صفحات العالم

الذكاء السياسي لبشار الأسد


عادل الطريفي

سئلت مارغريت ثاتشر مرة فيما إذا كان من «الذكاء السياسي» أن يستدعي الزعيم أي أزمة مقبلة مبكرا بمواجهتها بدل الانتظار، ردت بعد صمت قصير: «في غالب الوقت نعتقد أن الذكاء السياسي – الاستباقي – لا ينتهي كذلك، كل حركة استباقية لها رد فعل آني يتوهم المرء معه الذكاء، لكن الأهم هو ما يحدث بعد ذلك كرد فعل بطيء، لكنه طويل الأمد».

ربما كان يجدر بالرئيس السوري بشار الأسد أن يدرك أن استعداء الآخرين قد يبدو سياسة «ذكية» فور تدمير قنوات الاتصال مع العالم الخارجي، والاعتداء على الدبلوماسيين والسفارات الأجنبية، ولكن ما إن يستشعر عزلته حتى يدب فيه الخوف والارتباك. لقد قامت الجامعة العربية، في خطوة تاريخية، بتجميد عضوية سوريا، بل وذهب البيان العربي إلى الحد الذي طالب معه الجيش السوري بـ«عدم التورط في أعمال العنف والقتل ضد المدنيين»، وهي رسالة قُرئت على أن أغلبية أعضاء الجامعة لم يعودوا ينظرون إلى نظام البعث في سوريا كممثل شرعي للدولة السورية، ولعل هذا ما حدا بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى توجيه رسالة مباشرة للرئيس الأسد في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بقوله: «أعتقد أنني لو كنت مكانه لتنحيت».

إن أخطر سلاح ضد أي نظام هو سقوط شرعيته في الخارج؛ لأنه إذا بات هناك شبه إجماع على عدم الاعتراف بنظام سياسي فإنه لا مجال حينئذ لنجاته. لقد قام النظام السوري، منذ بداية الأزمة، باستعداء الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك لم تبقَ دولة خليجية أو عربية إلا ووجه لها السوريون أقذع الألفاظ والاتهامات، والآن لا يبدو أن دمشق قد استوعبت الدرس الليبي جيدا؛ فالسبب الرئيسي وراء الانهيار المدمر لنظام القذافي كان في وجود إجماع دولي وإقليمي على التخلص منه حين بدا الأمر ضروريا.

لقد حاول الرئيس بشار أن يناور بشتى التكتيكات المتاحة، حتى أصبحت الأصوات الصادرة من دمشق متضاربة، وتعكس ارتباكا كبيرا داخل مؤسسة الحكم؛ إذ يبدو أن موظفي النظام لم يعودوا يعرفون ما يحدث بعد أن أصبح القرار كله بيد العناصر الأمنية. خلال الشهور الثلاثة الماضية، حاولت الآلة الإعلامية للنظام في سوريا ولبنان تطمين عناصرها وحلفائها عبر ترديد عبارة أن «الأزمة قاربت على الانتهاء»، وعبر التأكيد أن النظام يتعمد ألا يزيد عدد القتلى في اليوم الواحد على بضع عشرات، متوهمين أن تكرار هذه الأوهام يغير من معادلة «الحرب النفسية» القائمة على الاصطفاف الطائفي والعرقي.

أيضا، يبالغ المعتذرون عن دمشق بالتخويف من أن سوريا لم تستخدم بعدُ أوراقها المهمة، محذرين في الوقت نفسه من أن الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله في لبنان، والحلفاء في العراق وغزة، والخلايا النائمة في الخليج، لم يتم اللجوء إليهم بعد، وتمضي الدعاية السورية إلى حد التهديد بإشعال المنطقة كما هدد الرئيس السوري في حوار سابق.

في الواقع، سوريا اليوم هي بلد مكسور ومحطم – من دون تهديدات الرئيس – لأنه لا يمكن إصلاح الشرخ الطائفي والاجتماعي الذي تسببت به الأحداث الأخيرة، ومشكلة الرئيس وعناصر نظامه أنهم إنما يقاتلون بعد أن انعدمت الحلول بالنسبة لهم؛ فهم يدركون جميعا أنه لم يعد بيدهم إلا خيار القتال؛ لأن السيناريو الآخر هو انهيار حزب البعث ومؤسساته كما في العراق 2003، أو لجان القذافي الشعبية في 2011.

لا شك أن خيار القتال حتى انهيار المعبد ليس ذكاء سياسيا، لقد فرط الأسد ونظامه بجميع الفرص المتاحة لعبور الأزمة، ورفض تقديم تنازلات «شكلية» فانتهى به المطاف محاصرا، وتحت تهديد التدخل الدولي، إما بفرض منطقة عازلة، وإما بحظر الطيران، وكلاهما قد يمهد لإسقاطه. ولكن ماذا عن صدقية تهديدات نظام الأسد بالحرب الأهلية، وإحراق المنطقة، والتلويح بأسلحة حلفائه الإيرانيين واللبنانيين؟

الرئيس بشار مصيب في أن المنطقة قد تتعرض للضرر الكبير في حال سقوط نظامه، وأن الحرب الأهلية محتملة لانعدام الضمانات والتوافق بين الطوائف، ولا شك أن حلفاءه سيتدخلون ما أمكنهم لمساعدته ومعاقبة الآخرين على التدخل في سوريا، ولكن ما يخطئ الرئيس بشار في فهمه هو أنه بالتهديد بهذا السيناريو قد مهد لفكرة أن نظامه قد يسقط على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها، وأن مرحلة «ما بعد الأسد» ممكنة حتى إن كانت مظلمة ومزلزلة.

الساعة الرملية للنظام السوري قد بدأت – كما يقول الكاتب مشاري الذايدي – و«حبات الرمل تنزل دون توقف من الأعلى إلى الأسفل»، والسؤال المهم هو فيما إذا كان حلفاء سوريا في الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله اللبناني سيقاتلون من أجله، أم يضحون به لحماية مصالحهم؟

في كتابه «سوريا وإيران.. التحالف الدبلوماسي وسياسات القوة في الشرق الأوسط»، يروي جوبن غودرزي (2009) أن الرئيس الراحل حافظ الأسد واجه في أكتوبر (تشرين الأول) 1987 أزمة كبيرة حينما طالبت الأكثرية في الجامعة العربية باستصدار قرار عربي يطالب الدول الأعضاء بقطع العلاقات مع طهران؛ فمن جهة دفعت الأعمال التخريبية التي قادها عناصر من الحرس الثوري الإيراني في مكة في شهر يوليو (تموز) إلى موقف عربي (سني) موحد تجاه ما اعتبروه اعتداء على المقدسات، يضاف إلى ذلك أن العراق كان يواجه تراجعا على جبهة الحرب مع إيران، مما دفع العراق إلى تخويف الدول العربية من أن أراضي عراقية قد تسقط في حال استمرت إيران في رفض مشروع مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، وتوتر الموقف أكثر بعد أن تورطت إيران في إغراق ناقلة نفط كويتية، والاصطدام بقطع من البحرية الأميركية في الخليج.

أمام الضغوط الكبيرة، أعلن حافظ الأسد مقاطعة قمة عمان – نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 – التي كانت مخصصة لمناقشة العلاقات العربية – الإيرانية، ما لم تتم مناقشة التهديدات الإسرائيلية، ودعم المقاومة الفلسطينية. ذهب العاهل الأردني الملك حسين حاملا رسالة من الخليجيين مفادها أن المعونات الاقتصادية إلى سوريا سوف تتوقف في حال قاطعت سوريا القمة، أو سعت إلى تعطيل قرار إدانة التعديات الإيرانية في المنطقة، وأضاف أن العراق يقود حملة لإعادة مصر إلى الجامعة، مما يعني أن مقاطعة سوريا للقمة قد تؤدي إلى تجميد عضويتها مستقبلا في تحالف عراقي – مصري – خليجي.

يقول غودرزي: إن حافظ الأسد استوعب الأزمة؛ حيث فاجأ الجميع بتغيير وزاري في رسالة مفادها أن سوريا على وشك تغييرات كبيرة، ثم اتصل بالإيرانيين ليقول لهم إن سوريا، خارج «الجامعة العربية»، لا تستطيع أن تخدم إيران، وإن عليهم أن يدركوا أن بقاء سوريا داخل «الجامعة العربية» حتى مع صدور قرارات إدانة لإيران فيه حماية للمصالح الإيرانية على المدى البعيد.

تخلى حافظ الأسد عن تهديده بمقاطعة القمة، وحضر إلى عمان ليلقي خطابا تجاوز فيه الساعتين عن رؤيته للعمل العربي المشترك، وتمكن، بمهارة، من ابتلاع كبريائه والجلوس إلى خصمه اللدود صدام حسين، ذلك كله من أجل امتصاص الضغوط بخصوص علاقاته بطهران، وعبور الأزمة مع الخليجيين.

ما بين الرسالتين الأردنيتين للرئيس بشار الأسد وأبيه أكثر من ربع قرن، لكن ثمة تشابها بين الحالتين. لقد كان الأسد الأب يدرك أن أهمية سوريا بالنسبة لإيران تكمن في كون سوريا جزءا فاعلا في السياسة العربية، وما يبدو أن الأسد الابن عاجز عن فهمه هو أن سوريا المعزولة عربيا والمجمدة إقليميا قد لا تساوي التضحية بالنسبة لإيران وحلفائها.

مؤخرا، حاول بشار الأسد تصحيح كارثة «التجميد» عبر الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة لعله يستعطف بعض القيادات العربية ليشتري المزيد من الوقت، لكن يبدو أن جرة الفخار الشامية قد كسرت.

قد تثبت الأيام المقبلة أن ما تم تسويقه بوصفه «ذكاء سياسيا» طوال العقد الماضي من حكم الرئيس الأسد لم يكن إلا جبلا من الأوهام.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى