صفحات المستقبل

الدَيْن في الأعناق… إقطعوها!/ روجيه عوطة

 

 

الدَيْن في الأعناق… إقطعوها! عبد الباسط الساروت كدّر اللاممانعة التي لطالما وصفته بالبطل

بعد توطئة سلسلة “نثور بلا ثورة“، والحلقة الأولى عن القتلى في سوريا، هنا الحلقة الثانية كمحاولة عن العلاقة بين نظام الأبد، ودولة البقاء، والفارين في أرض الموت.

(إلى سيفو، “داعشي” قتلته “داعش”)

ما أن فر الناس من سجن الأبد حتى وصلوا إلى أرض الموت، حيث تفلتت مكبوتاتهم، الهوياتية والمخيالية وغيرها، وتدفقت على السطح. لقد كانت الطريق شاقة للغاية، غير أن الفارين فيها لم يتراجعوا، أو يتقهقروا أمام العنف السلطوي، صانعين أسحلتهم، التي استخدموها للإنفصال عن النظام. في ذلك الحين، ضاعف “البعث” من قساوته، مستعيناً بالميلشيات الآتية من إيران ولبنان والعراق، وعلى المقلب الآخر منه، لم يتوقف خطاب اللاممانعة عن القول، بلسان المكتشف، ونبرة المتحسر، في “التفكك الوطني” وتغير “وجهات الصراع”، فضلاً عن محاولته الرد على السؤال النظامي المتعلق بـ”سلمية الحراك أو تعسكره”. هذا، وقد استمر في تكرار مقولاته المجردة عن “مستقبل الثورة” و”عقلها” و”البديل الناتج عنها”. أما ممكنه، فظل على حاله، منزوعاً من السياقات، ومعقوداً على نقص متخيل فيها، قاموسه يبدأ بـ”تطبيق القانون”، ولا ينتهي بـ”الحفاظ على شرعية الدولة”.

في حدث تفجر اللاوعي، كانت اللاممانعة تطالب خائضيه بـ”الوعي”، والممانعة تنال منهم.

كيف نهرب من الموت، أي نقدر عليه، كيف نتخطى أرضه إلى أرض أخرى، مع العلم أن المواجهة مع الأبد لا تزال مفتوحة، والقتلى يتضاعف وجودهم بيننا يوماً بعد يوم؟ كانت هذه استفهامات الثائرين، التي أجابت اللاممانعة عليها بصرف النظر عن الأحداث، وبصياغات جامدة، تهدف إلى ضبط الخروج من النظام، وتحديد حركته. فعندما بدأت، على سبيل المثال لا الحصر، انشقاقات الجنود عن المؤسسة العسكرية، وراحوا يقومون بعمليات تستهدف مقرات “البعث” الأمنية، انتشرت مقولة “إخضاعهم في جسم سياسي خدمةً للثورة وأهدافها”، التي حضر وراءها الخوف المجيب على تهمة النظام حول “التسلح”، ومن دعايته حول “المجموعات الإرهابية”.

في كل الأحوال، لم ينتظر المتحركون على أرض الموت مقولات المتجمدين في خطاب اللاممانعة كي يتدبروا الأحداث، ويبذلوا ما في وسعهم لمواصلة المواجهة والفرار، ذاك، بإمكاناتهم المصنوعة من الواقع، وفي مساراته المحايِّثة لمضامينه، الثقافية والإيديولوجية، وحتى الوهمية منها. فلم “يريدوا” الحرية، كموضوع مجرد أو متعالٍ أو خارجي، مثلما وصفته اللاممانعة، بل رغبوا فيها، وبحسب جيل دولوز، داخل مجموع من الأوضاع والتنسيقات والأحداث الكثيفة، التي حين أصبحت راديكالية، لم ينسحبوا منها إلى الخلف، لم يعودوا إلى المجزرة، بل تقدموا أكثر، أو ظلوا في أماكنهم على الأقل. على هذا النحو، وعطفاً على تخلص مكبوتهم الهوياتي، السنّي تحديداً، من كبت الأبد، وخروجها على السطح، شكلوا كتائبهم المسلحة، بوجوهها الدينية، التي سرعان ما تكاثرت، واندمجت، وانفصلت، ليظهر بينها التنظيم الأقوى، أي “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قبل أن تصير “دولة الخلافة”.

على متن الهوية

تفلتت الهوية الدينية المكبوتة تاريخياً على أرض الموت. تمسك بها أصحابها، متشكلين عسكرياً بالإستناد إليها، من دون أن يغلقوها. فمن خلالها، يرغبون في حريتهم كمجموع سياقات، يبنونها، لتدبير الوقائع، وخوضها. بذلك، لم يكن التردكل (من راديكالية)، بمستوياته المختلفة، مجرد رد فعل سلبي على عنف النظام، بل أنتجته تآزرات عدة، اقتضابها مغادرة أرض الموت على متن الهوية، التي صعدت على السطح. مع الإشارة إلى أن الهوية هنا لم تكن دائرية، بل كانت خطاً، يحمل الهاربين إلى التنقل فوق الأرض. فمن غرفة محاصرة في حمص، كان عبد الباسط الساروت يعدد المناطق، يرسم جغرافيتها بالأغنية، مثلما كان يكتشفها، هو ورفاقه، بالسلاح. ذلك، قبل أن يخرجوا من مدينتهم، ويعلن الساروت نيته الإلتحاق بـ”داعش” أو “النصرة”، فتتكدر اللاممانعة، التي لطالما وصفته بـ”البطل”. ومع قراره الجديد، عاد، بالنسبة إليها، مجرد “شاب تقليدي”، غير حديث، مثل رفاقه المتطرفين. فهؤلاء بتوصيف سوسيولوجي لاممانع آخر، “أبناء الأرياف والضواحي المهمشة”. لذا، ليس غريباً عليهم، بعد تصنيفهم وحشد تلك الأسباب من حولهم، أن يستحيلوا “متطرفين”، و”يخونوا الثورة”. مع العلم أن الخيانة قد تكون طريقاً للفرار في وجه النظام، على عكس الغش، الذي لا يؤدي سوى إلى العودة إليه.

تقول اللاممانعة أن شاباً، مثل الساروت وغيره، لم يلتحق بـ”داعش” سوى بعدما “فقد الأمل”، وعانى الحصار والتجويع، وربطاً بتوصيفه، بأنه “تقليدي” أو “شعبي” إلخ. لا بد أن تكون تربة “وعيِه” خصبة من أجل يتحول إلى “عدمي”. وهذا الوصف الأخير، يطلق على المقاتلين السوريين المنتسبين إلى التنظيمات المتطرفة، لا يؤدي سوى إلى محوهم، كأنهم في الأصل لم يتحركوا، ويجربوا المفترض، ويحاولوا المُستطاع، قبل أن يجدوا في انتسابهم إلى الراديكالية الجهادية سبيلاً للهرب من الأبد، أي إلى مواجهته. إذ شاهد هؤلاء الشباب في فعلهم الإنتسابي طريقهم الثورية الجديدة، وذلك، على أساس لقاء في صعيد تدبير الأحداث، التي خاضوها وصُقلوا داخلها، “ما في بني آدم ما بيخطئ…واحد منا عامل حديد، واحد نجار، وواحد لاعب طاولة، وواحد كان إمام جامع…هادا شلون بدك يا يخططلك عسكرياً…لولا الله سبحانه وتعالى، وهلحصار علينا… ضغط وحرب.. ما منعرف نعمل شغلة… نحنا صار يخاف النظام نطلعله من حنفية الماي”، يقول الساروت في فيديو الخروج من حمص. إذاً، ثمة تجريب على أرض الموت للفرار من الأبد، تجريب في صناعة الممكن، وليس التحرك من أجل تحقيق تأويلات خارجية. وهذا ما يحاكي المذكور في إحدى الكتب الجهادية “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة” لأبي بكر ناجي، ذكرته منال لطفي في مقالتها المعنونة: ماذا تقرأ داعش؟

تعلم أثناء الحركة

يشرح مؤلف الكتاب مراحل الجهاد، التي تبدأ بـ”شوكة النكاية والإنهاك”، ثم، تنتقل إلى “إدارة التوحش”، قبل إعلان “قيام الدولة”. في الأولى يُنهك “العدو” من خلال عمليات عسكرية، مختلفة، صغيرة، و”لو كانت ضربة على رأس صليبي”، ونوعية، ولا يعني بها “عمليات سبتمبر، التي شغل التفكير فيها قد يُعطل عن القيام بالعمليات النوعية، الأقل حجماً”. أما هدف هذه المرحلة، فهو “اخراج المناطق من سيطرة الأنظمة”، وتحويلها إلى مناطق توحش. ذلك، لإدارتها، وهنا المرحلة الثانية، من خلال نبذ العشوائية، والنمطية الإدارية، التي تُبعد المقاتلين عن “رغبتهم المحمودة في الوصول إلى الشهادة في أقرب فرصة، والتي ينبغي توجيهها للعمل بقواعد عملية تجعل من أي عمل صغير خطوة كبيرة”، تنطوي على “عمليات تصاعدية”، أو “بمعدل ثابت”، أو على “صورة أمواج”. والأهم، في كل تلك الأفعال، بالنسبة إلى المؤلف، هو التربية العسكرية “داخل بيئة الأحداث”، أو بمعنى آخر، “التعلم أثناء الحركة”، فمن “كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد”، بحسب إبن تيمية. ففي أرض القتال يصير “التعرض للموت من أهم عناصر الترقية”.

إذاً، يتقاطع السياق الثوري، في كلام الساروت الذي قال لولا الحصار والحرب لما كنا “منعرف نعمل شغلة”، مع السياق الجهادي، الذي يعبّر عنه كتاب “إدراة التوحش”، بتركيزه على “التعلم أثناء الحركة”. وهذا التقاطع، يثبته أكثر ذكر الله في الحالتين، كما يمتّنه الموت أيضاً. ففي أرض الأخير، التي وقف المقاتلون عليها، مجربين وصانعين كل الوسائل للخروج من المجزرة، والإطاحة بنظامها التأبيدي، وفي حين، كانت الخطابات، وعلى رأسها اللاممانعة، تطلب منهم “تحقيق” إمكاناتها التأويلية، كان ثمة خطاب آخر، هو الجهادي، أو “الداعشي” تحديداً، الذي بدا أكثر محايثةً للمسارات وتنسيقاً لها، لا سيما بما يسميه “فقه الواقع”، بأحداثه ومساراته من ناحية، وثوريته، المتمثلة في تخطي الحدود بين المناطق والدول، وخلافه مع نظامه، أي “القاعدة”، وبناء شبكات الهجرة الجهادية إلى “بلاد الشام”، من ناحية أخرى. ذلك، في وقت، كان المجتمع الدولي يعبّر عن “قلقه”، ويفاوض بشار الأسد حول إرسال “المساعدات الإنسانية” إلى العالقين في معتقله الكبير.

والنقطة الأبرز في تلك الثورية، تتعلق بالعمل العسكري، الذي يستوي على التجريب، لا على التأويل، خصوصاً في المراحل السابقة على “قيام الدولة”. فصحيح أن الخطاب الجهادي يستند إلى النص الديني، بطقوسه وسننه. لكن ذلك لا يمنعه من رفع قيمة التجريب على التأويل، فيكتب أبي بكر ناجي:”إن أثر الطاعات والعبادات التقليدية وأثر المواعظ، بل وأثر القرآن تضاعف أثرها أضعاف مضاعفة في الإرتقاء بالأفراد بوجود هذين الأسلوبين”، أي “التربية بالأحداث والتربية بالقدوة”. لقد احتاج الفارون إلى تجريب الممكن، وصناعته، وليس تأويله، واستمداده من الخارج، وقد كان الخطاب الجهادي، على هذا الأساس، أقرب إليهم من الآخر اللاممانع، الذي ضعفت إمكاناته، ونضبت.

إلا أن التقاطع بين السياقين الثوري والراديكالي، توازى مع تقاطع ثان، بين الخطابين اللاممانع والجهادي، متعلق بفعل التذنيب، وعضوه العنق. فكما يذنب الخطاب اللاممانع الناس بتحويل موتاهم إلى ضحايا أو شهداء، “لهم دَين في أعناقنا، يجب الإيفاء به”، وهو، في نهاية المطاف دَين متخيل، كذلك الخطاب الجهادي، يذنب الناس، ويحملهم “الديون” و”الخطايا”. لكنه، وهنا الفارق، يقول لهم أن تلك “الذنوب” تتبدد في أرض المعركة من خلال التجريب، “بالتعلم أثناء الأحداث”، ليحل مكانها، أي في الأعناق، واجب البيعة، الذي يقوي “الشوكة” بين المجموعات، “ففي عنقها وفي عنق أفرادها بيعة للقيادة العليا”، بحسب أبي بكر ناجي.

بعد ذلك، وفي حال رسم خريطة الدَين، يظهر أنه، في البداية، زرعته اللاممانعة، عبر وصفها التأبيدي أو المتعالي للموتى، في أعناق الأحياء، الذين حاولوا دفعه ولم يتمكنوا، لأنه متخيل، بالإضافة إلى كون تسديده يرتكز على إمكان خارجي. لكنهم وجدوا أن في مقدورهم التخفيف منه عبر الجهاد، الذي يتيح لهم أن يتخلصوا من الديون في أرض قتالهم، شرط استقرار البيعة في مكانها. بالتالي، يصح السؤال: كيف يختفي الدَين بعد أن تحضر البيعة محله؟ الإجابة معقودة بالعنف، إذ قد يكون تقليد قطع الأعناق بمثابة فعل لنقل الدين من عنق القاتل إلى عنق القتيل، وبهذه الطريقة، يختفي الذنب في الأول، لا ليحل في الثاني بعد بتره، بل ليحل في عنق ثالث، سيعرض صاحبه للإغتيال، أو سيدفعه إلى استبداله بالبيعة. هذا ما أشار إليه أبو بكر ناجي، في حديثه عن “سياسة الشدة” في مناطق “التوحش”، التي تدفع الناس إلى الإلتحاق بالتنظيم الجهادي، بعد معاقبة بعضهم.

دولة النظام والثورة

لقد احتاج الفارون من الأبد إلى خطاب يواجهون به الموت. كان الخطاب الجهادي، بثوريته، وبعلاقته مع الأحداث، يقول لهم:”اعترضوا الموت، تتعلموا أكثر”، وذلك، لا كي تفروا منه بل لـ”تبقوا” على أرضه. وفي هذا السياق، تتضاعف خطورة ذلك الخطاب، وتنظيماته، وفي مقدمتها “داعش”. فالتقاطع السياق الثوري مع السياق الراديكالي لا يعني الدفع إلى تبنيه، لا سيما في مرحلة “إعلان الخلافة”، أي “البقاء” على أرض الموت و”التمدد”. ذلك أن الخطاب قد يعين الناس، لا سيما المقاتلين، على الثبات، أو على عدم الرجوع إلى الأبد. لكنه، في الوقت نفسه، يمنعهم من التقدم، من تجاوز أرض الموت. فـ”الدولة الإسلامية” تجمع بين الأبد والموت في البقاء. لذلك، تبدو كأنها حليفة الإثنين، إذ لا يقصف النظام مقراتها في الرقة وغيرها، كما أنها، بثوريتها، تتيح للسوريين، الملتحقين بها، القوة لتدبير الأحداث، وشق سُبل المواجهة.

ليست “صنيعة النظام”. لكنها، ليست “صنيعة الثورة”. بل إنها “دولتهما” التي لا تُسقط الأبد، ولا تسمح للناس بتخطي الموت، بل تبقيهم على أرضه. كما أنها تعمل بثنائية، جامعةً بين الكاريكاتورية والسلطة، بين الهزل والجدية، بين غبار الصورة وضبطها، بين الإنشقاق والتحكم، بين التخلص من الدين بالبيعة وقطع الأعناق بالسيف.

كما أن “داعش” هي تلك “الدولة”، التي لطالما طالب اللاممانعون الحفاظ عليها في سوريا، أو طالبوا بإنشائها، وهي “الثورة” التي لم يتوقفوا عن جوهرتها، مثلما أنها، كانت قبل إعلان “الخلافة” على وجه التحديد، خط فرار من الأبد، وهي الآن تتحول إلى دائرة مقفلة على ما كان مكبوتاً، فسال، فكُبت من جديد. كيف يخرج الفارون منها، كيف “يفقهونها” ويتخطونها، كيف يستخدمون سياقها الثوري من دون أن يقعوا في سياق “البقاء”، كيف “يتمددون” خارج أرض الموت بلا أن يُعتقلوا فيها؟

هذا ما ستقدر عليه مجموعات عسكرية أخرى ربما، وهذا ما ظهرفي مواقع التواصل الإجتماعي، عند إعلان “الدولة” خلافتها والتي راح كثيرون يسخرون منها. فقد كان فعلهم بمثابة السبيل الأولي للخروج من أرض الموت إلى أرض أخرى، وليس كتمسك بالسابق أو “البقاء” فيه، بحيث بدا تهكمهم مثل المواجهة الأولى مع حدثٍ واضح وغامض على حد سواء، فضحكهم لا يعني أنهم لم يأخذوه بجدية، أو أن ثمة جهادياً داخلهم أفرحه الإعلان. وبالمناسبة، هذه الاستراتيجية القديمة، صنعها الثوار في حمص، الضاحكون “أثناء الحركة”. هؤلاء الذين خرجوا من المدينة، بعدما قصفهم النظام بالبراميل، و حاصرهم خطاب اللاممانعة بالعداء للسخرية.

 

الحلقة المقبلة: من “قلب العروبة” إلى قلب العالم الذي لا قلب له المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى