الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات مميزة

الذكرى الثانية لخطف ناشطي دوما

 

الوضع الحالي لقضية مخطوفي دوما الأربعة/ ياسين الحاج صالح

■ بعد يومين من خطف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي في دوما في الغوطة الشرقية، تواصلتُ مع الناطق الرسمي باسم «جيش الإسلام»، سلطة الأمر الواقع في المنطقة، طالبا منـــه العون وراجيا، بوصفي زوج ســــميرة، تزويدنا، أهالي المخــطوفتين والمخطـــوفين، بما يحتمل من معلومات عن الجريمة لدى الجماعة.

لم يرد الرجل على سلامي، وجاءت ردوده مقتضبة وجافة دونما مبرر. وختم سلسلة تبادلات بيننا بالقول، إن جيش الإسلام «يعمل على تحرير المدن من الطغاة»، وليس له قوات داخل دوما.

لم يكن هذا صحيحا. فلدى «جيش الإسلام» مؤسسة أمنية نافذة في دوما، وله حواجز منتشرة، ولديه سلسلة سجون اسمها «التوبة»، ثلاثة منها كانت معلومة في ذلك الوقت، وكان في تداول السكان منذ ذلك الوقت أن هناك سجنا رابعا، سريا. هذا بدون قول شيء عن أن اختطاف امرأتين ورجلين عزل لا يقتضي وجود قوة أمنية كبيرة.

بعد يومين إضافيين بادر الرجل الجاف نفسه إلى الاتصال بي ليبلغني بكلام لين هذه المرة أن تشكيله يجري تحقيقا في الجريمة. لم يكن ذلك صحيحا أيضا. لم يهتم «جيش الإسلام» وقتها ولا في أي وقت لاحق بتفحص مكان الجريمة، «مكتب توثيق الانتهاكات»، الذي كان في الوقت نفسه سكنا تقيم فيه رزان وسميرة، قبل أن ينضم إليهما وائل وناظم في سبتمبر 2013. كنت في ذلك اليوم نفسه وجهت اتهاما سياسيا إلى «جيش الإسلام» بالمسؤولية عن الجريمة، مرجحا أيضا مسؤوليته الجنائية. استندت في ذلك إلى معرفتي بواقع الحال في دوما والغوطة الشرقية، حيث كنت قضيت أكثر من ثلاثة شهور بين ربيع وصيف عام 2013، وكذلك إلى استحالة أن يتحدى أي تشكيل آخر جيش زهران في عاصمته دوما، ثم إلى حقيقة تعرض رزان إلى تهديد بالقتل من «جيش الإسلام» قبل أسابيع من الخطف. وقتها استاء مُكلّمي، واسمه إسلام علوش، من اتهامي لجماعته، وأمعن في التجاهل، فسألني عما إذا كنت متيقنا أن الأربعة لم يتركوا دوما بإرادتهم!

في الشهر الأول من عام 2014، بعد نحو ستة أسابيع من الجريمة، كان زهران علوش بنفسه، يقول في مقابلة تلفزيونية: «ليس لنا ولا جندي واحد ولا مجاهد واحد في دوما»، «نحن جيش عسكري بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، و»لا نجلس في المدن». ولمح علوش إلى «كتائب متسكعة» لها مقرات في دوما. ومثل الناطق الرسمي باسمه، استطاع قائد «جيش الإسلام» أن يقول: نحن «لا نمارس دورا أمنيا»، وأشار إلى أن «جهات أخرى تمارس دورا أمنيا هي التي تسأل عنهم (المخطوفين الأربعة)». لكن علوش الذي لم يكن يقول الصدق، ويعرف أن معظم من كانوا يشاهدونه، وأولهم أنصاره بالذات، يعرفون أنه لم يكن صادقا في ما قال، ناقض نفسه على الفور تقريبا حين أضاف: «حولنا الأمر إلى مركز التوبة ليحقق في الموضوع، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك». وللأسف لم يسأله محاوره عما يكون هذا الشيء الذي اسمه «مركز التوبة»، وكيف يحيل الأمر إلى مركز التوبة الأمني من كان يقول قبل لحظات فقط إن جيشه لا يمارس دورا أمنيا!

في لقاء تلفزيوني على قناة «الجزيرة»، في يونيو 2014 نفسه، كان الرجل الطموح يسهب في الكلام عن الوظائف التي يقوم بها تشكيله، ومنها وظائف تعليمية (مؤسسة «اقرأ») ووظائف أمنية وقانونية، فضلا عن العمل العسكري. يحصل أن يعمي الطموح المرء عن تناقضات أقواله وأفعاله في ما بينها، وليس فقط مناقضتها لما يفترض أن يوجبه دينه عليه من أمانة وصدق.

وفي آخر أغسطس 2014، بعد شهرين من كلامه السابق، كان زهران علوش يسأل في مؤتمر صحافي رتبه لنفسه في الغوطة الشرقية عن «الناشطة رزان زيتونة»، فيقول إن جيشه «شكل لجنة أمنية» (للتحقيق في الجريمة التي كان انقضى ما يقرب من تسعة شهور على ارتكابها)، وأنه منذ أيام قليلة فقط أُرسِل له تقرير عن عمل اللجنة، وأنه ربما صار بمتناوله «أطراف خيوط»، لمح إلى أنها «تتعلق ببعض الاتجاهات الخارجية». قال أيضا إننا «نتابع الموضوع». وبعد عام وثلاثة أشهر لم يشعر زهران بالحاجة إلى توضيح نتائج متابعته للموضوع، وإلى أين قادته «أطراف الخيوط».

خلال هذا الوقت كانت تجمعت لدينا، أهالي المخطوفتين والمخطوفين وأصدقائهم، قرائن كافية، ترجح مسؤولية «جيش الإسلام» الجنائية، منها أن شخصا معروفا بالاسم دخل إلى كمبيوترات المخطوفين، وهذا الشخص من جماعة علوش، وأن شخصا آخر معروفا بالاسم أيضا كتب تهديدا بالقتل لرزان قبل أسابيع من الجريمة، وقد كان موقوفا على ذمة القضية من قبل جسم قضائي محلي ضعيف الولاية، ويشعر القائمون عليه بأنهم غير آمنين على حياتهم. زهران شخصيا زار الموقوف وتوعد بالإفراج عنه حين لم يسمح له بالانفراد به، وهو ما تم فعلا بعد حين. الرجل في دوما اليوم، يعمل في المؤسسة الأمنية لزهران. نعلم أيضا أن «شرعي» زهران، واسمه معروف كذلك، هو من حرض كاتب التهديد، وهي معلومة أيدها في اتصال مع كاتب هذه السطور أصدقاء محليون لكاتب التهديد، وليسوا خصوما لزهران وجيشه.

هذه المعلومات وغيرها أوردناها في مواد منشورة، ودعونا إلى تحكيم بيننا وبين زهران في شهر مايو من هذا العام، بما يمكن الرجل من أن يدافع عن نفسه، ويمكننا معا من التعاون لكشف ملابسات جريمة يقول انه لم يرتكبها. لم يستجب زهران، واعتصم بإنكار هش، بينما دفع جماعته إلى التسفيه، وفق استراتيجية التهويش المألوفة: من يتهمونه هم أعداء للإسلام! يحولون على هذا النحو جريمة سياسية محددة المعالم إلى قضية صراع عقدي.

دعوة التحكيم التي لم يرد عليها من قبل زهران وجماعته وجهناها، أصدقاء وشركاء في القضية للمخطوفين الأربعة، وقت كان الرجل في تركيا في أبريل ومايو 2015. وكان مما قاله لبعض من قابلوه في اسطنبول وقتها أن لديه ملفا ضخما في شأن القضية، وأن جماعته سيوفرون معلوماته في وقت قريب للعموم. وبدا لمقابليه أن تلميحاته وقتها كانت تتجه نحو «جبهة النصرة»، وليس نحو أي «اتجاهات خارجية». انقضت سبعة أشهر على ذلك الكلام، ولم يعلن الملف.

هل يحتمل فعلا أن سميرة ورزان ووائل وناظم أسرى عند «جبهة النصرة»؟ هذا وارد، والكلام في شأنه متداول، لكن الاحتمال ضعيف جدا في أن تقدم «جبهة النصرة» على الجريمة من دون تنسيق مع زهران وفي إطار صفقة ما بين الفريقين.

كان لافتا وقت زيارته لتركيا أن زهران حاول عرض وجه براغماتي، فصار من كان يقول قبل قليل: الديمقراطية تحت قدمي، وأنه لن يقبل بـ»مبدأ فوق دستوري اسمه الديمقراطية»، يتكلم هذه المرة على «الشعب السوري» وعلى اختياره لمن يحكمونه. وفي مقابلة مع صحيفة أمريكية، ميز الناطق باسم جيشه، هو نفسه المذكور في مطلع المقال، بين كلام متشدد بغرض «الاستهلاك الداخلي»، هذا تعبيره، وبين ما يفترض أنه الموقف الحقيقي المعتدل. هذا حضيض من عدم احترام جمهور مسانديه بالذات، قلما انحدر إليه متكلمو النظام الأسدي. في ذلك الوقت نفسه كان هذا الرجل نفسه يتصل بناشطات وناشطين «علمانيين»، معروفين، يمهد لهم بأن قائده زهران شخصيا سيتصل بهم قريبا. بدا أن تلك حملة علاقات عامة لتبييض السمعة، لكن الاتصال الموعود لم يجر. ربما خشي الجماعة أن ينقلب عليهم مخططهم.

أورد هذه المعلومات لأن من المحتمل أن يكون ملف القضية «الضخم»، الذي كان من المفترض أن يعلن قرييا وقتها، ربما يكون مجرد بند في حملة علاقات عامة، كان من مفرداتها المعلومة زيارة أشخاص، وحسن استماع لأشخاص، وعرض وجه أقل انغلاقا أمام أشخاص.

هذه الجملة من التصريحات والمواقف المناقضة للواقع والمتناقضة في ما بينها ترجح بقوة ضلوع تشكيل «جيش الإسلام» في دوما في اختطاف أو ترتيب اختطاف سميرة ورزان ووائل وناظم قبل عامين من اليوم. وهي تصلح منطلقا لمحاسبة الجناة وتحقيق العدالة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

الذكرى الثانية لخطف ناشطي دوما: نحن مخطوفون أيضاً

مجموعة الجمهورية

خُطفنا قبل عامين..

في التاسع من كانون الأول 2013، مع اقتياد رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة إلى جهة مجهولة، اقتيد كل الديمقراطيين التحرريين السوريين معهم إلى المجهول ذاته، ومضى عامان دون أي معلومات موثوقة عن أوضاع المخطوفين ومصيرهم. لسنا متضامنين مع مخطوفي دوما الأربعة ومطالبين بالإفراج عنهم فحسب، ولا نحاول حمل بعض الألم وحرقة القلب عن أهالي المخطوفين وأصدقائهم المقرّبين فقط: نحن مخطوفون أيضاً، وقضيتنا مخطوفة معنا.

رزان زيتونة، المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان منذ مطلع العقد السابق، والمُرافعة عن عدد لا يُحصى من المعتقلين السياسيين -بينهم إسلاميون كُثر- أمام محكمة أمن الدولة؛ وسميرة الخليل، المُعتقلة السياسية السابقة في سجون الأسد الأب، والناشطة السياسية والاجتماعية؛ وناظم حمادي، الشاعر والمحامي والناشط في مركز توثيق الانتهاكات ولجان التنسيق المحلية؛ ووائل حمادة، الناشط الثوري والحقوقي، والمُعتقل مرتين خلال الثورة السورية، غائبون عن أهلهم وأحبابهم وأصدقائهم منذ عامين، وهم أيضاً غائبون عن نشاطهم ونضالهم وقضيتهم.

قبل عامين من اليوم، ارتُكبت جريمة مركّبة ومتعددة المستويات بخطف رزان وسميرة وناظم ووائل. حُرم أربعة مواطنين من حرّيتهم بأسوأ الطرق وأكثرها انحطاطاً وجبناً، ويُكمل هذا الحرمان عامه الثاني اليوم؛ كما حُرم أهلهم وأصدقاؤهم من وجودهم، ما يجعلها جريمة مستمرة ومتجددة كل يوم بحقّهم؛ وأيضاً، ارتُكبت بخطف الناشطين الأربعة جريمة سياسية وأخلاقية بحق كل المؤمنين بسوريا ديمقراطية، إذ أراد الخاطف بفعلته الشنعاء أن يتخلّص ممّن رأى في إخلاصهم للثورة السورية وجذريتهم ضد النظام الأسدي المجرم وانحيازهم لحقوق وحريات السوريين خطراً على سعيه التسلّطي، وأن يوجّه رسالة لكل الذين يشبهون المخطوفين الأربعة في أفكارهم وانحيازاتهم أنهم أعداءٌ له، وأنه يريد أن يحرمهم من حقّهم بالوجود على أرضٍ يعتبرها ملكه. أسديٌ صغير خطف مناضلين عريقين وشجعان ضد الأسدين الكبار.

لجيش الإسلام، وقائده زهران علوش، مسؤولية سياسية مباشرة وواضحة منذ اللحظة الأولى للخطف، لأنه سلطة الأمر الواقع في دوما منذ ما قبل ارتكاب الجريمة وحتى اليوم. لم يقم جيش الإسلام بأي جهدٍ للتحقيق في جريمة شنعاء ارتُكبت في معقله ونطاق سيطرته، بل قام بعرقلة أي تقدّم في التحقيق في القضية ومحاولة إجلاء مصير المخطوفين الأربعة. لكن قرائناً عديدة تجمّعت خلال السنتين الماضيتين أشارت إلى أن مسؤولية جيش الإسلام تتعدى الجانب السياسي إلى الجنائي، فقد ثبُت أن قياديين في جيش الإسلام كانوا مسؤولين عن تهديدات بالقتل وصلت إلى رزان زيتونة قبل أسابيع قليلة من الخطف، كما أشار التهرّب المستمر لقائد جيش الإسلام وغيره من الناطقين باسم التشكيل المسلّح إلى أن قضية المخطوفين تُزعجهم، ووصل زهران علوش نفسه لدرجة من الرياء سمحت له بإجراء مقارنة مقيتة وابتزازية بين السؤال عن المخطوفين الأربعة وعن «نساء المسلمين» المُعتقلات في سجون الأسد. وكأن هناك تناقضاً بين السؤال عن مصير أربعة ناشطين كرّسوا حياتهم للنضال من أجل حقوق وحريات السوريين مخطوفين في مناطق سيطرته والسؤال عن «نساء المسلمين».

في ذات الخطاب التعيس، تحدّث زهران علوش عن «طرف خيط» توصّل إليه جيش الإسلام في تحقيقٍ مزعوم، قائلاً أن طرف الخيط هذا يشير إلى «جهات خارجية». بعد حوالي عامٍ ونصف من ذلك الخطاب، ما زال طرف الخيط المزعوم هذا غائباً عن أهالي وأصدقاء المخطوفين، وعن الرأي العام ككل.

قبل أكثر من نصف عام، وأمام تعنّت جيش الإسلام وقائده، أطلق أهالي وأصدقاء المخطوفين مبادرة علنية تُطالب بتحكيم بينهم وبين جيش الإسلام، بشروط وضمانات يرضى عنها الطرفان. هم يعرضون ما لديهم من أدلة وقرائن ضد جيش الإسلام، والأخير يعرض ما لديه من دحض لهذه الأدلة والقرائن. عبّر أهالي المخطوفين عن استعدادهم للاعتذار العلني والواضح لجيش الإسلام ولقائده في حال رأى المُحكّمون أنهم غير محقين في اتهامهم لجيش الإسلام بالتورط في خطف رزان وسميرة وناظم ووائل. نُشر نصّ المبادرة بشكل علني، كما تم إيصاله للعديد من الفاعلين في الشأن العام من القادرين على إيصاله لقيادة جيش الإسلام. تجاهل جيش الإسلام مبادرة أهالي وأصدقاء المخطوفين ولم يرد عليها على الإطلاق.

سيكون جيش الإسلام حاضراً في مؤتمر المُعارضة السورية المُنعقد في الرياض في الأيام المقبلة. ولذلك، نطالب أطراف المعارضة السورية بحضور قضية مخطوفي دوما الأربعة في التداولات، وأن يضغطوا على جيش الإسلام كي يقبل بمبادرة التحكيم أمام أهالي المخطوفين وأصدقائهم.

يُراهن مُرتكب الجريمة الشنعاء بحق مخطوفي دوما الأربعة وأهاليهم وأصدقائهم، وبحق الثورة السورية ككل، على أن تموت بالتقادم، على أن تُنسى، على أن تضيع وسط شلال الموت والدمار المنسكب يومياً على السوريين بفعل النظام الأسدي، والأسديين الصغار الذين سعوا لبناء إماراتهم في السنوات الأخيرة. وهذا رهان خاسر لا محالة. لا تُنسى جريمة متجددة كل يوم بحقّ مناضلين من أجل قضية أخلاقية ومُحقّة. إن رزان وسميرة وناظم ووائل في ذهن وضمير كل الديمقراطيين التحرريين المؤمنين بسوريا لا يُقتل فيها أحد، ولا تُسلب فيها حرية الناس، ولا تُهان كرامات البشر، ويُحاسب فيها المجرمون على أفعالهم. كل الملتزمين بهذه المبادئ مخطوفون اليوم مع ناشطي دوما الأربعة، وسوريا الحرة مخطوفة معهم أيضاً. الحرية لهم، ولنا، ولسوريا!

موقع الجمهورية

 

 

 

رسالة إلى سميرة الخليل/ محمد علي الأتاسي

عامان مضيا على جريمة اختطافكم في مدينة دوما، أنت ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي. عامان، لا خبر ولا تسريبات ولا رسائل تأتي من طرفكم. عامان تغيرت فيهما سورية وتغيرت الثوره وتغير العالم، وبقينا نحن، أهلك وأصدقاؤك وصديقاتك، نربي الأمل على عتبات بوابة الانتظار الطويل والثقيل.

عندما خرجت، قبل ثلاثة أعوام تقريباً، من دمشق الى الغوطة الشرقية للانضمام إلى زوجك الكاتب ياسين الحاج صالح، لم يكن قرار خروجكما هرباً من بطش النظام. فبطشه وجرائمه ظلت تلاحقكما من السماء بالطائرات والبراميل، لكنه كان قراراً واعياً يقرن القول بالفعل وينشد الخروج من فقاعة النظام الدمشقية نحو مشاركة الناس العاديين خارج أسوار المدينة حياتهم ومعاناتهم وجوعهم وصمودهم.

في دوما عشت بين الناس ومعهم، ساعدت النساء والعوائل المحتاجة، ونقلت للعالم الخارجي من خلال كتاباتك وجعهم ومعاناتهم. وحاولت عبثاً مع بعض الفصائل المسلحة أن تنالي حق زيارة سجن دوما للنساء حيث قضيت أربع سنين من عمرك معتقلة سياسية في سجون الأسد الأب.

في دوما والغوطة الشرقية،عشت وتنقلت تحت قصف الطائرات والمدافع وشاهدت بأم عينك كيف أتت البراميل والقنابل الفراغية على أحياء بأكملها، وعايشت ما تفعله سياسة الحصار والتجويع ومحاربة الناس بلقمة خبزها اليومية. كنت دائماً مذهولة ومصدومة في حضرة هذه الجريمة الكبرى ضد الإنسانية، كيف يعيش أناس آخرون على بعد كيلومترات قليلة منها حياتَهم الاعتيادية بكل هدوء وطمأنينة.

في دوما فهمت وتفهمت كيف ولماذا رفع بعضهم السلاح في وجه النظام دفاعاً عن عوائلهم وأعراضهم وأرواحهم، وفي دوما عاينت كيف أعمت سطوة السلاح البعض الآخر.

في دوما، وعلى رغم قعقعة الأسلحة وهدير الطائرات وتساقط البراميل المتفجرة، فضلت عوضاً عن البندقية أن تحملي المكنسة وتنزلي بصحبة رزان وياسين وبقية الشباب، لتنظيف شوارع المدينة وإعادة تأهيلها.

اتهمكم البعض بمحاربة طواحين الهواء كحال دون كيشوت، وخالكم البعض الآخر طوباويين كثوار الكتب والروايات التاريخية، لكنكم كنتم تمارسون مقاومتكم ومواطنيتكم على الأرض في مواجهة آلة القتل والدمار، عُزلاً إلا من قناعاتكم وإيمانكم بسورية الجديدة والمختلفة.

في دوما، على رغم المضايقات والضغوط، رفضت أنت ورزان زيتونة ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. لم يكن فعلكن هذا تحدياً للقيم والأعراف السائدة في تلك المنطقة، لكنه كان تثبيتاً لحقكما كسوريتين في ارتداء ما يوافق قناعتكما وتأكيداً على حق التنوع والاختلاف من داخل الثورة ومن أجل الثورة.

في دوما لم تكوني الامرأة السورية الوحيدة، التي تنتمي ولادة ونشأة الى الطائفة العلوية، لكنك كنت بالتأكيد المواطنة السورية الرائدة التي أرادت، عن سابق وعي وتصميم وإصرار، أن تنتمي من داخل الثورة وقبل أي انتماء آخر، إلى مواطنيتها وسوريتها وإنسانيتها.

في دوما، من أجل كل هذا وبسبب كل هذا، تم اختطافكم وتغييبكم عن أهلكم وبلدكم وثورتكم.

في دوما اليوم يا سميرة، تمتلئ السجون بالثوار الأحرار، وتساق النساء السوريات في الشوارع رهائن في أقفاص، لا لذنب سوى أنهن من الأقليات. في دوما اليوم، يعلنها زهران علوش مدوية أن الديموقراطية تحت أقدامه، ويسارع لإقامة الهدنات مع قوات النظام!

في دوما اليوم، يستمر النظام برمي براميله المتفجرة على المدنيين الأبرياء، مستعيناً بالطيران الروسي وبصواريخه القاتلة. وفي دوما اليوم لا يزال في انتظارك الكثيرون من الأصدقاء والصديقات، يعملون بصمت وإصرار من أجل ألاّ تبتلع طواحين الهواء والكلام الفارغ قيم الحرية والعدالة والكرامة التي قامت عليها الثورة السورية.

أما ياسين يا سميرة، فهو كما عهدته، يستمد قوته من دأبه على مقارعة الانتظار وإصراره على بذل المستحيل لتعودي لنا سالمة معافاة. يحتال على غيابك بالكتابة والعمل الدؤوب وتربية الأمل. لا يجافي الحياة، ويسامر من حوله من اصدقاء. يفرح حيناً وتباغته دموعه في أحيان كثيرة.

لن أحدثك اليوم عن سورية الجديدة والمنتظرة، الحاضرة الغائبة، كحضور غيابكم. سورية المختطفة والمقصاة، كاختطافكم وإقصائكم. ولن أحدثك عن سورية الحالية، التي تتسابق أمم ودول ما يسمى العالم المتحضر لتقصفها بالطائرات والصواريخ، بحجة محاربة «الدولة الإسلامية» والتطرف الإسلامي، فيما يقبع بشار الأسد هانئاً في قصره يتحضر لدخول جولة مفاوضات جديدة تتيح له كسب مزيد من الوقت ورمي مزيد من البراميل على من تبقى من ابناء الشعب السوري داخل البلد.

عزيزتي سميرة، مهما طال الغياب نحن في انتظارك وفي انتظار رزان زيتونه وفراس الحاج صالح، وفي انتظار الأب باولو ويحيى الشربجي وآلاف المغيبين والمخطوفين والمعتقلين.

أنت تعرفين ونحن نعرف والعالم من حولنا يعرف: هذه الثورة منتصرة ولو انهزمت.

* كاتب وسينمائي سوري

الحياة

 

 

 

 

عامان على اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم/ زيـاد مـاجد

تحلّ الأربعاء في 9 كانون الأول الذكرى الثانية لاختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي من مكان إقامتهم في دوما في غوطة دمشق الشرقية.

يمرّ عامان على غياب أربعة من أجمل وجوه الثورة السورية وأكثرها نزاهة وصلابة ومصداقية:

سميرة الخليل، الناشطة السياسية التي أمضت خمس سنوات في سجون الأسد الأب، ولجأت الى الغوطة بعد تحرّرها من حكم الأسد الإبن لتعمل مع ناسها وتساعد في توثيق معاناتهم مع الحصار والجوع والقصف؛

رزان زيتونة، المحامية والكاتبة التي دافعت قبل الثورة بسنوات عن المضطهدين السياسيين من النظام الأسدي (وبينهم إسلاميّين) والتي عملت بكدّ وكفاءة عالية منذ انطلاق الثورة العام 2011، إن من خلال لجان التنسيق المحلية التي أسّست مع رفاقها أو من خلال مركز توثيق الانتهاكات التي أدارت، على تنظيم المظاهرات والاعتصامات ثم على تدوين تفاصيل الحياة اليومية كما على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والحفاظ على ذاكرة الضحايا، والتي انتقلت الى دوما من العاصمة دمشق ظنّاً أنها ستكون محميّة في أرض محرّرة؛

وائل حمادة، شريك رزان في حياتها وفي النشاط السياسي والحقوقي، الذي اعتُقل وعُذّب لدى المخابرات الجوّية في دمشق خلال الثورة؛

وناظم حمادي، الشاعر والمحامي والعامل في مركز توثيق الانتهاكات والمنتقل بدوره للعيش والكتابة في الغوطة بعيداً عن مخاطر الاعتقال من قبل مخابرات النظام.

يمرّ عامان ولا خبر عنهم ولا جهد استثنائياً مبذولاً من الوسطاء الخارجيّين ذوي الصِلات والنفوذ في الغوطة للضغط على المُتّهَمين بخطفهم في دوما، المسؤولين عن الأمن فيها الذين سبق أن هدّدوا رزان بالقتل: جماعة “جيش الإسلام” بقيادة زهران علّوش، المُحضّر نفسه لأدوار قيادية وهو صاحب القوّة العسكرية الأكبر على تخوم العاصمة دمشق، المُقنّن مجهوده الحربي في الصراع مع النظام الأسدي منذ العام 2013 ترقّباً للأدوار “المستقبلية” تلك.

ما يمكن قوله أو التذكير به في هذه الذكرى الحزينة الثانية يتمحور حول ثلاثة أمور.

الأوّل، أن خطف رزان وسميرة ووائل وناظم في منطقة محرّرة من النظام ومحاصرة من قبل قواّته ولا وجود فعلياً لداعش فيها هو من أكثر الأعمال التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة جبناً وخِسّة. فالأربعة عُزّل كرّسوا سنوات من عمرهم للثورة وأمّنوا قوى مسلّحة على حياتهم، واختطافهم جاء على يد هذه الأخيرة أو بتسهيل منها، وليس على يد النظام أو داعش اللذين لا يتفاجأ أحد بأفعالهما وإجرامهما.

الثاني، أن عمليّة خطف الأربعة ضربت المكوّن المدني الديمقراطي للثورة الحاضر ميدانياً داخل سوريا ضربة قاسية. وليس تفصيلاً أن تراجع حضور هذا المكوّن في الداخل تواصل منذ ذلك الوقت فأمسى اليوم شديد الضمور، ولولا قلّة من رفاق رزان وسميرة وناظم ووائل وأشباههم لصحّ القول بانتقاله كاملاً الى خارج سوريا.

الثالث، أن أهل المخطوفين وأصدقاءهم لن يسكتوا عن هذه الجريمة حتى معرفة مصير الأربعة وإطلاق سراحهم. فإذا كان صحيحاً اليوم أن سوريا بأسرها منكوبة، وأن مئتي ألف سوري وسورية يقبعون في سجون نظام الأسد المرعبة وبضعة آلاف يعيشون في عتمة زنازين داعش ومئات في معتقلات بعض فصائل المعارضة المسلّحة والميليشيات الكردية، فإن الصحيح أيضاً أن هذا الواقع المأساوي لا يجعل الجريمة عابرةً أو يُحيلها الى “مبدأ النسبية” لأسباب عامة تنطبق أصلاً على كلّ فردّ مغيّب، ولأسباب خاصة ليس أقلّها مكانة المخطوفين ودورهم في بدايات الثورة، والبُعد السياسي للخطف، وعلاقة رزان بمنظّمات حقوق الإنسان الدولية المحترمة التي نشرت العديد من التقارير عن جرائم نظام الأسد ومجازره.

لهذه الأسباب ولغيرها، سيبقى ملف مخطوفي “دوما الأربعة” حيّاً ما بقوا في الأسر. ويُفيد المسؤولين عن الخطف أن يخلّصوا أنفسهم من العبء القانوني المتعاظم عبر إطلاق سراحهم، ومعهم جميع المدنيّين المخطوفين عندهم أو المُعتقلين بغير وجه حق. وبما أن مندوبين عنهم سيحضرون مؤتمر السعودية للمعارضة بوصفهم “قوة مقاتلة معتدلة”، فيُفيد وفود المعارضة وأجسامها أن تُثير موضوع الخطف مع الدولة المُستضيفة وتجعل من تحريرهم مطلباً ملحّاً.

… السلامة لسميرة الخليل وناظم حمادي ورزان زيتونة ووائل حمادة والحرّية لهم ولجميع المعتقلين.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى