صفحات الرأي

الديموقراطية علمانيّة بالضرورة/ ثائر ديب

 

 

تُفهَم «العَلمانية» عادةً على أنّها تقتصر على الانفكاك عن الدين، مع أنّ لها في الأصل معنى زمنياً يوضحه لفظها الإنكليزي secularism المشتقّ من الكلمة اللاتينية saeculum التي تعني زمناً يساوي تقريباً العمر المحتمل لشخص، أو يكافئ الزمن اللازم لتجدد شعب تجدداً كاملاً. وبذلك تكون الترجمة الأصح لـ secularism هي «الزمنية»، بالمعنى الذي لهذه الكلمة الأخيرة لدى المقابلة بين الزمني والروحي. ومن الواضح أيضاً أنَّ كلمة «عَلْمَانية» العربية مشتقّة من «العالَم» و «الدنيا». ولمّا كانت أمور «زمننا» و «عالمنا» و «دنيانا» أموراً تهمّنا غاية الأهمية” ويتوقف عليها مصيرنا، فإنّ الكلام على «العلمانية» لا يعود كلام مثقفين مترفين يناقشون مسألةً نافلة.

تعني العَلمنة الحديثة اعتبار الزمن زمناً دنيوياً عادياً يُقِيْمُه النشاط البشري محلّاً لجميع بنياته وأشكاله الاجتماعية الحديثة، بعيداً عن أيّ أبديةٍ تتعالى عليه، أو بعيداً عن أي زمن أسمى يُضفي عليه المعنى والقيمة، سواء نُفيَ هذا الزمن الأسمى كليّاً أم لم يُنفَ. وبذلك تعني العلمانية أننا نعيش ونعمل ونُقَيَّم إِنْ كنا صالحين أو طالحين في زمن دنيوي تصنعه فعالياتنا، سواء كنّا نؤمن أم لا بإلهٍ تُتْرَك الأبدية له وحده. وهذا بالطبع يختلف عمّا كان سارياً قبل الحداثة، حين لم يكن يمكن فهم أيّ فعالية عامة، مثل السلطة السياسية وسواها، على نحو منفصل عن الإلهي، وزمنه الأسمى.

والحال، إنَّ هذا لا يعني نهاية الدين أو الإله، بل نهاية المجتمع الذي يشكّلان أساسه. فما إن يتبدّل هذا الأساس الأخير حتى يمكن للدين والإله أن يواصلا حضورهما لا في المجال الشخصي وحده، بل حتى في المجال العام بمعنى ما (كما يشير المثال الأميركي). ذلك أنَّ العلمانية يمكن أن تكتفي بالحلول محلّ نسق بعينه يجثم فيه الإله ومن يدّعون تمثيله في زمن متعال يُعَدُّ هو – لا الأفعال البشرية – منبع المجتمع البشري. وبذلك قد لا تعني العلمانية نفي الدين والإله، بل تبويئهما مكاناً جديداً متوافقاً مع الإحساس بأنَّ الأفعال الاجتماعية كلّها إنّما تحدث في زمن دنيوي.

يشير الزمن العلماني، إذاً، إلى مجتمع أفقي مساواتي لا يستمدّ نشأته واشتغاله من أيّ منبع متعالٍ عليه، إله أو كاهن أو زعيم. وهذا يختلف جذرياً عن المجتمعات قبل الحديثة الشاقولية التراتبية المشخصنة التي تقف الآلهة في قمّتها ويقف البشر في قاعدتها ويتوسّط بينهم الكهنة والملوك. وهذه المساواتية التي تحتضن أفعال المجتمع المشتركة التي تجري في زمن دنيوي لا بدّ منها لقيام الديموقراطية التي تحيل في جوهرها على تساوي البشر في الحقوق والواجبات. وهذا يعني أنّ الديموقراطية علمانية بالضرورة، من دون أن يعني أنَّ العلمانية ديموقراطية على الدوام. فالفاشية علمانية وكذلك الصهيونية. وفي الفاشية، يُفهم أنّ المساواة والأفعال المشتركة إنما تعكس إرادة مشتركة تُرِكَ التعبير عنها للزعيم. لكن العودة إلى الإرادة المشتركة تبقى أكيدة ولا بدّ منها في أي نظام ديموقراطي يقوم على سيادة الشعب.

“لا شكّ أنَّ كلّ هذا هو جزء من سيرورة طويلة وليس ضربة لازِب”، لكن غيابه الواعي والمقصود كأفق أو برنامج، خصوصاً لدى قوى تزعم الثورة، أمرٌ بالغ الدلالة والخطورة. ونقد هذا الغياب ضرورة حيوية، سواء تمتعنا بالقوى اللازمة لفرض حضوره أم لم نتمتع. من لا يريد الديموقراطية التي هي علمانية بالضرورة قد يكون أيّ شيء ما عدا كونه ثورة.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى