صفحات الرأي

الديموقراطية الأوروبية … والحاجة إلى الخلاف السياسي/ شانتال موف

 

 

كان الاتحاد الأوروبي نموذجاً بديعاً لتحويل أعداء الأمس خصوماً سياسيين، وكان الجسر إلى تجاوز الخلاف الناجم عن الحرب العالمية الثانية. واليوم، يقال إن المشروع الأوروبي وثيق الصلة بالدفاع عن النظام النيوليبرالي. ولا أوافق الرأي هذا، فالحاجة ماسة إلى تسييس أوروبا، أي تحويل مؤسساتها مؤسسات تحتضن النزاعات، وبروز نقاش بين الأوروبيين على «نوع» أوروبا التي يشاؤونها والمؤسسات التي تليق بها. وفي المتناول إرساء أوروبا على أسس ديموقراطية جديدة. وليست السيادية (العودة إلى المؤسسات السيادية عوض المؤسسات الأوروبية الجامعة) خياراً بديلاً من الأسس هذه.

وإبان تظاهرات «الساخطين» (إسبانيا) واحتجاجات «أوكوباي وال ستريت» (أميركا) في 2011، تفاجأ كثر بأن لا حركات مماثلة في فرنسا، وحينها كان الناس يحسبون أن التغيير ممكن من طريق السياسة التقليدية، وكان معارضو الرئيس الفرنسي يومها، ومنهم نيكولا ساركوزي، يعتقدون أن الأمور ستتغير حين يبلغ الاشتراكيون السلطة. ولكن مثل هذه الأوهام تبددت. وتمر فرنسا، شأن الدول الأوروبية، بأزمة في التمثيل. ويغلب على هذه المجتمعات رؤيةٌ مابعد سياسيةٌ، مفادها أن الحدود بين اليسار واليمين تهافتت، وأن تداعيها هذا هو خطوة إلى الأمام نحو إجماع ديموقراطي جديد في مجتمعات «منطقية» (تحتكم إلى المنطق والتضامن الاجتماعي) ومستقرة بلغت مآربها. وسَرَتْ هذه الرؤية أول ما سرت في بريطانيا، مع تيار «العمال الجدد» البليري (نسبة إلى توني بلير)، ثم في ألمانيا مع شرودر، وفي إسبانيا مع زاباثيرو، وفي إسكندينافيا. ووضَعَ الأسس النظرية لهذه الرؤية المابعد سياسية، دارسُ الاجتماعيات أنتوني غيدينز في بريطانيا، وأولريخ بيك في ألمانيا، الذي دعا إلى ما أسميه «إجماع وسطي» يلغي التضاد بين التيارات. ودرج توني بلير على القول: «كلنا طبقة وسطى»، وعليه لا مسوغ لتباين الرأي، وهذا ما يدعو إليه إيمانويل ماكرون في فرنسا.

وأرى أن الإجماع في السياسة مستحيل، فالسياسة تعريفاً هي دائرة الخلاف أو التضاد والتنازع. والسياسة ترسم حدوداً بين الـ «نحن» والـ «هم»، وكل شكل من أشكال السياسة يقوم على استبعاد طرف من الأطراف. وحري بالرؤية إلى الديموقراطية الإقرارُ بالتضاد، وبالسياسة الديموقراطية إرساءُ مؤسسات تدور فيها نزاعات لا تذوب في قالب المواجهة بين أصدقاء وخصوم في آن، بل تقر بحق المختلفين في الرأي في الذود عن آرائهم. وإذا لم تشرع الأبواب أمام الخصام والخلاف، جلت المواجهة في صورة مواجهة بين قيم غير سياسية، أي اخلاقية تعلو على المساومة، أو في صورة خلاف إتني (عرقي) أو ديني. واليوم، هذه حال السياسة في أوروبا، إذ لم يعد الخلاف بين يمين ويسار بل بين مصيب ومخطئ. وإذا كانت حدود النزاع أخلاقية، صار المناوئ عدواً لا يحاور ولا يساوم.

وتبدو الحاجة ماسة إلى نقد يحمل المجتمعات الأوروبية إلى التزام المبادئ التي ترفع لواءها: الحرية والمساواة للجميع. ونعيش في مجتمعات مابعد ديموقراطية. وعلى رغم أن المؤسسات الديموقراطية لم تأفل بعد، فإنها لم تعد تقدم للمواطنين خيارات فعلية، ولسان حال هذه الديموقراطيات شعار رفعته حركة «إنديغنادوس» الإسبانية («الساخطون»): «نملك الاقتراع ولكننا لا نملك الصوت». لذا، تبرز الحاجة إلى تحسين النظام التمثيلي واقتراح أكثر من مشروع سياسي على الناخبين. والتفكير في أمثل النظم واجب، وجواب مسائل مثل أيُّ الأنظمة هو الأكثر تمثيلاً: الأنظمة الرئاسية أم البرلمانية؟ فالجواب ليس بديهياً.

وتسعى حركات اجتماعية مثل «نوي دوبو» الفرنسية، و «الإنديغنادوس» الإسبانية إلى تعزيز الديموقراطية، ولكنها تندرج في سياق البحث عن إجماع. وأرى أن شعار حركة «أوكوباي وال ستريت» ينطوي على مشكلة وليس على حل، وهو يقول «نحن الـ99 في المئة»، وكأن الإجماع هو على التخلص من الـ1 في المئة، أي من الفائقي الثراء، لتصطلح الأمور. وهذه الحركات تغالي في الأفقية (العمل خارج المؤسسات التمثيلية)، وإذا شاءت الطعن في موازين القوى الحالية، عليها أن تجمع بين الطابع الأفقي والطابع العمودي (المؤسسات). فلا غنى لها عن الالتزام البرلماني. فعلى سبيل المثل، لم ترغب «انديغنادوس» في مطلع الاحتجاجات، شأن حركة «نوي دوبو» («قيام الليل») الفرنسية، في التصويت ولا في أي صلة بالمؤسسات. ولكن في نهاية 2013، فاز اليمين الشعبي في الانتخابات التشريعية بغالبية مطلقة، فأدركت مجموعة من المثقفين في جامعة «كامبلوتانس» في مدريد، ضرورة توجيه الحركة الاجتماعية إلى المؤسسات ومد الجسور معها والسرَيان أو الاندراج في قنواتها، فانتدبت الحركة الإسبانية مرشحين إلى الانتخابات الأوروبية، ثم أنشأت حزب «بوديموس»، الذي يقترح إرساء حدود بين الشعب والنخب تتربع محل الانقسام التقليدي بين يمين ويسار. ومع تطور الرأسمالية بعد المرحلة الفوردية، أُلحقت الشعوب بمنطق الرأسمالية وفُرضت عليها أشكال قمع متباينة. وفي دول كثيرة، أدركت الأحزاب اليمينية الشعبوية أهمية إرساء حدود سياسية جديدة شعبوية بين الشعب و «المناصب» أو الهيئات الحاكمة، فارتفعت نسب تأييدها. والحاجة ماسة إلى يسار شعبوي، على غرار «بوديموس» الإسباني و «سيريزا» اليوناني، لمقاومة الهيمنة النيوليبرالية مقاومةً تقدمية. وفي فرنسا، في الإمكان بروز شعبوية يسارية إذا تقاطعت حركة «نوي دوبو» مع مشروع جان– لوك ميلانشون.

* فيلسوفة بلجيكية، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 15/4/2016، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى