صفحات الثقافة

الذبابة التي تفكّر في الألم/ فيتولد غومبروفيتش

 

 

يقدّم ميلان كونديرا الروائي البولوني فيتولد غومبروفيتش Witold Gombrowicz كثالث ثلاثة افتتحوا العصر الجديد للرواية الأوروبية ببعثهم التجربة المنسية لرواية ما قبل بالزاك، مستحوذين على المناطق التي كانت سابقا محفوظة من أجل الفلسفة أو محسوبة عليها. الأوّل هرمان بروخ بثلاثيته الروائية السيرنمائيون التي يصوّر فيها انهيار الإمبراطورية الألمانية سنة 1918 وروبير موزيل  Robert Musil  بروايته “رجل بدون مزايا” الرواية الاستثنائية على حدّ قول الروائي الألماني الكبير توماس مان. وفيتولد غومبرفيتش بروايته “فيردي دورك” التي كتبها سنة 1937 قبل رواية جان بول سارتر “الغثيان” بعام والتي صادرت بنجاحها المكان الحقيقي الذي تستحقّه رواية غومبروفيتش، حيث اعتبرها مرّة أخرى ميلان كونديرا أنّها أحقّ بالامتياز والتقدير من رواية “الغثيان” التي لم تكن حسب وصفه سوى درس يقدّمه مدرس الفلسفة بشكل روائي من أجل تشويق تلامذته الضجرين، في حين أنّ الرواية التي يمكن اعتبارها بحقّ رواية وجودية كانت رواية “فيرديدورك” لفيتولد غومبروفيتش.

فيتولد غومبروفيتش من عائلة ذات أصول ارستقراطية، فوالده رجل أعمال من أصل ليتواني مولع بالنساء والأسفار، وأمّه من عائلة ملّاك أراض بولونية دأبت على التزاوج فيما بينها ممّا خلّف بين أفرادها العديد من المرضى العقليين والمعتوهين، يقول فيتولد عن ذلك: “… عندما كنت أزور جدّتي في القرية كنت أموت رعبا، المنزل سفلي وكبير. ينقسم إلى جزئين، في واحد منهما كانت تقطن جدّتي، وفي الآخر ابنها، أخو والدتي المجنون جنونا مطبقا، والذي كان يذرع ليلا في الحجرات الفارغة محاولا كتم فزعه عن طريق خطب غريبة، والتي كانت تتحوّل شيئا فشيئا إلى أغنيات غامضة، لتنتهي إلى صراخ غير آدمي. لقد كان يدوم ذلك طوال الليل، وكنت خلالها أتنفّس الجنون”. رغم دراسته للقانون بأمر من والده فإنّ فيتولد كان مهووسا بالكتابة ومخالطة جماعة الكتاب البولونيين، لكن حماسه البالغ جعله في النهاية يوثر الابتعاد عن الأوساط الأدبية التي كان يكنّ لها الازدراء، منصرفا إلى كتابة عمله الأساس “فريديدورك”. النقاد والأدباء البولونيون تلقوا هذه الرواية بالكثير من الاستهجان، وسوء الفهم الكبير. على إثرها ولاستشعاره بما ستؤول إليه الأوضاع في بولونيا وأوروبا سيقرّر في أحد أيام 1939 والحرب العالمية الثانية تقرع طبولها أن يهاجر إلى الأرجنتين، حيث سيخلد إلى صمت من نوع خاص. حدّد فيها لنفسه وضعية أساسها الرفض للتقاليد الأدبية لبلده بولونيا خصوصا إرثها الرومانسي، والرفض للإذعان لأيّ التزام سياسي باعتبار أنّ جوهر الفنّ يتناقض مع أي التزام، وبالموازاة مع ذلك رفض للحداثة الغربية العقيمة والغارقة في التنظير وغير الوفية للواقع من وجهة نظره. إنّ غومبروفيتش لم يكن حداثيا، أو على الأقل كانت حداثته مختلفة.

عاش فيتولد في منفاه الأرجنتيني حياة البؤس، مكتفيا بأعمال لا تدرّ عليه دخلا كافيا، محاولا نشر أعماله دون جدوى. الوسط الأدبي في الأرجنتين لم يأخذه بمحمل الجد رغم علاقاته الجيّدة بلويس بورخيس وأرنستو ساباتو. المرة التي أثار فيها ضجّة منقطعة النظير بإلقائه محاضرة مثيرة تحت عنوان “ضدّ الشعر والشعراء”. بعد روايته الرّائدة سيواصل بحثه الدّائم والمؤرق عن الواقع والعلاقة الصادمة به. ستأتي روايته “بورنوغرافيا” و  Trans-Atlantique لتنتبه إليه أوروبا وفرنسا على الخصوص، ممّا جعله يجمع حقائبه إلى الجنوب الفرنسي لينشر روايته الأخيرة “كوسموس” وليبدأ كذلك الحديث عنه مرشحا لجائزة نوبل، لكن مرض الربو وضعف صحته أرغماه على الاستسلام أخيرا للموت. قبل ذلك نشر “يوميات” أمتع كتبه وأغناها. قبل موته وكعادته في الكتابة انطلاقا من فكرة أو صورة عابرة، كان يتحدث عن روايته القادمة بطلتها ذبابة منشغلة بموضوع الألم. إنّه الشكل ذاته في الكتابة الروائية الذي يعد غومبروفيتش من أهمّ روادها.

مقتطفات1:   “من يوميات فيتولد غومبروفيتش يفسّر فيها طريقة اشتغاله في الكتابة الروائية، خاصة في رواية Cosmos.”

1962

ما الرواية البوليسية؟

إنّها محاولة لتنظيم الفوضى. لهذا فإنّ روايتي Cosmos التي أحبّ أن أسمّيها “رواية تشكّل الواقع” ستكون نوعا من الحكي البوليسي.

1963

أطرح نقطتين للانطلاق، نقطتين غير مألوفتين ومتباعدتين كثيرا:

أ‌- النقطة الأولى، عصفور دوري مشنوق.

ب‌-  النقطة الثانية، الجمع بين فم كاترين ولينا.

هاتان المسألتان تشرعان في المطالبة بمعنى.

الأولى تنفد إلى الأخرى متجهة إلى فكرة كلّية. هكذا تبدأ سلسلة من الافتراضات، من التداعيات ومن التحقيقات، شيء ما يبدأ في التخلّق والنشوء.

لكنّه شيء جنيني، هو بالأحرى مسخ وجهيض…

وهذا اللغز الغامض وغير المفهوم سوف يقتضي حلّا له.

1963

أيّة مغامرات، أيّة حوادث هذه مع الواقع، أثناء هذا الصعود نحو أعماق الدياجير!

من منطق داخلي، ومنطق خارجي. من خدع المنطق.

من فخاخ عقلية: المتشابهات، والمتقابلات، والمتماثلات… إيقاعات شرسة فجأة تمتدّ بسبب واقع يحتدم ثمّ ينهار… وها هي المصيبة، وها هي الفضيحة.

بغتة الواقع طافح بسبب حادث فائض عن الحاجة. ثمّ إبداع لمجسّات جانبية… تجاويف معتمة… لاحتقانات هي أكثر فأكثر شاقة ومتعبة… ثمّ كوابح… فمنعطفات… فتيارات… إلخ. إنّها الفكرة تحوم حولي كما لو كانت حيوانا متوحشا… مشاركتي أنا من الجانب الآخر لذلك الجانب من اللغز، محاولا إنهاءه، ومدفوعا بتيار الأحداث والوقائع التي تبحث لنفسها عن شكل.

إنّي عبثا أقذف بنفسي داخل هذا التيار على حساب سعادتي…(لكن لا شيء يدعو إلى الخوف ستكون رغم ذلك حكاية عادية، ورواية بوليسية عادية، وإن كانت خشنة بعض الشيء)

في العدد اللامتناهي من الظواهر التي تعبر بي، أفرد واحدة منها. ألاحظ على سبيل المثال مرمدة على طاولتي (ما تبقى ينمحي في الظلّ). إن كان لهذا الإدراك ما يبرّره (كأن أكون مثلا قد لاحظت المرمدة لحاجتي إلى التخلص من رماد سيجارتي) فالأمر ممتاز. وإن كنت قد لمحت المرمدة بالصدفة ولم أعد لذلك ثانية، فالأمر جيّد. لكن إذا كنت قد لاحظت هذه الظاهرة دون هدف معين ثمّ عدت إليها

فيا للمصيبة! لماذا عدت إليها إن كانت فعلا بلا معنى!

آها. آها، هي إذن تعني شيئا بالنسبة إليك ما دمت قد عدت مرّة ثانية إليها.

مقتطفات2: من كتاب”دروس الفلسفة في ست ساعات وربع”

* تحدثت عن المنهج الظاهراتي لهوسرل لأنّه جعل الفلسفة الوجودية ممكنة. في واقع الأمر، الوجودية لا يمكن أن تنتج أيّ فلسفة.

*أنا أولي أهمية كبرى للتناقض في الفنّ. ينبغي على الفنان أن يكون الشيء ونقيضه. مجنونا وفوضويا ولكن أيضا منضبطا، باردا وصارما. ليس الفنّ أبدا شيئا واحدا، لكنّه معوض على الدوام بنقيضه.

* يزعمون أنّ شوبنهاور متشائم. لكن من القليل جدا قول ذلك، إنّه في الوقت نفسه رؤية عظيمة ومأساوية للأسف تتصادف تماما مع الواقع.

* ينبغي لفهم نيتشه، فهم فكرة مثلما هي بسيطة فكرة تربية الأبقار. مربّي الأبقار يحاول تحسين قطيعه بطريقة يدع فيها الأبقار الأكثر ضعفا تنفق، ومن أجل الإنتاج سيحافظ على الأبقار والثيران الأكثر قوة.

* يبدو الفلاسفة، عدا شوبنهاورأشخاصا مرتاحين في الجلوس على مقاعدهم حينما يتعاملون مع الألم بازدراء أولمبيّ مطلق، سيختفي يوم يذهبون إلى زيارة طبيب الأسنان ويصرخون آي آي آي يا دكتور.

المترجم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى