حسان عباسصفحات سورية

الرأرأة السورية/ حسان عباس

يدل مصطلح الرأرأة في لغة الطب على عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية.

بعيداً من الطب، كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميزهم عن سائر البشر. وتتميز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها.

لم تكن هذه الحركة تعبيراً عن خلل في أجهزة التحكم بعضلات العين بقدر ما كانت تعبيراً عن قوّة أجهزة التحكم في حياة المواطن السوري وشدة التصاقها به، ويقظتها في مراقبة درجة انقياده للضوابط التي وضعتها له. لقد بلغت قوة تلك الأجهزة، ونعني الأجهزة الأمنية طبعاً، درجة من التغلغل في حياة المواطنين حد أنه بات يتخيل أن ثمّة شبحاً يقف خلف كل مَنفذ في جدار ليترصّد الكلام، ويتصيّد الهفوات وزلاّت اللسان. بل كان ذاك الشبح يقترب بعض الأحيان ليسكن في الزاوية الوحشية من العين، فما أن ينطق المرء بكلمة قد لا تتفق مع الضوابط حتى تنحرف العين نحو ذاك الشبح مسترضية، مسترجية، خائفة.

مع بدء الانتفاضة، وطوال مرحلة تحولها إلى ثورة، حافظ قسم من المواطنين على شبحهم خوفاً من شعوره بالضياع بعد أن صار مَعْلم ارتكازه في الوجود؛ وشحذ قسم آخر سكينه واستنفر للدفاع عنه لأنه اعتقد أن وجود الشبح ضمانة لبقائه. لكن القسم الأكبر، أي أولئك الذين انخرطوا عملياً أو فكرياً أو ميدانياً أو عاطفياً في الثورة، أو ناصروها، فقد تحرروا من طغيان الأشباح الجاثمة على نواصي حيواتهم وأرغموها على التلاشي، فتلاشت، بالمعنى الحقيقي لفعل تلاشى: أي أصبحت رويداً رويداً لاشيء.

غير أن أشباحاً جديدة بدأت تظهر وتتغلغل في ثنايا الأنفس، بالتوازي مع انفلاش ساحة الصراع على العنف العاري الذي تشترك في ممارسته قوات الاستبداد الرسمي، مع قوات الإرهاب الديني. أشباح تنطلق من الكثير مما يتسرّب خلسة، والأكثر مما يُعرَض علناً، عن وحشية القوى ذات الرايات السود التي تسعى للهيمنة على المجتمع بأفكارها المنحدرة من لحظات غير مجيدة في تاريخ المنطقة.

تحتكر داعش (دولة الإرهاب في العراق والشام) حصة الأسد من الأخبار المطلقة لأشباح الخوف. تنطلق هذه الأشباح من صور أبطالها المتباهين بالرؤوس المقطوعة يرفعونها بأيديهم، ومن فيديوهات إعدام طفل رفض أن ينصاع لأمر أحد رجالاتهم؛ وتنطلق من فتاوى شيوخهم المغرقة في ابتذالها حول شكل اللباس والتدخين والرقابة على ما قد يتلفظ به اللسان، ومن حكايات تصرفاتهم المنسوخة عن تصرفات المطاوعين السعوديين التي لم يسبق للمجتمع السوري أن عرفها حتى في أكثر أيامه ظلماً وكبتاً.

هذه الأمور وغيرها تشكّل عملية إعادة بناء لثقافة الخوف التي استطاع النظام تشريبها للسوريين قبل أن يستفيقوا وينتفضوا. لن يفيدنا الآن أن نناقش إن كان الخوف هو ذاته أو أن بعضه يفضل بعضه الآخر. ما يهم هو أنه في الحالتين يخسر المواطن السوري روحه، ويضيّع حقوقه، ويفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ويتحوّل إلى كائن خائف تسبق حركة عينه نحو النوافذ والأبواب والأشخاص الغرباء حركة لسانه. وتعود الرأرأة كسمة ملازمة لشخصيته.

يقول الباحثون في طب العيون إن ثمة أربعين نوعاً من الرأرأة، ربما يجب اليوم إضافة نوع جديد: الرأرأة السورية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى