صفحات الثقافة

الذبح التلفزيوني بين داعش وأميركا/ محمد بركات

 

 

حتّى الألم بات تلفزيونياً. تماماً كما تبكي الأمّهات وهنّ يشاهدنَ مسلسلاً مكسيكياً أو تركياً أو مصرياً. أو كما يبكي أحدنا حين يسمع أغنية تذكّره بقريب مات أو بأبٍ بعيد أو أم مريضة.

وليس أدلّ على ذلك، من أنّ ذبح الصحافيّ الأميركي جايمس فولي “أيقظَ” العالم، وأخذه إلى “حرب عالمية” جديدة ضدّ ذابحيه، تنظيم “داعش”. وبعدها هزّ لبنان ذبحُ الجنديّين في الجيش اللبناني، علي السيّد ابن عكّار أوّلاً، وعبّاس مدلج ابن بعلبك ثانياً. قبل فولي وعلي وعبّاس قُتِلَ كثيرون. عشرات في تفجيرات هنا وهناك، في العراق وسورية ولبنان.

وبعد كلّ تفجير كانت النقاشات والتحليلات تذهب إلى السؤال عن هويّة المنفّذ أو هدفه أو الرسالة التي يُراد إيصالها. لكنّ “الذبح” غيّر كلّ شيء. صورة رأس مفصول عن جسده جعلت كلّ من شاهدها يتحسّس رأسه ويرتعب. وفتحت ثقباً أسودَ جديدًا في المخيّلة. خصوصاً أنّها صور معدّة للمشاهدة، وليست صوراً مسروقة مثلاً، أو مُسرّبة.

هي صورٌ قرّر ناشرها أن تبثّ الرّعب في قلوب من يرونها، وأن تجعلهم ينتقلون من مرحلة “التعوّد” على التفجيرات والقتل، إلى مرحلة جديدة من الألم والخوف والدّهشة والانتظار. لكن ما هو السبب؟ وكيف هزّ “الذبح” التلفزيوني رتابة القتل التي كنّا اعتدنا عليها؟ ولماذا قتل جنديّ واحد جعل اللبنانيين يندهشون ويرتعبون؟ وقتل صحافيّ أميركيّ واحد جعل أميركا وأوروبا ترتجفان؟ رغم قتل آلاف الأميركيين في العراق، وأكثر من مليون سوري وعراقي وفلسطيني ومصري وليبي ويمني ولبناني و….، دون توقّف، خلال السنوات الأخيرة؟ ليس الجواب سهلاً، لكنّه يرتبط ارتباطًا وثيقا بكيف أنّنا صرنا نشعر “تلفزيونياً”، وليس شعوراً مجرّدًا مرتبطاً بمنظومة قيم أخلاقية موحّدة، تقريباً، في العالم كلّه، ألزمت المتحاربين بعدم قتل الأسرى، بعد حربين عالميتين مدمّرتين.

إذاً فهو ليس المعيار الأخلاقي فقط. ففي سوريا والعراق، شاهدنا خلال السنوات الماضية إعدامات ميدانية لمئات، من جهات كثيرة متقابلة، لكنّها إعدامات بالرصاص، كانت تقتل رجالاً جاثين على ركابهم، معظم الأحيان، يديرون ظهورهم إلى الكاميرا، وتقتلهم الرصاصات في لحظات، بسرعة. حتّى ليشعر المشاهد أنّ المقتولين لم يتألّموا.

وبالطبع لم يكن لهم وجوه ولا أسماء، بل فقط ظهور تجعلنا “أبعد” عنهم وعن التعاطف معهم. لنبدأ أولاً من التمييز بين من يقتلهم صاروخ، فيقطّعهم في لحظة واحدة، إن في غزّة أو العراق أو لبنان أو سورية أو ليبيا، وبين من كانت تقتلهم رصاصات، كما فعل النظام السوري خلال التظاهرات الشعبية في الأشهر الأولى من الثورة، وبين من يذبحهم مقاتلو “داعش” أمام الكاميرات.

ما الفارق في “الألم” الذي يشعر به المشاهد (وليس المقتول) بين خبر صاروخ قتل عائلة كاملة، وخبر رجل قتله شرطيّ في تظاهرة، وخبر رجل ذبحه رجل آخر بالسكّين؟ ما الفارق بين قتل آلاف الجنود الأميركيين في العراق، وبين ذبح الصحافي جيمس فولي أمام الكاميرا؟ ولماذا خصّصت CNN أيّاماً طويلة تناقش جريمة قتل الصحافي “فولي”؟ ولماذا خرج الرئيس الأميركي باراك أوباما في “خطاب” إلى الأمّة لمواساتها بذبحه؟ بالطبع ليس فقط لأنّه أميركي، فقد قُتِلَ أميركيون كثيرون قبلها، جنوداً وعاملين في سفارات هنا وهناك.

بل أولاً لأنّه “ذُبِحَ”، وثانيًا لأنّه كان أعزل، عاجزاً، مغلوباً على أمره، وثالثاً لأنّ الجريمة تمّت أمام الكاميرا، وشاهدها الأميركيون والعالم أجمع. هو ألم “المعرفة”. أن يعرف “المشاهدون” كيف تمّت عملية القتل. وأن يعرف المقتول أنّه سيُقتَل. هذا واحد من أصعب أنواع الموت. فمن يسقط صاروخ على منزله، أو تخترق رصاصة قلبه في تظاهرة، يكون “جاهلاً” بموته، وغافلاً عنه، ويظنّ أنّه سينجو مع الناجين، أو على الأقلّ يأمل ذلك.

أما المأخوذ إلى “الذبح” فلا أمل لديه. حتّى أنّه يكون مستسلِمًا، ويبدو راضياً بقدَرِه، بالعجز واليأس وانعدام الأمل. وهذا هو الأصعب. ومن شاهد إعدامات بالرصاص أو بالذبح لا بدّ هاله مشهد استسلام الضحية أمام حكم الجلاد.

وإلا ما الفارق بين قتل المئات من المتظاهرين السوريين، وبين “ذبح” مغنّي الثورة السورية وأحد رموزها، إبرهيم القاشوش، وانتزاع حنجرته؟ وحين “نسمع” عن 100 قتيل في سلسلة تفجيرات هزّت بغداد، لا يروّعنا الخبر. تبدو الأرقام “عاديّة” في يوميات القتل العربي.

أما الذبح التلفزيوني فقد هزّ عرش العاديّة وأعاد مشاعرنا إلى المربّع الأوّل. الأرجح أنّ مشاعرنا ما عاد تستثيرها فكرة القتل بحدّ ذاتها. فالموت العميم بات هو “العاديّ”، في الشرق العربي كلّه. والنجاة من الموت تشدّ انتباهنا أكثر. مثل خبر عن “ناجية أيزيدية من المذبحة” يحصل على نسبة مشاهدة عالية، مقارنة بخبر عن “قتل 700 من عشيرة الشعيطات”.

ما يستثيرنا فعلاً هو اللحظات التي تسبق الموت. قرابة الأموات معنا في لحظاتهم الأخيرة. قرابة “العيش”. تلك اللحظات الأخيرة التي تسبق الموت. ومدى “معرفتنا” بتفاصيلها، أو جهلنا بها. لا شكّ أنّ الذبح عتيق وقديم من عمر البشر، أو قبلهم.

لكنّ تصويره بدقّة، وترويجه على نطاق واسع، وانغماس وسائل التواصل الاجتماعي التي “يسكنها” مليارات البشر، وتعريفنا بالمذبوح، جعل من هذا “الذبح” مشهداً يعمّ الكوكب ويؤثّر فينا إلى هذا الحدّ. في البداية لم يصدّق العالم.

أخذ خبراء يحلّلون فيديو فولي ليتبيّنوا إذا كانت “مزحة ثقيلة” من “داعش”، أو حقيقة مبرمة. وفي لبنان لم يصدّق كثيرون إلى أن استعاد أهل الشهيد، الجندي المخطوف من الجيش اللبناني، علي السيّد جثّته.

هي التفاصيل الأخيرة قبل “الموت” ما يجعلنا نتعاطف مع الميت. في الأفلام يروي لنا المخرج قصّة “بطله”، فنتعاطف معه، حتّى لو كان “البطل” هو القاتل أو السارق. يجعلنا المخرج نكره الشرطة، وأحيانا نكره القتيل، أو الذي تعرّض للسرقة، فقط إذ يقرّبنا من “رَجُلِهِ”.

هكذا يصير “المذبوح” أمام الكاميرا أكثر تأثيراً، خصوصاً إذا قال كلاماً في الفيديو، مثل فولي، أو علي السيّد الذي انشقّ عن الجيش، مُرغماً طبعاً، قبل ذبحه بأسبوع. وحين نعرف كيف يتكلّم وكيف يتصرّف ويشعر، و”نقترب” منه قبل ذبحه، يزداد ألمنا، نحن المشاهدين. هي المعرفة، معرفتنا بالمقتول، شجرة الأسف التي نأكل منها.

والصورة المفصّلة، ثمرة الغضب التي تُغرينا. وصعوبة الموت، ولحظاته الأخيرة، كأس الألم التي نشرب منها أمام مشاهد الذبح التلفزيوني.

تؤلمنا تلك اللحظات التي نعرف أنّها كانت طويلة على المذبوح، وبطيئة، وموجعة إلى حدّ لا يمكن تجاوزه، كما في حالة الذبح. فحين يحزّ رجل عنق رجل آخر، بالسكّين، فيقطّع جلده، وشروشه، وشرايينه، يتدفّق دمه، حارًّا على الرمال، فيموت ببطء، ثم يرتفع الرأس فوق الجسد، كما لو أنّ الميت يراقب، في لحظات الدماء الأخيرة المتبقّية في الرأس، جسده وهو يبتعد عنه، قبل أن يفارق “الوعي” بـ”الحياة”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى