أصحاب الكفاءات، إلى الانسحاب والتنحي وقلوبهم تعتصر ألماً. وفي وكالة حماية البيئة، غادر أكثر من 700 شخص مناصبهم. وفي وزارة الخارجية، المناصب الشاغرة لا تعد ولا تحصى، ومنها مناصب سفراء في دول محورية ووازنة. ومن يبقى في منصبه، يكم صوته، ويحظّر على العلماء الكلام (عما يخالف رؤية الإدارة الأميركية فـــي شؤون المناخ مثلاً أو غيرها). ويجد الموظفون أنفسهم تحت رحمة قدامى ممثلي الصناعات التي يفترض بهم ضبط عملها. وهذه الشوائب لا يغلب عليها طابع عسكري، وليست حتى منظمة.

وترامب ليس ديكتاتورياً ينفذ مخططاً سبق إعداده. فهو بلغ البيت الأبيض مع فريق حملته الضئيل الحجم ولم يكن مستعداً للحكم: مضى عام على حكمه ولا يزال أكثر من 159 منصباً فارغاً في إدارته من 459 منصباً. «وترامب لم يكن شاغله يوماً نهج الترامبية. فهو لا تشغله السياسة ولا الأيديولوجيا ولا تحتذي رئاسته على أفكار ولا تهتدي برؤى. لذا، أوكل إلى الجمهوريين في الكونغرس السياسة الداخلية، وإلى الجيش السياسة الخارجية، والباقي خدمات ومكاسب يغدقها على أصدقائه وعائلته ونفسه، يقول إزرا كلاين، صحافي بارز وصاحب موقع «فوكس» الإخباري. ويجمع ترامب بين اللامبالاة والافتقار إلى الكفاءة والجشع، وهو مصدر خطر كبير على الديموقراطية. فهو «لا يأبه بالتحقق من صحة ما يقوله ولا يؤتمن على أمر ما وقد يذيعه ما إن يسمعه، في وقت أن عمل الحكومات والديبلوماسيين يدور وراء الأبواب المغلقة، في الكواليس. وليس من عاقل قد يُسر إليه بشيء أو يفاوضه على مسألة، فهو سيغرد بعد دقائق على تويتر ما قيل له وسمعه»، يقول جيفري إنجل، مدير مركز تاريخ الرئاسة في جامعة «ساوثرن ميتوديست يونيفرسيتي». ويعم القلق والفوضى جهاز الأمن القومي كله، وتنخره نزاعات داخلية، ويدحض الرئيس دورياً ما يعلنه الجهاز، ويبدو أنه لا يستسيغ غير الرجال الأقوياء (المستبدين) في أصقاع المعمورة، ولا يُمسك عن تهديد الحلفاء. وأجمع 4 قادة من أميركا اللاتينية بعد عشاء مع ترامب على هامش مجلس الأمن في أيلول (سبتمبر) الماضي، على أنه «مخبول».

وترتب على رئاسة ترامب خسارة أميركا موقعها الريادي الأخلاقي، على رغم التباس هذا الدور. ومنذ انتخابه، لم يدر كلام ترامب على حقوق الإنسان إلا في أربع تغريدات من 2900 تغريدة. وتناول في تغريداته الأخيرة إيران، وانشغل بشغف الديموقراطية فيها. وفي غياب الريادة الأميركية، «يحتدم التنافس بين الصين والولايات المتحدة على رسم وجه النظام العالمي من طريق فرض قيمهما وسياساتهما على الساحة الدولية»، يلاحظ روبرت دالي، مدير معهد كيسنجر.

وعلى الأمد القصير، أكثر ما يبعث على القلق هو مآل الأمور حين وقوع أزمة كبيرة- هجوم إرهابي، نزاع مسلح، وانهيار في البورصة… أما على المستوى الدولي، لن يسع ترامب الفوز بدعم 5 دول إذا شن حرباً، يقول إيفان أوسنوس من «نيويوركر». وعلى المستوى الداخلي، إذا وقعت كارثة، قد لا يرص الأميركيون صفوفهم وراء الرئيس على نحو ما فعلوا في 2001، إثر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). ولكن المقلق فعلاً في حال الديموقراطية الأميركية هي شوائب عميقة. فنظامها قوامه ثلاثة أركان، التشريعي والتنفيذي والقضائي. ويفترض أن توازن السلطات هذه بعضها بعضاً («الرقابة والموازنة أو المحاسبة»)، وأرسى الآباء المؤسسون أسس آلية المحاسبة المؤسساتية هذه. فهم كانوا يرتابون في السلطة الشخصية أو شخصنة السلطة. ولكن ترامب هاجم السلطة القضائية على ما لم يفعل أي من أسلافه، ويعول على سلطة تشريعية متواطئة ومطواعة.

ويبدو أنه لا يفهم ماهية استقلال القضاء، ولسان حاله «لي الحق المطلق في فعل ما أريده في وزارة العدل». وهو درج على انتقاد القضاة، والمدعين العامين وجهاز الـ «أف بي آي»، ووزير العدل. فاستقال عدد كبير من كبار الموظفين احتجاجاً وهم لا يخفون شعورهم بالقرف والاستياء. ودونالد ترامب ينفخ السياسة في الجسم القضائي، وعيّن عدداً كبيراً من القضاة الفيديراليين مدى الحياة في محكمة الاستئناف. واختار أسماء القضاة «الجمعية الفيديرالية» المحافظة المتطرفة: والقضاة كلهم الذين عينهم ترامب ينتمون إلى هذه المنظمة، تقول شيرلي آن وورشو. وفي آذار (مارس) الأخير، طالب ترامب 46 مدعياً عاماً عينهم أوباما بالتنحي والاستقالة. وفي القضايا المرفوعة على أعماله وأعمال صهره، جاريد كوشنر، عيّن للنظر فيها رجالاً «موثوقاً بهم» أو أهلاً لثقته.

وفي الكونغرس، لا يغالي المرء إذا قال إن الجمهوريين ركعوا أمام الرئيس أو ارتموا في حضنه. «فحين يأتي رجل دخيل على مجموعة أو على عالم السياسة، ويفتن الناس وتتعاظم شعبيته ويهز النظام المستقر، لا يقاوم سياسيون يشعرون بأن الأمور تفلت من أيديهم، التعاون معه»، يقول ليفيتسكي وزيبلات. فعلى سبيل المثل، أعلن ليندسي غراهام، السناتور الجمهوري عن كارولاينا الجنوبية، في أيار (مايو) 2016، في تغريدة «إذا رشحنا ترامب… لقينا الدمار… واستحققنا جزاء عملنا». لكنه في كانون الأول (ديسمبر) 2017، كتب «نادي ترامب للغولف الدولي مذهل. ثمة متعة كبيرة في اللعب مع دونالد ترامب»… ومثل هذا الإخلال بالمبادئ والتملق غير مفاجئ. وفي كل سابقة جبه فيها الكونغرس الرئيس، سواء في ووترغيت أو فضيحة إيران– كونترا أو قضية مونيكا لوينسكي، كان الحزب المُمسك بمقاليد الكونغرس والمهيمن عليه يواجه الحزب الذي انتخب الرئيس. وحظوظ أن تؤول الأمور إلى ووترغيت ثانية، ضعيفة، ولو أصدر المدعي روبرت مولر تقريراً يدين ترامب في قضية «روسيا غيت» (تعامل مسؤولين من الإدارة الأميركية مع موسكو) وفي عرقلة العدالة. فركن من أركان الديموقراطية، هو وسائل الإعلام. والركن هذا اليوم في مرمى هجوم شرس. ولا شك في أن صحيفتي «نيويورك تايمز» و «واشنطن بوست» أديتا دوراً بارزاً في موازنة السلطات الرئاسية وكشفتا مسائل كثيرة عن الإدارة الأميركية الهاذية. ولكن هجمات ترامب المتواصلة على السلطة الرابعة خلفت أضراراً بالغة. ويقول شالي ورزيل من موقع «بازفيد» أن «2017 هو عام تذرر الحقيقة التي نتشاركها فهي لم تعد موضع إجماع، وسنة رجحت فيها وسائل الإعلام الموالية لترامب كفة نظريات المؤامرة وأججت مشاعر العصبية الحزبية».

* مراسل المجلة، عن «لوبس» الفرنسية، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى