مراجعات كتب

الدَين في التاريخ البشري

على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في أميركا الآن، يتصدر كتاب عالم الأنثروبولوجيا الأميركي، دافيد غرابر، “خمسة آلاف عام من الدَين”، والذي يتقفى أثر التعامل بالدَين على مدار التاريخ. مجلة “نوفل ابزرفاتور” الفرنسية (7 تشرين الثاني 2013) أجرت مع العالم الأميركي حواراً حول فحوى هذا الكتاب، هنا مقتطفات منه:

في كتابتك “خمسة آلاف عام من الدّين”، ترفض الفكرة الراسخة منذ قرون، من إن العجز من الايفاء بالدّين عملية لا أخلاقية، خصوصاً ان التاريخ والأديان يعلموننا بأن الإيفاء بالديون هو فرض واجب.

الدَين هو وعد من المستدين الى الدائن. طبعاً عندما نعِد شخصاً بأمر ما علينا الإلتزام بعهدنا قدر الإمكان. ولكن ما أثار تساؤلاتي هو الوزن الأخلاقي الكبير الذي نعطيه لهكذا نوع من الوعود الإقتصادية. عندما يعد رجل سياسي الناخبين، خلال حملة إنتخابية، بعجائب الدنيا، وعندما تَعِد الحكومة المصارف بأنها سوف تدفع لها نسبة معينة من الفائدة، فنحن نميل الى الإعتقاد بأن وعود الأول، أي السياسي، مكتوب لها عدم التحقق، فيما تكون الثانية أي الحكومات معصومة بقدسيتها، لا يوجد من يحاسبها على إخفاقها بوعدها. كتابي هذا ألهمه نقاش جرى بيني وبين محامية يسارية بخصوص تدخل صندوق النقد الدولي في مدغشقر، حيث أمضيتُ بعض الوقت. حدثت أمور رهيبة في هذا البلد عندما جرى تطبيق إجراءات الإصلاح الإقتصادي التي فرضها صندوق النقد الدولي؛ ومن بين هذه الأشياء الرهيبة، إنتشار وباء المالاريا الذي قتل آلاف الآطفال بسبب عجز الدولة المدغشقرية عن تغطية نفقات اللقاحات اللازمة. قلتُ لهذه المحامية بأن إلغاء ديون مدغشقر سوف يكون شيئاً جيداً، طالما انه بقي على أهل البلاد ديون، بعدما أعادوا الكثير منها. أما هي، فأجابت: “ولكن علينا دائماً أن نفي بديوننا”. وهذه جملة لا شأن للإقتصاد فيها، إنما هي جملة تقود الى مبدأ أخلاقي. لماذا تكون أخلاقيات الديون متفوّقة على أوجه كثيرة أخرى في الأخلاق؟ إن كتابي هذا ولد من هذه التساؤلات ومن غضبي أيضاً.

تقول في كتابك ان العديد من الأديان تقوم على الفكرة المحورية من الدين الأساسي الذي استعاره الإنسان من الله، من الآلهة، من الطبيعة… هل يكون الإنسان كائن مديون الى الأبد؟

معظم النصوص الدينية تثير هذه المسألة وتقول إن الأخلاق عبارة عن دَين توفيه. الدَين البرهماني يعلم بأن الحياة عبارة عن عقد دين معقود بين الإنسان والآلهة، وبأن بلوغ الحكمة يعفي صاحبها من هذا الدين.

من أجل الأضاحي أيضاً…

نعم الأضاحي هي عربون، والمرء يصفي رصيده عندما يموت. ولكن فكرة أخلاقية الدين تصطدم بواقع إن على المرء هذا أن يصبح حكيماً ليكون قد سدّد دينه، أو أن ينجب الأطفال لكي يفي بدينه تجاه أهله. في اللغة الآرامية، كلمة دَين تعني في الوقت نفسه الخطيئة أو الذنب. في التوراة، الآثمون لديهم دين عند الله، ولكن التوراة أيضاً تقول بأن هذا الدَين ليس مقدساً وبأن الله، في نهاية المطاف، سوف يلغيه. أما في نصوص الإنجيل، فان الخلاص يعني التخلّص من الديون. وهناك قانون يهودي قديم، يعود الى عهد موسى، ينص على ان كل الديون تلغى أوتوماتيكياً كل سبع سنوات، وبأن كل الذين استعبِدوا بسبب ديونهم، تُطلق حريتهم كل سبع سنوات أيضاً. إذن، التخلي عن الديون فكرة قديمة.

تلاحظ في كتابك أيضاً بأن لغتنا وصيغ التهذيب لدينا، كلها مشْبعة بأديولوجيا الدين.

لغتنا نُحتت حول ضرورة الإيفاء بدَين ما، وهذا أمر مثير للغاية. عندما نقول “شكراً”، نتوسل الرحمة، فنضع أنفسنا مباشرة تحت إمرة من شكرناه. في اللغة الإنكليزية، جذر كلمة شكراً (thank you) يعود الى فعل التفكير (think). في الأساس، “شكراً” بالإنكليزية، كانت تعني: “سوف أتذكّر ما فعلته من أجلي، وأنا مدين لك”. وهكذا في لغات أخرى أيضاً (…).

حسب رأيك، فإن الدَين كان في كل الأزمنة أداة في خدمة السلطة والعنف.

يدلّ التاريخ على إن أفضل الطرق لتبرير علاقات قائمة على العنف، ولتمريرها وكأنها قائمة على الأخلاق، هو أن تترجمها الى عبارات الديون؛ ما يخلق الوهم بأن الضحية هي التي ترتكب الإساءات. الدَين هو الرافعة السياسية الأكثر فعالية التي اخترعها الأغنياء والأقوياء: انها تزيّن أكثر المظالم عنفاً بين الدائن والمديون بطلاء أخلاقي وتُشعر المديون-الضحية بأنه هو المذنب. انها لغة الجيوش الغازية في كل الأزمان، ولسان حالها يقول: انتم مدينون لنا بالحياة، لأننا وفرنا عليكم الموت، وبما اننا على هذا الكرم، فاننا لن نطالبكم بشيء خلال سنة بأكملها، ولكن بعد ذلك ستدفعون (…).

في كتابك، تقيم صلة قوية بين تجارة العبيد وبين نظام الدَين.

نعم، وهذه حكاية نادراً ما تُروى. فتجارة العبيد العابرة للمحيط كانت كلها قائمة على الدَين وعلى إدارة الديون. المصرفيون الفرنسيون والبريطانيون كانوا يقدمون المال لتجار العبيد الأوروبيين، فيما هؤلاء كانوا يقدمون أموالاً الى تجار العبيد الأفريقيين، وهؤلاء بدورهم يقدمونه للوسطاء المحليين. كل الذين تعاطوا تجارة العبيد كانوا سجناء حلقة الديون المفرغة.

تقول أيضا بأن الديون تسبّبت دائما بانتفاضات.

إن الغالبية العظمى للثورات في التاريخ قادتها شعوب مديونة. طوال آلاف من السنين، الصراع بين الأغنياء والفقراء إرتدى شكل الصراع بين دائن ومديون. كل الثورات الشعبية اندلعت بالطريقة نفسها: بتدمير شبه طقوسي للوائح الدين ودفاتر حساب الدائنين.

إلغاء الدين اليوم، بالنسبة لك أنت الناشط في “وول ستريت”، هل هو طوبى؟ هل يمكن تصوره؟

انه أمر حتمي، لابد منه. فمستوى الدَين الحالي يجعله غير قابل للإيفاء. اليونان لن تفي بدينها، والأفراد المديونين لن يتمكّنوا كذلك؛ مثل هؤلاء الطلاب الاميركيين المديونين حتى الرقبة من أجل تسديد أقساط تعليمهم، وهم الآن في فخ نصبته لهم المصارف، ولا يجدون فوق ذلك عملاً. والمسألة ليست في معرفة ما إذا كانت الديون سوف تلغى، إنما في معرفة بأية نسبة سيكون عليه هذا الإلغاء، وبأية ظروف سوف تتم، ومن أجل أي غرض؟ الإنجاز الأعظم هو إلغاء كل الديون، الدولية منها والفردية، لأنه سوف يخفف عن الكثير من الآلام الإنسانية وسوف يذكّر بأن المال ليس مقدساً وبأن دفع الديون ليس جوهر الأخلاق. هذا الإنجاز، هل سيأتي من تحت، من ضغوط سياسية تمارسها الحركات الشعبية، أم من فوق، بحيث يحتفظ بالحد الأدنى من التفاوت الإجتماعي مع الحد الأدنى من التغيير؟ هنا بالذات تقع المعركة الحقيقية اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى