صفحات الرأيموريس عايق

الديموقراطية والتحدي الإسلامي، أم الديموقراطية والليبرالية؟/ موريس عايق

 

 

يفتح التداخل بين إجهاض العملية الديموقراطية بعد الربيع العربي وظهور التحدي الإسلامي، وهو أمر سبق حدوثه في الجزائر، الباب أمام أسئلة تدور حول إمكانية الديموقراطية مع هيمنة الإسلاميين، يما يمثله الأخيرون من تهديد مفترض للديموقراطية وحتى للسلم الاجتماعي. كيف لنا أن نستوعب ونفهم التحدي الإسلامي في ضوء السؤال الديموقراطي، ونفسر الهيمنة التي يملكها الإسلاميون، الذين يُفترض أنهم معادون للقيم الديموقراطية.

فتعذر فهم التحدي الإسلامي لا ينبع من لغز محيط به، بل من التباس متعلق بالمبدأ الديموقراطي نفسه. فتعذر فهم الإشكالية الإسلامية ينبع من عدم الفصل بين الفهم الليبرالي للديموقراطية وبين الديموقراطية نفسها، بين المبدأ الليبرالي والمبدأ الديموقراطي. يعود هذا إلى الهيمنة التامة التي حققها الفهم الليبرالي للديموقراطية خصوصاً بعد سقوط دول «الديموقراطية الشعبية».

خلال العشرينات ومع تعثر الديموقراطيات الليبرالية في مواجهة صعود الأنظمة الشيوعية والفاشية، اعتبر كارل شميت -في كتابه «أزمة الديموقراطية البرلمانية»- أن الديموقراطية البرلمانية محكومة بالفشل لأنها تقوم على مبدأين متناقضين: المبدأ الديموقراطي القائم على المساواة والهوية وحكم الغالبية، والمبدأ الليبرالي القائم على حرية الفرد.

يهدف المبدأ الديموقراطي إلى تحقيق التماهي بين الحاكم والمحكومين والتجانس بين جميع المنتمين إلى الأمة. لا تشترط الديموقراطية الشكل التمثيلي لتحقيقها، فقد تتحقق -بحسب شميت- في أنظمة سلطوية كالفاشية والشيوعية وهي أنظمة غير ليبرالية لكنها ليست بالضرورة غير ديموقراطية. بسعيها إلى التجانس والتناغم، تنتصر الديموقراطية للعام الذي لا يُرد إلى الإرادات الفردية ومصالحها وتوافقاتها الاعتباطية والظرفية.

على النقيض من المبدأ الديموقراطي يركز المبدأ الليبرالي على الفرد وحريته بصفته معطىً أولياً ننطلق منه ونؤسس عليه. يستند تصور الليبرالية للعالم إلى أفراد أحرار متساوين، وذلك بمعزل عن أصولهم الاثنية أو الثقافية أو خياراتهم الشخصية، أفراد يسعون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة وتقرير حياتهم من دون تدخل من أحد. ومن أجل صيانة حرية الأفراد وضمانها، تشدد الليبرالية على الفصل بين المجال العام للدولة، الدولة التي يجب تقييد قدرتها على التدخل قدر الإمكان، والمجال الخاص للأفراد وما يتضمنه من ملكية خاصة وقيم دينية وأخلاقية. تعول الليبرالية على أنانية الفرد نفسه من أجل تحقيق الخير العام، فالليبرالي لا يتخيل شأناً عاماً لا يكون سوقاً، بحيث يصبح البرلمان نفسه سوقاً للمناقشات والتنافس في الأفكار بين الأفراد. لهذا رفض شميت أن تكون الديموقراطية محض مسألة إجرائية لتظهير غالبية من آراء «أفراد»، فالليبرالية ليس لديها ما تقوله بصدد السياسة والدولة، بل هي نقد للسياسة والدولة. أسطورة الليبرالية القائمة على «الفرد الحر» عاجزة عن استيعاب السياسة. لم يقيض للديموقراطية الليبرالية الاستقرار إلا عندما فصلت بين المجالات المختلفة للوجود الإنساني وأحالت المسائل الاقتصادية والدينية والأخلاقية إلى الحيز الخاص حتى تنجح في تحييد مصادر النزاع على المستوى السياسي.

المبدأ الديموقراطي يقوم على سيادة الغالبية، أياً يكن فهمنا لهذه الغالبية، والنظام الديموقراطي هو النظام الذي يضمن التحقق السياسي لهذه السيادة. بالمقابل يقوم المبدأ الليبرالي على أولوية حريات الأفراد في مواجهة أي نظام سياسي. وهذا ما يجعل الديموقراطية والليبرالية متناقضتين نظراً لاختلاف نقاط الانطلاق: الجمهور (أو الشعب) في مواجهة الفرد. نقد شميت وعداؤه لليبرالية لم يكن حكراً على اليمين، بل كان له صداه في أوساط يسارية مناهضة لليبرالية، وإن تمت صياغته بلغة مغايرة.

سقطت الديموقراطيات الليبرالية بين الحربين تحت وطأة التعارض الذي رصده شميت، لكنها ازدهرت لاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية. فما اعتبره شميت تعارضاً مطلقاً لم يكن كذلك، فقد ظهرت إمكانية الجمع بين المبدأين في الديموقراطيات الليبرالية في إطار ثقافة سياسية تقوم على أولوية الأفراد وحقوقهم الطبيعية غير القابلة للانتقاص.

التناقض الممكن الذي رصده شميت بين الديموقراطية والليبرالية يفيدنا في فهم السياق السياسي الذي تتحرك داخله الحركات الإسلامية. فهي أعلنت قبولها بالمبدأ الديموقراطي بصفته سيادة الغالبية، لكنها تعارض في الوقت ذاته المبدأ الليبرالي.

يقدم النقاش حول المبادئ ما فوق الدستورية في مصر مثالاً ممتازاً لمقاربة هذه المعضلة. كانت المبادئ ما فوق الدستورية صياغة أخرى لـ «الحقوق الطبيعية» التي لا يمكن أي نظام سياسي أن ينتهكها. الحقوق التي ينطلق منها الخطاب الليبرالي كأساس لأي نقاش جدي حول الديموقراطية، وهو ما أكد عليه الليبراليون المصريون. بالمقابل اعتبر الإسلاميون تثبيت هذه الحقوق في شكل مُسبق مصادرةً لإرادة الغالبية وفرضاً فوقياً لقيم معينة من دون استفتاء عليها، وعليه طالبوا بإخضاع كل خلاف لاستفتاء الغالبية. وقتها، رأى الليبراليون في سلوك الإسلاميين تهديداً للديموقراطية، لكن ما فعله الإسلاميون كان انتصاراً للمبدأ الديموقراطي على المبدأ الليبرالي، انتصاراً لمبدأ الهوية والتجانس على «حرية الأفراد».

تشكيل الغالبية، التي يدعي الإسلاميون الحديث باسمها، اعتمد أساساً على تسييس البعد الأخلاقي ونقله من المجال الخاص إلى المجال العام. فتخضع المعايير الأخلاقية التي تحكم السلوك الشخصي لإرادة الغالبية، وعملياً لسلطة الدولة وتدخلها. لكن تسييس الأخلاقي حمل تهديداً جدياً للعديد من الجماعات التي لا تشاطر الغالبية «أخلاقها» اليومية والتي يصبح نمط حياتها، بذلك، مهدداً بإرادة الغالبية من ناحية، ومن ناحية أخرى قسّم الجماعة الوطنية على أساس ديني، حيث يتداخل الأخلاقي بالديني، وهو ما فجر سؤال الجماعة الوطنية وهويتها وخطاب الدولة القائم على المساواة بين جميع المواطنين.

اعتماد المبدأ الديموقراطي، أي سيادة الغالبية وتحقيق التماثل بين الحاكم والمحكومين وتعريف هذه الغالبية على أساس تسييس البعد الأخلاقي القابع في صميم الحيز الشخصي، مزق فكرة الجماعة الوطنية الخاصة بالدولة إلى غالبية في مواجهة أقليات تنظر برعب إلى سيادة الغالبية باعتبارها تهديداً مباشراً لها.

الإسلاميون لم يرفضوا المبدأ الديموقراطي (لنتغاضى حالياً عن مسألة السيادة التشريعية) بل دفعوه إلى أقصاه في مجتمع منقسم حول القيم الأساسية للحياة الجيدة. ما رفضه الإسلاميون في المقابل هو المبدأ الليبرالي الذي يكرس ويضمن وجود حقوق أساسية لا يمكن انتهاكها من قبل أي نظام سياسي، بما فيه النظام الديموقراطي. فالمآل الطبيعي للخيار الذي ينشده الإسلاميون في هذا السياق هو استبداد الغالبية.

المعضلة التي واجهها الليبراليون بالمقابل تمثلت بغياب أي شعبية للمبدأ الليبرالي، بحيث يكون مؤسِساً في الثقافة السياسية العامة، بما يُمكّن من بناء ديموقراطية ليبرالية تؤَمن غالبيات لا تشكل تهديداً للأفراد وتضمن استقلال المجال الخاص، والأخلاق في القلب منه.

التحدي الإسلامي ليس إسلامياً، بل هو تحدي الجمع بين الديموقراطية والليبرالية. التحدي الذي نواجهه في شكل متزايد على مستوى عالمي مع صعود الشعبويات والشك المتزايد بالنخب السياسية والقيم الليبرالية التي لا يظهر أنها تبدي اكتراثاً واهتماماً بالطبقات الدنيا، بل إنها تُستخدم وفي شكل متزايد لحماية من هم فوق. في الحالة العربية يزداد هذا التحدي مع انقسام المجتمع إلى جماعات أهلية وأنظمة قيمية متباينة، بجوار أنظمة سياسية مستبدة تسعى إلى دفع هذه الجماعات إلى مواجهة بعضها البعض.

شميت محق في أن الديموقراطية والليبرالية ليستا متوافقتين في شكل طبيعي، بل قد تكونان متعارضتين تماماً. في المقابل علينا أن نتذكر أن الفصل بينهما لم يقد إلا إلى خسارتهما معاً.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى